إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 30 أبريل 2014

1342 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث والدين 5- إليزابث والدين






1342


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث والدين

5- إليزابث والدين


احتدمت معركة الإصلاح الديني المريرة داخل البلاط الملكي والأمة، وأثارت مشكلة أتجه تفكير كثير من الناس إلى أنها ستربك المملكة وتدمرها، فقد كان ثلثا إنجلترا، وربما ثلاثة أرباعها من الكاثوليك(39). وكان معظم القضاة والحكام وكل رجال الدين من الكاثوليك. وكان البروتستانت محصورين في الثغور الجنوبية والمدن الصناعية، وكانت لهم الغلبة في لندن حيث تضخم عددهم بسبب اللاجئين إليها من وجه الظلم في القارة. أما في المقاطعات الشمالية والغربية- وكلها زراعية تقريباً- فكان عددهم لا يكاد يذكر(40). وكانت روح البروتستانت على أية حال، أشد حماساً وغيرة من الكاثوليك بشكل لا يقاس. وفي 1559 نشر جون فوكس كتاباً يصف فيه، في غضب شديد، معاناة البروتستانت في العهد السابق، وترجمت مجلدات الكتاب في 1563 تحت اسم Actesand Monuments (الأعمال والآثار)، وكانت معروفة بين الناس باسم "كتاب الشهداء" وكان لها أثر مثير في نفوس البروتستانت لأكثر من قرن من الزمان. وكان للبروتستانتية


?

في القرن السادس عشر الطاقة المحمومة لفكرة جديدة تناضل من أجل المستقبل، على حين كان للكاثوليكية قوة المعتقدات والأساليب التقليدية المتأصلة في أعماق الماضي.
وفي الأقلية الآخذة في الانتشار زاد الاضطراب الديني من نزعة الشك، بل حتى الإلحاد، هنا وهناك. وباتت العقول العملية الواقعية شكاكة في كل النظريات اللاهوتية، بسبب الصراع بين المذاهب، والنقد المتبادل بينها، وتعصبها الدامي والتناقض بين الإيمان الذي يجهر به المسيحيون وبين سلوكهم. وإليك ما قال روجر أسكام في "المعلم" 1563:
إن الإيطالي الذي ابتدع لأول مرة المثل الإيطالي ضد رجالنا الإنجليز الذين تشبهوا بالإيطاليين، لم يعد يقصد زهوهم وخيلاءهم في حياتهم أكثر مما يقصد رأيهم القبيح في الدين. وإنهم لأشد اعتداداً بعظات شيشرون منهم برسائل القديس بولص، وبقصة من بوكاشيو منهم بقصص الكتاب المقدس، وانهم ليعتبرون أسرار المسيحية من قبيل الأساطير الخرافية، ويجعلون المسيح وإنجيله في خدمة السياسة المدنية، ثم إن المذهبين كليهما (البروتستانتية والكاثوليكية) لا يأتيان خطأ إليهم. وفي الوقت المناسب يرفعون من شأنهما علانية، وبين الجدران يسخرون منهما سراً.... وأنى استطاعوا سبيلاً، ومع رفاقهم، يضحكون أو يزدرون البروتستانتية والبابوية. ولا يلقون بالاً إلى الكتب المقدسة، وانهم ليهزأون بالبابا، ويشكون مر الشكوى، وبألفاظ جارحة، لوثر.... إن المعبود الذي يرتضون ليس إلا مسرتهم الشخصية ونفعهم الخاص. ومن ثم فانهم يعلنون في وضوح أنهم يتبعون في حياتهم مدرسة الأبيقوريين، وأنهم من الناحية النظرية ملحدون(41).
وشكا سيسل (1569) من "أن الساخرين من الدين والأبيقوريين والملحدين موجودون في كل مكان(42)". وفي 1571 صرح جون ستريب Strype "هناك كثيرون تخلوا عن الكنيسة تماماً، ولم يعودوا يحضرون لأداء واجباتهم الدينية(43)" وذهب جون ليلي Lyly، (1579) إلى أنه "لم يكن بين الوثنيين الهمجيين مثل هذه


الفرق الدينية، ولا مثل هذه المعتقدات الخاطئة بين الكفار، مثل ما هو حادث الآن بين العلماء(44)". وألف علماء اللاهوت وغيرهم كتباً كثيرة ضد "الإلحاد" وهو يعني على أية حال الإيمان بالله، وعدم الإيمان بألوهية المسيح. وفي 1579، 1583، 1589 أحرق بعض الأفراد لإنكارهم ألوهية المسيح(45). واشتهر عدد من الروائيين- جرين، كد Kyd ومارو- بأنهم ملحدون. إن الدراما في عصر إليزابث- وهي فيما عدا ذلك تصور الحياة تصويراً شاملاً- تتضمن أقل القليل عن صراع المعتقدات، ولكنها تعرض الأساطير الوثنية أكبر عوض.
وفي رواية شكسبير Love's Labiur's Lost هناك بيتان غامضان:
أي تناقض هذا؟ السواد شارة الجحيم،

ولون السجن ومدرسة الليل.

وفسر كثيرون(46) العبارة الأخيرة على أنها تشير إلى الاجتماعات التي كان يعقدها والتر رالي، والعالم الفلكي توماس هالايوت، والعالم لورنس كيمس، وربما الشاعران مارلو وتشابمان، وغيرهم، وفي دار رالي الريفية في شربورن، لدراسة الفلك والجغرافيا والكيمياء والفلسفة واللاهوت. وقال أنتوني رود عالم الآثار عن هاريوت- ومن الواضح أنه الزعيم الفخري لهذه الجماعة- "إنه كانت لديه أفكار غريبة عن الكتب المقدسة، وكان دائماً يحط من قدر القصة القديمة عن الخلق (التكوين)..... وألف لاهوتاً نبذ فيه التوراة". لقد آمن بالله، ولكنه أنكر الوحي وألوهية المسيح(47)" وكتب روبرت بارسونز- وهو من الجزويت- في 1562 عن "مدرسة والتر رالي للإلحاد..... حيث كانت السخرية من موسى وعيسى المخلص، والتوراة والإنجيل على حد سواء، ولقن التلاميذ أن يطرحوا الرب وراء ظهورهم(48)" واتهم رالي بأنه استمع إلى بحث قرأه مارلو عن "الإلحاد". وفي مارس 1594 اجتمعت لجنة حكومية في Cerne Abbes في دورست، للتحقيق في الشائعات راجت عن مجموعة من الملحدين في الأماكن المجاورة، ومن بينها موطن رالي. ولم يؤد التحقيق إلى إجراء معروف لدينا اليوم. ولكن تهمة الإلحاد وجهت إلى رالي أثناء محاكمته (1603)(49). وفي



مقدمة كتابه "تاريخ العالم" أشار إلى إيمانه بالرب، على أنه نقطة يتناولها بالتفصيل فيما بعد.
وحامت الشبهات في حرية الفكر حول إليزابث نفسها. ويقول جون ريتشارد جرين "لم توجد قط امرأة مثلها مجردة تجرداً تاماً من أية عاطفة نحو الدين(50)". ويقرر المؤرخ الإنجليزي فرود "أن إليزابث لم يكن لديها اقتناع عاطفي واضح.. وأنها، وهي كان إيمانها بصدق المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي ضعيفاً على حد سواء، كانت تنظر باحتقار موسوم بالتسامح إلى كل الأفكار والنظريات اللاهوتية(51)". لقد دعت الله بأغلظ الأيمان التي أزعجت وزراءها. أن يدمرها إذا هي نقضت عهدها بالزواج من ألنسون، على حين أنها فيما بينها وبين نفسها سخرت من مزاعمه بطلب يدها(52). وصرحت الملكة لمبعوث أسباني بأن الفرق بين المذاهب المسيحية المتناحرة لم يكن سوى "شيء تافه"، ومن ثم استخلص أنها ملحدة(53).
وعلى الرغم من كل شيء، فإنها، مثل كل الحكومات تقريباً قبل 1789، اعتبرت كقضية مسلم بها، أن شيئاً من الدين وشيئاً من مصدر القوة الخارقة وشيئاً من الوازع الأخلاقي، كل أولئك أمور لا يمكن الاستغناء عنها من أجل النظام الاجتماعي والاستقرار في الدولة. ولفترة من الوقت، حتى دمت مركزها، بدا أنها تتردد، وتلاعبت على آمال زعماء الكاثوليك في احتمال أن يكسبوها في مذهبهم العام، لقد أحبت الطقوس الكاثوليكية وعزوبة رجال الدين الكاثوليك، ودراما القداس، ولربما كان من المحتمل أن تعقد أواصر السلام مع الكنيسة، لولا أن هذا كان يحمل في طياته الخضوع للبابا. وارتابت في الكاثوليكية على أنها قوة أجنبية يمكن أن تؤدي بالإنجليز إلى وضع إخلاصهم للكنيسة فوق ولائهم للملكة. ولقد ترعرعت في أحضان بروتستانتية والداها، وهي تعني الكاثوليكية بغير البابوية، وهذا، أساساً، هو ما عقدت العزم على إقراره من جديد في إنجلترا. وراودها الأمل في أن تهدئ الطقوس شبه الكاثوليكية في كنيستها الإنجليزية من روع الكاثوليك في الريف، على حين نبذ البابوية البروتستانت في المدن، وتشكل

الرقابة الحكومية على التعليم الجيل وفق هذه التسوية التي دبرتها إليزابث، فيهدأ هذا الصراع الديني الذي يمزق البلاد، ويستتب السلام. إنها اتخذت من ترددها في موضوع الدين، مثل ترددها في أمر الزواج، وسيلة لخدمة أغراضها السياسية، وأبقت على أعدائها الأقوياء مذهولين ممزقين حتى أصبح في مقدورها أن تواجههم بحقيقة بارعة كاملة.
وحرضتها قوى كثيرة على استكمال الإصلاح الديني. وكتب إليها المصلحون الدينيون في أنحاء القارة شاكرين لها سلفاً إعادة العبادة الجديدة. وأثرت فيها رسائلهم. وكان الذين استولوا على الأراضي التي كانت ملكاً للكنيسة من قبل، ويرجون تسوية بروتستانتية. وأغرى سيسل إليزابث بان تجعل من نفسها زعيمة لأوربا البروتستانتية في لندن مشاعرهم بتحطيم تمثال للقديس توماس وإلقائه في عرض الطريق. وكان أول برلمان في عهدها- 23 يناير- 8 مايو (1559) بروتستانتياً بأغلبية ساحقة، وتمت الموافقة على الاعتمادات التي طلبتها دون تحفظ أو إبطاء. ومن أجل توفيرها فرضت ضريبة على كل الأفراد، دينيين أو علمانيين. وصدر قانون التنسيق الجديد Act Of Uniformity (18 أبريل 1559) وبمقتضاه أصبح "كتاب كرامر للصلوات العامة"، بعد مراجعته، هو قانون الطقوس الإنجليزية، وحرم كل ما عداه من الطقوس الدينية، وألغي القداس، وطلب إلى كل الإنجليز حضور صلوات يوم الأحد في الكنيسة الأنجليكانية، أو دفع غرامة قدرها شلن لمعونة الفقراء. وفي 29 أبريل صدر "قانون السيادة" الجديد الذي نص على أن تكون إليزابث الحاكم الأعلى لإنجلترا في المسائل الروحية والزمنية على السواء. ووضع "قسم السيادة" يعترف بالسيادة الدينية للملكة، وكان من المحتم أن يؤدي هذا القسم كل رجال الدين والمحامين والمعلمين، والمتخرجين في الجامعات والحكام والقضاة وكل موظفي الكنيسة والتاج، وعهد إلى محكمة كنسية ذات سلطة عليا، تختار الحكومة أعضاءها، بإجراء التعيينات الكبرى في الكنيسة واتخاذ القرارات الكنسية. وأي دفاع عن سلطة البابا على إنجلترا كان عقابه السجن مدى الحياة لأول مخالفة والموت للثانية (1563). ولم تأت سنة 1590 حتى كانت

كل الكنائس الإنجليزية بروتستانتية.
وزعمت إليزابث أنها لم تضطهد حرية الرأي، فقالت أن لكل إنسان أن يتمتع بحرية الفكر وحرية العقيدة كما يشاء، شريطة أن يطيع القانون؛ وان كل ما تتطلبه هو الانسجام الخارجي، حرصاً على وحدة الأمة. وأكد لها سيسل: "أن هذه الدولة لن تستشعر الأمان والاطمئنان، ما دام فيها تسامح نحو عقيدتين(54)"- ولو أن هذا لم يمنعها من طلب التسامح مع البروتستانت الفرنسيين في فرنسا الكاثوليكية(55). ولم يكن لديها اعتراض على الرياء المسالم، على ألا تكون حرية الرأي هي حرية الكلام.ومن ثم فأن الوعاظ الذين لم يشاركوها وجهات نظرها في أي موضوع هام كان مصيرهم أن تخرس ألسنتهم أو يطردوا(56). وحددت من جديد قوانين الهرطقة وطبقت. وحرم من حماية القانون طائفة الموحدين (الذين يقولون بالتوحيد لا التثليث) والقائلين بإعادة تعميد البالغين(57). وأعدم أثناء حكم الملكة خمسة من المهرطقين، وهذا رقم متواضع في ذاك الزمان.
وحدد مجمع من رجال اللاهوت في 1563 المذهب الجديد. واتفق رأي الجميع على "القضاء والقدر"، فان الله بمحض مشيئته، قبل خلق الدنيا، ودون اعتبار لمزايا الإنسان أو مثالبه، كان قد اصطفى أفراد ليكونوا من الصفوة التي كتب لها الخلاص، على حين ترك بقية البشر من الهالكين الملعونين. وتقبلوا فكرة لوثر عن الخلاص بالإيمان بنعمة الله، ودم المسيح المخلص، على أنهم فسروا "القربان المقدس" بالمعنى الذي ذهب إليه كلفن، أي أنه اتصال روحي أكثر منه مادي بالمسيح. وبمقتضى قرار من البرلمان (1566) انتظمت المواد التسع، والثلاثون العقيدة الجديدة، وأصبحت إجبارية على كل رجال الدين في إنجلترا، ولا تزال تعبر عن المذهب الأنجليكاني الرسمي.
وكذلك كانت الطقوس الجديدة حلاً وسطاً. فألغي القداس، ولكن مما أزعج البيوريتانز أن صدرت التعليمات إلى رجال الدين بارتداء الملابس الكهنوتية البيضاء عند تلاوة الصلوات وعند تقديم القربان المقدس. وكان يجب تناول القربان ركوعاً- في شكلي الخبز والنبيذ. واستبدل بالتوسل بالقديسين الاحتفال سنوياً بذكرى أبطال



البروتستانتية، واستبقى تثبيت العماد ورسامة الكهنة على أنهما طقوس مقدسة، ولكن لا يعتبران من الأسرار المقدسة التي عينها السيد المسيح، وشجع الاعتراف للكاهن في حالة دنو الأجل فقط. واحتفظ كثير من الصلوات بصيغته الكاثوليكية الرومانية، ولكنها اكتست بالرداء الإنجليزي، وأصبحت جزءاً بارزاً عظيماً من آداب الأمة. ولمدة أربعمائة سنة، نفخت هذه الصلوات والتراتيل التي تتلوها الفرق أو الكاهن في الكاتدرائيات الفسيحة الفخمة، أو في كنيسة الأبرشية البسيطة- نقول نفخت في روح الأسرات الإنجليزية وحياتها، وزودتها بالسلوى والتهذيب الخلقي والهدوء العقلي.

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق