إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 30 أبريل 2014

1343 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث والكاثوليك 6- إليزابث والكاثوليك




1343


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث والكاثوليك

6- إليزابث والكاثوليك


والآن جاء دور الكاثوليك ليعانوا من الاضطهاد. فقد كان محرماً عليهم-ولو انهم كانوا لا يزالون يشكلون الأغلبية-أن يقيموا الصلوات الكاثوليكية، أو يكون لهم أدب كاثوليكي. وحطمت الصور المقدسة في الكنائس بأمر الحكومة، كما أزيلت المذابح. وأرسل ستة من طلبة أكسفورد إلى "البرج" لمقاومتهم إزالة صليب يمثل صلب المسيح من كنيسة كليتهم(58)، وخضع معظم الكاثوليك للتعليمات الجديدة في حزن وأسى، ولكن عدداً كبيراً منهم آثر دفع الغرامة على حضور الطقوس الأنجليكانية. وجمع المجلس الملكي نحو خمسين ألفاً من هؤلاء "العصاة المتمردين" في إنجلترا (1580)(59). وشكا الأساقفة الأنجليكانيون إلى الحكومة من أن القداس كان يقام في بيوت خاصة، وأن الكاثوليكية بدأت تكون عبادة عامة، وأنه كان من الخطر في بعض الجهات المتحمسة أن يكون المرء بروتستانتياً(60). ووبخت إليزابث رئيس الأساقفة باركر على ترخيه (1565)، ومن ثم طبقت القوانين بشكل أشد صرامة. وأودع السجن الكاثوليك الذين حضروا القداس في كنيسة سفير أسبانيا، وفتشت البيوت في لندن-وأمر الأجانب الذين وجدوا فيها بالإدلاء ببيان عن ديانتهم، وطلب إلى الحكام أن يعاقبوا كل من يوجد في حوزته كتب المذهب الروماني الكاثوليكي (1567)(61).



ويجدر بنا ألا نحكم على هذا التشريع على أساس التسامح الديني النسبي الذي أكسبنا إياه الفلاسفة والثورات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فان المعتقدات آنذاك كانت تحارب بعضها بعضاً، وكانت متشابكة بالسياسة، وفي هذا المجال كان التسامح محدوداً. فقد اتفقت كل الأحزاب والحكومات في القرن السادس عشر على أن الانشقاق الديني كان شكلاً من التمرد السياسي. وأصبح الصراع الديني- عندما أصدر البابا بيوس الخامس- بعد إحساسه بأنه تأخر تأخيراً طويلاً مملاً- مرسوماً (1570)، لم يحرم إليزابث من الكنيسة فحسب، بل أحل رعاياها من الولاء لها كذلك، وحرم عليهم الامتثال لتنبيهاتها وأوامرها وقوانينها". ومنع انتشار المرسوم في أسبانيا وفرنسا اللتين كانتا تخطيان ود إنجلترا آنذاك، ولكن نسخة منه وضعت بطريقة سرية على باب مقر الأسقف البروتستانتي في لندن وسرعان ما كشف المجرم وأعدم، وعندما ووجه وزراء الملكة بهذا الإعلان للحرب، طلبوا إلى البرلمان سن قوانين أشد صرامة ضد الكاثوليك، وصدرت تشريعات تنص على أنه يعتبر من الجرائم التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام: قذف الملكة بأنها هرطقية أو منشقة أو مغتصبة، أو طاغية، أو إدخال مرسوم بابوي إلى إنجلترا، أو تحويل بروتستانتي إلى الكنيسة الرومانية(62). وفوضت المحكمة العليا في اختبار آراء أي فرد مشتبه فيه، وأن تعاقبه على أية مخالفة لأي قانون، لم يعاقب عليها من قبل، بما في ذلك الفسق أو الزنى(63).
ولم يجد ملوك أوربا الكاثوليك لديهم من الجرأة ما يحتجون به على هذه الإجراءات الظالمة التي شابهت إجراءاتهم إلى حد كبير، واستمر معظم كاثوليك إنجلترا على الخضوع في سلام، وأملت حكومة إليزابث في أن تؤدي العادة إلى القبول والرضا، ثم الإيمان في الوقت المناسب، ولكن حال دون هذا أن وليم ألن Allen المهاجر الإنجليزي أسس في دوي Douai (مدينة في شمال فرنسا) ثم في الأراضي الوطيئة الأسبانية، كلية ومعهداً لتدريب المبعوثين الإنجليز الكاثوليك لإرسالهم إلى إنجلترا. وأفصح عن غرضه في حماسة قائلاً:
إن دراستنا في المقام الأول... تقوم على أن نثير في عقول الكاثوليك الحماسة



والازدراء المبني على حق بالهراطقة. وإنا لنفعل هذا بأن نضع أمام أعين الطلاب الجلال الفريد الذي تتميز به طقوس الكنيسة الكاثوليكية في المكان الذي نعيش فيه... وفي نفس الوقت نعيد إلى الذاكرة النقيض المحزن الذي يحدث في وطننا، ألا وهو الدمار الشامل الذي حل بكل الأشياء المقدسة هناك... وأصدقائنا وأقربائنا، وأعزائنا، إلى جانب الأرواح التي لا تحصى، ممن هلكوا في الانشقاق والكفر، وفي الأبراج المحصنة والسجون المكتظة عن آخرها، لا باللصوص والأشرار، بل بكهنة المسيح وخدامه، بل كذلك بآبائنا وأنسبائنا وعشيرتنا. ومن ثم فليس هناك شيء يجدر بنا ألا نكابده، أكثر من أن نتعهد بعلاج ما تعانيه أمتنا من علل(64).
وعملت الكلية في دوي حتى 1578، حين استولى الكلفنيون على المدينة، ثم في ريمس، ثم في دوي ثانية (1593). وأخرج إنجيل دوي-وهو ترجمة إنجليزية عن الأصل اللاتيني الذي وضعه جيروم-في ريمس ودوي (1582-1610) وكان معداً للنشر قبل طبعة الملك جيمس بسنة واحدة. وفيما بين عامي 1574 و1585 رسمت الكلية 275 كاهناً من المتخرجين فيها، وأرسلت 268 منهم للعمل في إنجلترا. واستدعى ألن إلى روما وعين كاردينالاً. ولكن العمل في الكلية استمر، وأرسلت 170 كاهناً آخر إلى إنجلترا قبل وفاة إليزابث (1603)، ومن مجموع هؤلاء المبعوثين (438) عوقب 98 بالإعدام..
وانتقلت رياسة هذه الإرساليات إلى رجل من الجزويت، هو روبرت بارسونز Parsons، وهو رجل يتقد حماسة وجرأة وشجاعة، قوي الحجة شديد المراس في المناظر والجدل، بارع في النثر الإنجليزي. وأعلن بصراحة أن مرسوم خلع إليزابث يبرر قتلها. وصعق كثير من الكاثوليك الإنجليز لدى سماع هذا التصريح، ولكن تولوميو جالي، أحد مستشاري البابا جريجوري الثالث عشر السياسيين أبدى موافقته على هذه الفكرة(65) . وحرض بارسونز الدول الكاثوليكية على غزو


إنجلترا، ولكن السفير الأسباني في إنجلترا استنكر هذه الخطة على أنها "حماقة إجرامية"، وحرم إقرار مركوريان Everard Mercurian رئيس طائفة الجزوبث-على بارسونز التدخل في السياسة(67). ولم يرتدع، وعقد العزم على أن يغزو إنجلترا شخصياً. وتنكر في زي ضابط إنجليزي عائد من الخدمة في الأراضي الوطيئة. وهيأت له عصاه العسكرية وسترته الموشاة بالخيوط الذهبية وقبعته ذات الريش، الوصول إلى موظفي الحدود (1580)، بل انه كذلك مهد الطريق لرجل آخر من الجزوبت، ادموند كامبيون، ليتبعه في زي تاجر مجوهرات، وأقاما سراً في قلب لندن.
وزار الرجلان الكاثوليك المسجونين، ووجدا أهم يعاملون معاملة حسنة. وقد جندا معاونين علمانيين وروحانيين، وشرعا في العمل، يحثان ويشجعان الكاثوليك على أن يبقوا مخلصين للكنيسة، ويردان البروتستانت الحديثين إلى مذهبهم الأول. ولكن القساوسة المدنيين المختفين في إنجلترا، الذين روعتهم جرأة الرجلين، أنذروهما بأنهما لا بد أن يكشف أمرهما ويقبض عليهم سريعاً، وان اكتشافهما سوف يسيء أكثر إلى الكاثوليك، وتوسلوا إليهما أن يعودا إلى القارة. ولكن بارسونز وكامبيون تمسكا بموقفهما. وانتقلا من بلد إلى بلد، يعقدان الاجتماعات سراً ويسمعان الاعترافات، ويقيما القداس، ويمنحان البركات للمصلين الهامسين الذين نظرا إليهما على أنهما رسولان من عند الله. وقيل إنهما في بحر سنة من قدومهما حولا عشرين ألف مرتد(68)، وانشأ مطبعة ونشرا الدعاية، ولقد وجدت في شوارع لندن نشرات جاء فيها أنه ما دامت إليزابث قد حرمت من الكنيسة، فإنها لم تعد الملكة الشرعية لإنجلترا(69). وأرسل رجل جزويتي ثالث إلى أدنبرة ليحرض الاسكتلنديين الكاثوليك على غزو إنجلترا من الشمال. ولبى ارل وستمورلاند نداء من الفاتيكان، وأحضر معه من روما إلى الفلاندرز مجموعة من السبائك الذهبية لتمويل الغزو من الأراضي الوطيئة. وفي صيف 1581 اعتقد كثير من الكاثوليك أن قوات دوق ألفا الأسبانية سوف تعبر البحر إلى إنجلترا(70).
وتلقت الحكومة الإنجليزية تحذيرات من جواسيسها، فضاعفت جهودها للقبض


على الجزويت. أما بارسونز فقد شق طريقه عبر القنال الإنجليزي، ولكن قبض على كامبيون في يوليه 1581. ونقل إلى "برج لندن" عبر القرى المتعاطفة ولندن المعادية. وأرسلت إليزابث في طلبه وحاولت إنقاذه. وسألته: هل يعتبرها عاهله الشرعي؟ فرد بالإيجاب. وكان سؤالها الثاني هل يستطيع البابا قانوناً أن يحرمها من الكنيسة؟ فأجاب بأنه لا يستطيع أن يبت في مسألة اختلف عليها أولو العلم. فأعادته إلى البرج، مع توجيهات بحسن معاملته، ولكن سيسل أصدر أوامره بتعذيبه حتى يعترف بأسماء رفاقه المتآمرين. وبعد يومين من الكرب والألم المبرح استسلم وأدلى ببضعة أسماء، فألقى القبض على عدد آخر من الأفراد. فلما استعاد جرأته تحدى رجال الدين البروتستانت أن يشهدوا معه حواراً عاماً. وعقد الحوار في كنيسة برج لندن، بإذن من مجلس شورى الملكة، وسمح لرجال البلاط والمسجونين والجمهور بحضوره، ووقف الجزويتي على ساقيه الواهنتين عدة ساعات يدافع عن المذهب الكاثوليكي. ولم يقنع أحد الطرفين الآخر. ولكن عندما قدم كامبيون إلى المحاكمة لم يتهم بالزندقة، بل وجهت إليه تهمة التآمر على قلب الحكومة عن طريق التخريب الداخلي والغزو الخارجي. وأدين كامبيون وأربعة عشر شخصاً معه، وشنقوا في أول ديسمبر 1581.
إن أولئك الكاثوليك الذين تنبأوا بأن بعثة الجزويت سوف تغضب الحكومة وتؤدي بها إلى مزيد من الاضطهاد، اثبتوا أنهم كانوا على حق. وأصدرت إليزابث نداء إلى رعاياها، ليفصلوا بينها وبين أولئك الذين ابتغوا سبيلاً إلى عرشها أو حيائها واصدر البرلمان (1581) قانوناً ينص على أن الارتداد إلى الكاثوليكية سوف يعاقب بتهمة الخيانة العظمى، وأن أي قسيس يقيم قداساً يعاقب بغرامة قدرها مائتا مارك مع السجن لمدة عام، وأن من يمتنع عن حضور الصلوات الأنجليكانية يعاقب بدفع عشرين جنيهاً في الشهر(71)، وهذا يكفي لإفلاس الناس اللهم إلا أثرياء الكاثوليك. وكان العجز عن دفع الغرامة يستتبع الاعتقال ومصادرة الأملاك. وسرعان ما امتلأت السجون بالكاثوليك إلى حد أن القلاع القديمة استعملت بمثابة سجون(72). وساد التوتر كل الجوانب، وزاد من حدته ما كان مرتقباً من إعدام ماري ستيوارت،


والصراع المتزايد مع أسبانيا وروما. وفي يونية 1583 قدم أحد سفراء البابا إلى جريجوري الثالث عشر خطة تفصيلية لغزو إنجلترا بثلاثة جيوش في وقت واحد، من إيرلندا وفرنسا وأسبانيا، وأبدى البابا تقديره وتأييده لمشروع غزو إنجلترا، واتخذت الإجراءات اللازمة له(73). ولكن الجواسيس الإنجليز تنسموا أخبار هذه التدابير، واتخذت إنجلترا ترتيبات مضادة، وأجل الغزو.
وثأر البرلمان بمزيد من تشريعات القمع. فكل القساوسة الذين رسموا منذ يونية 1559 وظلوا على امتناعهم عن أداء "قسم السيادة"، طلب إليهم أن يغادروا البلاد في بحر أربعين يوماً، وإلا أعدموا بتهمة التآمر الموسوم بالخيانة العظمى، وشنق كل من آووهم أو أخفوهم(70). وبمقتضى هذا القانون وغيره من القوانين أعدم في عهد إليزابث 123 قسيساً و60 من العلمانيين، وربما قضى مائتان آخرون نحبهم في السجن(75). واحتج بعض البروتستانت على قساوة هذا التشريع، وارتد بعضهم إلى الكاثوليكية. وفر وليم، حفيد سيسل إلى روما (1585) واقسم يمين الطاعة للبابا(76).
وكان معظم الكاثوليك الإنجليز يعارضون أي إجراء عنيف ضد الحكومة. وفي 1585 وجهت زمرة منهم إلى الملكة إليزابث نداء أكدوا فيه ولاءهم، والتمسوا "النظر بعين العطف والرحمة إلى ما يعانون من شقاء". ولكن- وكأنما كان يؤيد ما زعمته الحكومة من أن إجراءاتها إنما تبررها الحرب- أصدر الكاردينال ألن (1588) منشوراً قصد به شحذ همم الإنجليز الكاثوليك لمساندة هجوم أسبانيا الوشيك على إنجلترا. ودمغ الملكة بأنها "ابنة زنى حمل بها وولدت في الخطيئة لأم سيئة السمعة من محظيات البلاط" واتهمها "بأنها باعت جسدها ولوثته مع ليستر وكثيرين غيره،... مما يندى الجبين لذكره، وبما لا يصدق من ألوان الشهوة والفسق"، وأهاب بالكاثوليك في إنجلترا أن يهبوا في وجه هذه الهرطقية الفاسقة اللعينة المحرومة من الكنيسة"، "ووعد بأكبر التسامح والغفران كل من يعاون في خلع "رأس الخطيئة والمقت في هذا العصر(77)" فما كان جواب الكاثوليك في إنجلترا ألا أن قاتلوا بمثل البسالة التي قاتل بها البروتستانت ضد الأسطول الأسباني" "الأرمادا".


واستمر الاضطهاد بعد هذا الانتصار، كجزء من الحرب المستمرة، وشنق 61 قسيساً و49 علمانياً فيما بين عامي 1588- 1603. واقتلع كثير من هؤلاء من المشنقة وسحبوا ونزعت أحشاؤهم وقطعوا إرباً- وهم أحياء(78). وفي خطاب شهير قدم إلى الملكة في عام وفاتها، التمس 13 قسيساً الترخيص لهم بالبقاء في إنجلترا. وتبرءوا من كل عدوان على حقها، وأنكروا أي سلطان للبابا في خلعها، ولكنهم لم يستطيعوا، في ضمائرهم، أن يعترفوا بغير البابا على رأس الكنيسة المسيحية(79). ووصلت هذه الوثيقة إلى الملكة قبل وفاتها بأيام قلائل، ولم يرد ذكر شيء عن نتيجتها، ولكنها، عن غير عمد، ولمدة قرنين من الزمان، رسمت المبادئ التي يمكن على أساسها حل المشكلة. ووافى الملكة أجلها منتصرة في أعظم صراع شهده عهد لم يلطخ بشيء أسوأ من هذا الانتصار.

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق