1226
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر وأرازموس -> الهراطقة المتعصبون
2- الهراطقة المتعصبون
إن من المفيد ملاحظة كيف انتقل لوثر من التسامح إلى العقيدة بازدياد قوته ويقينه. ومن بين "الأخطاء"، التي اتهم بها البابا ليو العاشر في منشوره Exsurge Domine لوثر، أنه قال: "إن حرق الهراطقة مخالف لإرادة الروح القدس" وفي خطاب مفتوح إلى طبقة النبلاء المسيحيين (1520) نصب لوثر "كل رجل قساً"، وأعطاه الحق في أن يفسر الكتاب المقدس، وفق حكمه الخاص، وفي ضوء فهمه الشخصي(46)، وأضاف قائلاً: "يجب أن نقهر الهراطقة بالكتب لا بالإحراق"(47) وفي مقال له بعنوان عن السلطة الزمنية (1522) كتب يقول:
إن الله هو المتصرف في الروح ولن يسمح لأحد سواه أن يسيطر عليها. ونحن نود أن نجعل هذا واضحاً جلياً، بحيث يفهمه كل إنسان، ولطي يرى نبلاؤنا وأمراؤنا وأساقفتنا إلى أي حد تبلغ حماقتهم، عندما ينشدون
إكراه الناس... على الإيمان بشيء أو بآخر... لأن الإيمان أو الكفر مسألة ترجع إلى ضمير كل إنسان... إن السلطة الزمنية يجب أن تقنع بالالتفات إلى شئونها الخاصة، وأن تسمح للناس بأن يؤمنوا بشيء أو بآخر حسبما يستطيعون، وكما يشاءون، وألا تكره أحداً على شيء بالقوة، لأن الإيمان عمل يتم بحرية ولا يكره عليه أحد... والإيمان والهرطقة لا يشتدان إلا عندما يعارضهما الناس بالقوة الغشوم، بلا سند من كلمة الله(48).
وفي خطاب بعث به لوثر إلى الأمير المختار فردريك (21 أبريل سنة 1524) طلب منه التسامح مع منتسر وآخر من أعدائه. وقال له: "يجب ألا تمنعهما من الكلام، يجب أن تكون هناك طوائف ويجب أن تتعرض كلمة الله لمعركة... دعنا نترك بين يديه تعالى الصراع، ونطلق الحرية لصدام العقول". وبينما كان الآخرون يدافعون. وفي عام 1528 عندما كان الآخرون يدافعون عن عقوبة الإعدام للامعمدانيين أشار بأنه لم يثبت عليهم الشغب فإنه يجب أن يكتفي بنفيهم.
وعلاوة على هذا فإنه أوصى في عام 1530 بأن تخفف العقوبة على جريمة الكفر من الإعدام إلى النفي. حقاً أنه تحدث في هذه السنوات الحرة كما لو كان يتمنى من أتباعه ومن الله أن يغرقوا البابويين جميعا، أو يتخلصوا منهم، بيد أن هذا كان مجرد "حملة خطابية"، لم يكن يقصدها بصفة جدية. ولقد كتب في يناير عام 1521: "لست أريد أن يدافع أحد عن الإنجيل بالعنف أو القتل"، وفي شهر يونية من ذلك العام وجه اللوم للطلبة في أرفورت، لأنهم هاجموا القساوسة، ومهما يكن من أمر فإنه لم يعارض في "تخويفهم" قليلاً لتحسين لاهوتهم(50). وفي مايو عام 1529 أدان خططاً، أعدت لتحويل الأبرشيات الكاثوليكية عنوة إلى البروتستانتية، وفي أواخر عام 1531 أخذ يلقن الناس "نحن لا نستطيع ولا يجب أن نكره أي إنسان على اعتناق العقيدة"(51).
ولكن من الصعب على رجل يمتاز بخلق متين وإيجابي مثل لوثر أن يدافع عن التسامح، بعد أن أصبح مركزه آمناً إلى حد ما. فرجل مثله، على يقين من أنه يحمل كلمة الله، لم يكن بوسعه أن يتسامح فيما يتناقض معها. وكان التحول إلى التعصب أسهل فيما يختص باليهود. فحتى عام 1537 كان لوثر يرى، أن من الواجب أن يغتفر لهم احتفاظهم بعقيدتهم الخاصة، "ما دام الأغنياء من بابواتنا وأساقفتنا والسفسطائيين من فلاسفتنا ورهباننا، هؤلاء الأجلاف الحمقى، تعاملوا مع اليهود، بأسلوب يدفع أي مسيحي إلى أن يفضل أن يكون يهودياً. والحق أني لو كنت يهودياً، ورأيت مثل هؤلاء المعتوهين والحمقى يشرحون معنى المسيحية، لآثرت أن أكون خنزيراً لا مسيحياً... وأنا أود أن أنصح كل امرئ وأرجوه أن يعامل اليهود برفق، وأن يفقههم الكتاب المقدس، وبوسعي أن أتوقع في هذه الحالة أن يجيئوا إلينا زرافات ووحداناً"(52). ولعل آرثر قد أدرك أن البروتستانتية كانت في بعض مظاهرها عودة إلى الدين اليهودي، وذلك في رفضها للرهبانية والعزوبة المفروضة، على رجال الكهنوت، وتشديدها على العهد القديم والأنبياء والمزامير، وتبنيها (باستثناء لوثر نفسه) لأخلاقيات جنسية أشد صرامة مما تتطلبه الكاثوليكية. وقد خاب أمله عندما لم يقم اليهود بحركة مماثلة نحو البروتستانتية، وساعده عداؤه لتقاضي فائدة على أن ينقلب ضد مقرضي الأموال من اليهود، ثم ضد اليهود بصفة عامة، وعندما نفى جون الأمير المختار اليهود من ساكسونيا (1537)، رفض لوثر التماساً يهودياً للتوسط في الأمر. وفي كتابه حديث المائدة جمع بين "اليهود والبابويين" ووصفهم بأنهم تعساء كفرة... "وأن الطائفتين جوربان صنعا من قطعة قماش واحدة"(53). واستغرق في سنواته الأخيرة في نوبة غضب جامح ضد السامية، وندد باليهود، ووصفهم بأنهم "أمة من أناس غلاظ كفرة متكبرين خبثاء ممقوتين" وطالب بإشعال النار في مدارسهم وهياكلهم حتى تتقوض دعائمها، وقال:
ودعوا كل مَن يستطيع أن يلقي عليهم كبريتاً وزفتاً، وإذا كان في وسع أحد أن يقذفهم بوابل من نار جهنم، فإنه يحسن صنعاً لو فعل هذا... وهذا ما يجب عمله كرامة لربنا وللمسيحية، حتى يرى الله أننا مسيحيون حقاً. ولتحطم بيوتهم وتدمر أيضاً... ولتنتزع منهم كتب صلواتهم وتلمودهم وكتابهم المقدس بأسره أيضاً، وليحرم على حاخاماتهم أن يلقنوا الناس تعاليمهم بعد ذلك من الآن فصاعداً، وإلا عوقبوا بالإعدام، ولتغلق في وجوههم الشوارع والطرق العامة، وليحرم عليهم الاشتغال بالربا، ولتؤخذ منهم كل أموالهم وكل ما يكنزون من الذهب الفضة، ولتوضع في الحفظ والصون. وإذا لم يكفِ هذا كله فليطردوا من البلاد كما لو كانوا كلاباً مسعورة(54).
ولم يحدث قط أن غلبت الشيخوخة على لوثر، ففي عام 1522 كان لا يزال متحدياً للبابوات وكتب يقول: "إني لا أقبل أن يحكم على عقيدتي أحد حتى لو كان من الملائكة، وكل مَن لا يتلقى عقيدتي بالقبول لن يستطيع الخلاص"(55). وما أن حل عام 1529 حتى استخلص فروقاً دقيقة بين العقيدتين وقال:
"لا يجوز إكراه إنسان على اعتناق عقيدة، ولكن ليس لأحد أن يلحق بها ضرراً. فليقدم خصومنا ما لديهم من اعتراضات، وليستمعوا إلى ردودنا، فإذا ما اهتدوا فيها ونعمت، وإذا لم يفعلوا فليمسكوا ألسنتهم ويؤمنوا بما يشاءون... ولكي نتجنب المتاعب يجب، إذا أمكن، إلا نعاني من التعاليم المتناقضة في نفس الولاية ويجب أن يكره الجميع بما فيهم الكفار على الامتثال على الوصايا العشر وحضور الصلاة في الكنيسة، والتلاؤم معها في ظاهر السلوك(56).
وهكذا اتفق لوثر وقتذاك مع الكنيسة الكاثوليكية في أن المسيحيين في حاجة إلى يقين ثابت ومذاهب محددة، وإلى كلمة الله الحقة، التي
يستطيعون أن يحيوا بها ويموتوا عليها، ولما كانت الكنيسة في القرون الأولى من المسيحية قد انقسمت وضعفت بكثرة الطوائف الجامحة، فقد أحست بأنها مضطرة إلى تحديد عقيدتها، وإقصاء كل المخالفين لها، ولهذا فإن لوثر، وقد راعه وقتذاك تنوع الطوائف المتنازعة، التي نبتت من بذرة الحكم الخاص، انتقل خطوة خطوة من التسامح إلى التعصب المذهبي، وقال شاكياً:
"إن كل الناس الآن متأهبون لانتقاد الإنجيل، فكل أحمق مأفون تقريباً أو كل سفسطائي مهرف، يجب أن يكون، حقاً، دكتوراً في اللاهوت". وآلمه ما وجهه إليه الكاثوليك من نقد جارح بأنه أطلق عقال فوضى، لا تجد مَن يكبح جماحها، في العقائد والأخلاقيات، وانتهى في الرأي مع الكنيسة إلى أن النظام الاجتماعي في حاجة إلى شيء من حسم المناقشة، وشيء من السلطة المنظمة، ليخدمها باعتبارها مرساة للعقيدة" فكيف يجب أن تكون هذه السلطة؟ على هذا السؤال أجابت الكنيسة بأن هذه السلطة هي الكنيسة نفسها لأن الكائن الحي وحده هو القادر على تعديل نفسه وكتبه المقدسة إلى صورة مغايرة لا مفر منها، وقال لوثر: "لا، إن السلطة الوحيدة والأخير يجب أن تكون الكتاب المقدس، مادام الجميع يسلمون بأنه كلمة الله".
وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية من هذا الكتاب المنزه عن الخطأ وجد أمراً صريحاً يزعمون أنه صدر من فم الرب، وهو يقضي بإعدام الهراطقة: "إياك أن تشفق عينك عليه وإياك أن تخفيه". حتى لو كان "أخاك أو ابنك أو زوجتك في حضنك... ولكنك يجب أن تقتله لا محالة، ويجب أن تكون يدك هي أول يد تنفذ فيه حكم الإعدام". وعلى أساس تلك الرخصة الرهيبة، تصرفت الكنيسة في إبادة طائفة الإلبيجنسن في القرن الثالث عشر، وكانت تلك اللعنة الإلهية بمثابة شهادة معتمدة لما
قامت به محاكم التفتيش من إحراق. وعلى الرغم مما اتسم به حديث لوثر من عنف، فإنه لم يصل قط إلى درجة القسوة التي عاملت بها الكنيسة مَن يخالفونها في الرأي، ولكنه سار قدماً في نطاق وحدود سلطته، لإقحامها سلمياً بقدر ما استطاع. وفي عام 1525 استعان بلوائح موجودة خاصة بالرقابة في ساكسونيا وبراندنبرج لسحق "العقائد الخبيثة" التي يعتنقها اللامعمدانيون وأنصار زونجلى، وفي عام 1530 نصح، في تفسيره للمزمور الثاني والثمانين، الحكومات بإعدام كل الهراطقة، الذين ينادون في عظاتهم بإثارة الشغب، أو مناهضة الملكية الخاصة، وقال: "إن هؤلاء الذين يعارضون في تعاليم مادة واضحة في العقيدة... مثل المواد التي يحفظها الأطفال عن العقيدة، كالمادة التي تقول "إذا نادى أي واحد في تعاليمه بأن المسيح ليس إلهاً بل مجرد إنسان"(60). ورأى سباستيان فرانك أن هناك حرية في التعبير عن الرأي والعقيدة بين الأتراك أكثر مما يوجد في الولايات اللوثرية، وانضم ليوجد من أنصار زونجلى إلى كارلشتادت في وصف لوثر بأنه بابا آخر. ومهما يكن من أمر فإننا يجب أن نلاحظ أن لوثر عاد إلى سابق شعوره بالتسامح في أخريات أيام حياته. ولقد نصح في آخر عظة له بالتخلي عن كل المحاولات للقضاء على الهرطقة عنوة، وقال: "يجب تحمل الكثالكة واللامعمدانيين في صبر حتى يوم القيامة، عندما يتولى أمرهم المسيح"(61).
وقد صارع مصلحون دينيون آخرون لوثراً، وفاقوه في مطاردة الهراطقة فقد حث بوسر الستراسبورجي السلطات المدنية في الولايات البروتستانتية على إبادة كل مَن يعتنق ديناً "زائفاً"، وقال: "إن مثل هؤلاء الناس أسوأ من القتلة، وأنه يجب القضاء حتى على زوجاتهم وأولادهم وماشيتهم"(63)، وقبل ميلانكتون، الرقيق الحاشية نسبياً، أن يرأس التفتيش العلماني الذي قمع حركة اللامعمدانيين في ألمانيا بالسجن أو الموت. وتساءل قائلاً: "لماذا نشفق على أمثال هؤلاء الناس أكثر من الله؟". ذلك لأنه كان مقتنعاً بأن
الله قد قضى على كل اللامعمدانيين بعذاب جهنم(63). وأوصى باعتبار رفض تعميد الطفل، أو رفض الخطيئة الأصلية، أو عدم الأيمان بالوجود الحقيقي للمسيح في القربان المقدس، جرائم تستحق أن يعاقب عليها بالإعدام(64). وأصر على عقوبة الموت لكل طائفي يعتقد أن الكفرة قد يظفرون بالخلاص، أو لكل مَن يشك في أن الإيمان بأن المسيح يمكنه، باعتباره الذي كفّر عن خطايا البشر، أن يغير آثماً بفطرته إلى رجل من الأبرار(65). وهلل، كما سوف نرى، لإعدام سيرفيتوس. وطالب الحكومة بأن تجبر كل الناس على حضور الصلوات الدينية البروتستانتية بانتظام(66). وطالب بالقضاء على كل الكتب، التي تعارض أو تعوق انتشار التعاليم اللوثرية، وعلى هذا فإن كتابات زونجلى وأتباعه وضعت رسمياً في قائمة الكتب الممنوعة في فيتنبرج(67)، وبينما كان لوثر ينفي الكثالكة من المناطق التي يحكمها الأمراء اللوثريون، آثر ميلانكتون توقيع العقوبات البدنية، واتفق الاثنان في الرأي بأن السلطة المدنية مرتبطة بواجب نشر "شريعة الرب" ورفع شأنها. أي رفع شأن مذهب لوثر(68). ومهما يكن من أمر فإن لوثر أشار بأنه حيث توجد طائفتان في ولاية فإن الأقلية يجب أن تخضع للأغلبية: ففي إمارة تغلب عليها الكثلكة يجب على البروتستانت أن يخضعوا ويهاجروا، وفي مقاطعة ترجح فيها كفة البروتستانت يجب على الكثالكة أن يخضعوا ويرحلوا، وإذا قاوموا فإنهم يجب أن يعاقبوا بشدة(69).
وقبلت السلطات البروتستانتية، وهي في هذا قد حذت حذو السوابق الكاثوليكية، الالتزام بالحفاظ على المواءمة الدينية.
وأصدر مجلس المدينة في أوجسبورج (18 يناير سنة 1537)، مرسوماً يحرم العبادة الكاثوليكية ويقضي بنفي كل مَن لا يقبل اعتناق العقيدة الجديدة، بعد ثمانية أيام.
وبعد انقضاء هذه المهلة من العفو بعث المجلس بالجند للاستيلاء على
كل الكنائس والأديرة، وأزيلت كل المذابح والتماثيل، وأقصي كل القساوسة والرهبان والراهبات. وأصدرت(70) فرانكفورت - الواقعة إلى الماين - قانوناً مماثلاً، وانتشرت موجة الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية، وتحريم إقامة الصلوات الكاثوليكية في الولايات التي يسيطر عليها البروتستانت(71)، وانتهج البروتستانت فرض رقابة على المطبوعات وكانت قد فرضت فعلاً في مناطق كاثوليكية، وعلى هذا أصدر جون الأمير المختار في ساكسونيا، بناء على طلب لوثر وميلانكتون، (عام 1528) منشوراً يحرم نشر أو بيع أو قراءة الأدب الزونجلي أو اللامعمداني، أو التبشير بعقائدهما أو تعليمهما وجاء فيه: "على كل مَن يعلم بحدوث شيء من هذا، أو قيام أي أحد بعمله، سواء أكان أجنبياً أو من المعارف، أن يبلغ إلى... الحكام في هذا المكان لكي يلقى القبض على الآثم ويعاقب في الوقت المناسب... وهؤلاء الذين يعلمون بارتكاب مخالفات لهذا الأمر... ولا يقومون بالإبلاغ عنها، يعاقبون بالإعدام أو مصادرة ممتلكاتهم"(72).
وتبنى البروتستانت سياسة الحرمان من غفران الكنيسة والرقابة أيضاً مقتدين في هذا بالكثالكة. وأعلن حزب أوجسبورج عام 1530 حق الكنيسة اللوثرية في حرمان كل عضو يرفض الاعتراف بعقيدة لوثرية أساسية(73) من غفران الكنيسة. وقال لوثر مفسراً: "على الرغم من أن الحرمان من غفران الكنيسة في البابوية قد أسيء استعماله بطريقة مخجلة، وجعل منه البابويون مجرد تعذيب للناس فإننا يجب أن نعاني منه حتى نكفر، ولكن يجب أن نحسن استخدامه كما أمر المسيح"(74).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق