1228
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر وأرازموس -> أرازموس وحاشية على أ
4- أرازموس: حاشية على آرائه
(1517 - 36)
إن رد الفعل عند أرازموس بالنسبة إلى الإصلاح الديني يثير مناقشة حامية بين المؤرخين والفلاسفة. ترى أية طريقة خير للبشرية - هجوم لوثر المباشر على الكنيسة أم سياسة أرازموس التي تعتمد على المصالحة السلمية والإصلاح الديني على درجات؟ إن الإجابات تكاد تحدد نمطين من الشخصية: هما المحاربون "ذوو العقول الجامدة" الذين يعتصمون بالعمل والإرادة، والمهادنون "ذوو العقول المرنة في الفكر والشعور". لقد كان لوثر رجل عمل أساساً. وكانت أفكاره قرارات وكتبه أفعالاً. وكان تفكيره في
مضمونه لا يختلف عن تفكير رجال القرون الوسطى الأولى، ولكنه في النتيجة يشبه تفكير المحدثين الأوائل، ولقد عاونت شجاعته وحسمه للأمور القومية أكثر من لاهوته على تأصيل العصر الحديث. وكان لوثر يتحدث بلهجة ألمانية قوية، تنبض بالرجولة إلى الشعب الألماني، فأثار أمّةً ودفعها إلى القضاء على سلطة دولية، أما أرازموس فكان يكتب بلغة لاتينية رشيقة رقيقة لجمهور دولي، إلى صفوة عالمية من خريجي الجامعات. وكان شديد الحساسية لا يصلح لأن يكون رجل عمل، يمتدح السلم ويتوق إليه، بينما كان لوثر يشهر الحرب ويجد فيه متعة. كان إماماً في الاعتدال، يستهجن التطرف والمغالاة... وهرب من ميدان العمل إلى ميدان الفكر، ومن اليقين المتسم بالتهور إلى الشك المنطوي على الحذر، وعرف الكثير ليرى أن الحق أو الخطأ ليسا جميعاً في جانب واحد، ورأى الجانبين كليهما، وحاول أن يوفق بينهما فسحق في وسطهما.
وصفق لمقالات لوثر، وأرسل في مارس عام 1518 نسخاً منها إلى كوليه ومور، وكتب إلى كوليه يقول: "إن المحكمة الرومانية قد كشفت عن وجهها برقع الحياء. أي شيء يفوق في القحة صكوك الغفران هذه؟"(85) وكتب في أكتوبر إلى صديق آخر يقول:
"سمعت أن لوثر يتفق معه في الرأي كل الناس الصالحين، وإن قيل إن كتاباته ليست كلها في مستوى واحد. وأعتقد أن هذه المقالات سوف يرضى عنها الجميع، اللهم إلا قلة ضئيلة لا تتفق معه في رأيه حول المطهر، الذي يعتمدون عليه في كسب عيشهم، ولا يريدون أن ينتزع من أيديهم... وأنا أدرك أن الحكومة الملكية للكاهن الأعظم الروماني (وهذا حل تلك الحكومة البابوية الآن) هي وباء يجتاح العالم المسيحي، على الرغم من أن وعاظاً يفتقرون إلى الحياء يمتدحونها في كل الظروف، ومع ذلك فإني لا أكاد أعرف هل من اللائق أن أمس هذا القرح المكشوف، لأن هذا
فرض واجب على الأمراء، ولكني أخشى أن يتآمروا مع الحبر الأعظم للحصول على قدر من الغنائم"(86).
وعاش أرازموس الجانب الأكبر من حياته وقتذاك في لوفان، وأسهم في تأسيس Collegium Trilingue قي الجامعة، بكراسي أستاذية في اللاتينية واليونانية والعبرية، وفي عام 1519 منحه شارل الخامس معاشاً، فاشترط أرازموس لقبوله أن يحتفظ باستقلاله جسداً وعقلاً، ولكنه إذا كان بشراً، فإن هذا المعاش، مضافاً إليه ما كان يتلقاه من كبير أساقفة وارهام ولورد ماونتجوي، قد قام بدور ما في صياغة موقفه نحو الإصلاح الديني.
وفي الوقت الذي جاوزت فيه ثورة لوثر مرحلة نقد بيع صكوك الغفران إلى رفض الاعتراف بالبابوية والمجالس الدينية، تردد أرازموس، فقد كان يأمل أن تتقدم عجلة إصلاح الكنيسة بالالتجاء إلى الإرادة الواعية للبابا ذي النزعة الإنسانية. كان لا يزال يجل الكنيسة باعتبارها (خيل إليه هذا) مؤسسة للنظام الاجتماعي والأخلاق الفردية لا بديل عنها، وعلى الرغم من اعتقاده أن لاهوت المحافظين قضى عليه ما تخلله من لغو، فإنه كان لا يثق بحكمة الإفتاء الفردي أو الشعبي لتطوير شعيرة أو عقيدة أكثر نفعاً، ذلك أن رجاحة العقل لا تتأتى إلا عن طريق تقطر الاستنارة العقلية، من الفئة القليلة المتفقهة، إلى الكثرة الغالية. وأقر بأنه كان له دور في تمهيد الطريق أمام لوثر، فقد كانت رسالته "الثناء على الطيش"، التي كان يتداولها وقتذاك الآلاف من القراء في أرجاء أوروبا، تسخر من الرهبان والمشتغلين باللاهوت، وتشدد من لذع خطابات لوثر المقذعة الجافية، وعندما اتهمه الرهبان المشتغلون باللاهوت بأنه وضع البيضة التي فقست تحت لوثر، رد عليهم في تأفف: "نعم ولكن البيضة التي وضعتها خرجت منها دجاجة، أما البيضة التي فقسها لوثر فقد خرج منها ديك من ديوك
المصارعة"(87). ولقد قرأ لوثر نفسه رسالة "الثناء على الطيش" كما قرأ تقريباً غيرها من كل ما نشره أرازموس، وقال لأصدقائه إنه إنما يقوم بصياغة مباشرة لما قاله عالم الإنسانيات الشهير، أو ما ألمح إليه منذ سنوات عديدة مضت، وكتب في 18 مارس عام 1519 إلى أرازموس في تواضع واحترام ينشد صداقته وعونه ضمناً.
وكان على أرازموس وقتذاك أن يتخذ قراراً حاسماً في حياته. وكان في مأزق بين أمرين أحلاهما مر. إذا تخلى عن لوثر فسوف يوسم بالجبن، وإذا اشترك مع لوثر في عدم الاعتراف بالكنيسة الرومانية فإنه لن يخسر فحسب بل ثلاثة مرتبات، ويفقد ما أسبغه عليه ليو العاشر من حماية ضد المشتغلين باللاهوت، الذين يعملون للحيلولة دون نشر العلم، وسيجد نفسه مضطراً إلى التخلي عن خطئه واستراتيجيته بشأن إصلاح الكنيسة عن طريق تحسين العقول والأخلاقيات في الرجال دوي النفوذ. وكان قد أحرز (كما اعتقد) تقدماً حقيقياً في هذا المجال مع البابا ورئيس الأساقفة وارهام والأسقف فيشر ونائب الأسقف كوليه وتوماس مور وفرانسس الأول وشارل الخامس، ولم يرض هؤلاء الرجال بالتأكيد أن يتخلوا عن الكنيسة. حقاً إنهم كانوا على استعداد لأن يحجموا عن تقويض نظام كان في نظرهم مرتبطاً بطريقة مبهمة مع حكومة الأمراء في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي، ولكن يمكن تجنيدهم في حملة لتخفيف الخزعبلات والأهوال في عقيدة راجحة الكفة، وفي تطهير رجال الدين وتعليمهم، وفي السيطرة على الرهبان وإخضاعهم للتبعية، وفي حماية حرية الفكر من أجل تقدم العقل.
إن تغيير ذلك البرنامج بانقسام العالم المسيحي انقساماً شديداً إلى شطرين متحاربين، وبلاهوت، يأخذ بالقدرية وبعدم أهمية الأعمال الصالحات، سوف يبدو في نطر هؤلاء الرجال، بل وبدا لأرازموس، الطريق إلى
الجنون. وكان يراوده الأمل في استعادة السلام إذا خفضت كل الأطراف أصواتها، وأشار في فبراير عام 1519 على فروبين ألا ينشر المزيد من مؤلفات لوثر، لأنها تفيض بالعبارات الملتهبة(88). وكتب في أبريل إلى الأمير المختار فردريك، يحثه على حماية لوثر باعتباره رجلاً ارتكب الناس في حقه من الإثم أكثر مما ارتكب هو من آثام(89). وأخيراً (30 مايو) رد على لوثر، وقال:
"يا أعز أخ لي في المسيح، إن رسالتك إلي تظهر حدة ذهنك وتنبض بروح مسيحية قد أسعدتني أكثر من كل شيء. أنا لا أستطيع أن أعبر عن مدى الاضطراب الذي تحدثه كتبك هنا. إن هؤلاء الناس لا يمكن، بأي وسيلة، ألا يراودهم الشك في أنني عاونتك في كتابة مؤلفاتك وإني، كما يصفونني، حامل لواء حزبك... ولقد أقسمت لهم أني لا أعرفك بتاتاً، وأني لم أقرأ كتبك، وأني لا أستحسن كتاباتك ولا أستهجنها، ولكن عليهم أن يقرءوها قبل أن يتحدثوا بصوت مرتفع، ومن رأيي أيضاً أن الموضوعات التي كتبت عنها ليست من النوع الذي يصلح للخطابة من فوق المنابر، وبما أن من المسلم به أنك طاهر الذيل، فلا محل للتنديد بك أو صب اللعنات عليك. وكان هذا بلا جدوى فقد ظلوا يتميزون غضباً... وأنا نفسي الهدف الرئيسي للعداء والكراهية، وأما الأساقفة فإنهم في صفي بوجه عام...
وأما أنت فإن لك أصدقاء أوفياء في انجلترا، حتى بين أكبر الشخصيات هناك. ولك أصدقاء هنا أيضاً... أنا بصفة خاصة. وأما بالنسبة لي فإني أشغل نفسي بالأدب، وأنا أقصر عليه جهودي بقدر الإمكان، وأتحاشى الخلافات الأخرى، ولكني بصفة عامة أعتقد أن اللطف مع الخصوم أشد تأثيراً من معاملتهم بالعنف... ولعل من الحكمة أن تندد بهؤلاء الذين يسيئون استخدام سلطة البابا بدلاً من أن تحصى أخطاء البابا نفسه. وهذا ما يجب عمله مع الملوك والأمراء. والأنظمة القديمة لا يمكن انتزاعها من
جذورها في لحظة. والمناقشة الهادئة قد تفيد أكثر مما تفعل الإدانة الجماعية، تجنب كل مظهر من مظاهر الشغب. واحتفظ ببرود أعصابك ولا تستسلم للغضب. لا تكره أحداً. لا تفرح بالضجة التي أثرتها. لقد اطلعت على كتابك "تعليق على المزامير" وسررت به كثيراً... ألا فليهبك المسيح روحاً من عنده من أجل مجده ومن أجل خير العالم (90).
وعلى الرغم من هذا الاحتياط في المواجهة بين الضدين، فإن المشتغلين باللاهوت في لوفان استمروا في مهاجمة أرازموس، باعتباره منبع الفيضان اللوثري. ووصل إلياندر في الثامن من أكتوبر عام 1520، وعلق النشرة البابوية التي تنص على حرمان لوثر من غفران الكنيسة، وسجل أن أرازموس يعد محرضاً سرياً على الثورة. وقبل العلماء النحارير زعامة إلياندر وأقصوا أرازموس من كلية لوفان (9 أكتوبر عام 1520)، فانتقل إلى كولون، وهناك كما رأينا، دافع عن لوثر في مداولة مع فردريك صاحب ساكسونيا (5 نوفمبر)، وفي الخامس من ديسمبر أرسل إلى الأمير المختار بياناً عرف باسم Axiomata Erasmi جاء فيه إن التماس لوثر أن يحاكم أمام قضاة لا يعرفون التحيز طلب معقول، وأن الصالحين من الناس والمحبين للإنجيل هم هؤلاء الذين كانت إساءتهم للوثر أقل من غيرهم، وأن الناس يتعطشون إلى معرفة الحقيقة الإنجيلية، (أي الحقيقة التي تعتمد إلى الإنجيل فحسب) وأنه لا يمكن قمع(91) مثل هذا المزاج الذي انتشر انتشاراً واسعاً. ودبج بمعاونة جوهان فابر الدومينيكي عريضة إلى شارل الخامس، طالباً فيها أن يقوم شارل وهنري الثامن ولويس الثاني ملك هنغاريا بتعيين محكمة محايدة للفصل في قضية لوثر. وحث في رسالة بعث بها إلى الكادينال كامبيجيو (6 ديسمبر) على توفير العدالة للوثر، وقال: "لقد أدركت أنه كلما كان الإنسان صالحاً كان أقل عداء للوثر... إن بضعة أشخاص فقط كانوا يصخبون في وجهه، خوفاً من أن يجردهم مما في جيوبهم... ولم يرد عليه أحد بعد أو يعدد أخطاءه... فكيف يحدث هذا في الوقت الذي يوجد
فيه أشخاص يزعمون أنهم أساقفة... وأخلاقهم كريمة... وهل من الصواب أن تضطهد رجلاً مثل هذا، لا تشوب أخلاقه شائبة، وليس في حياته ما يشينه، ووجد أشخاص من الصفوة في كتاباته الكثير مما يستحق الإعجاب؟ لقد كان الهدف ببساطة القضاء عليه وعلى كتبه، ليضيع في غمرات النسيان، وهذا لا يتحقق إلا إذا ثبت أنه على خطأ... إذا كنا ننشد الحقيقة، فإن كل امرئ يجب أن يكون حراً في أن يقول ما يراه دون خوف أو وجل. وإذا كوفئ المدافعون عن وجهة نظر أحد الطرفين يوضع تيجان الأساقفة على رؤوسهم، وجوزي المدافعون عن وجهة نظر الخصوم بالشنق أو بوضعهم فوق الخوازيق فإن الحقيقة لن تسمع أبداً... ولا يمكن أن يكون هناك شيء يبعث على النفور ويبعد عن الحكمة أكثر من نشرة البابا... إنها تخالف طبيعة البابا ليو العاشر، وأرى أن الذين أرسلوا لنشرها فحسب قد جعلوا الأمور تنقلب إلى أسوأ. ومهما يكن من شيء فإنه من الخطر أن يعارض الأمراء الزمنيون البابوية، أنا لست على استعداد لأن أكون أكثر شجاعة من الأمراء، وبخاصة عندما لا أستطيع أن أفعل شيئاً. ولعل فساد الحاشية الرومانية يجعلها في حاجة إلى إصلاح شامل وعاجل، ولكني أنا وأمثالي لا يطلب منا اتخاذ إجراء مثل هذا على عاتقهم، وأنا أرى أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وأفضل أن أرى الأشياء على ما هي عليه على نشوب الثورة، قد تؤدي إلى نتيجة لا تحمد عقباها... ويمكنك أن تطمئن إلى أن أرازموس كان، وسوف يظل دائما، من الرعايا المخلصين لكرسي البابوية الروماني، وإن كنت أعتقد، ويعتقد كثيرون مثلي، أنه ستتاح فرصة أحسن لتسوية ما إذا قل الالتجاء إلى العنف، وإذا وضعت مقاليد الإدارة في أيدي رجال لهم وزن وعلى حظ من التعليم، وإذا تصرف البابا بوحي من ضميره، ولم يتأثر بآراء الآخرين"(92).
وقد جعل لوثر من الصعب على أرازموس أن يتشفع له لأن لهجة خطبه كانت تزداد عنفاً كل شهر، إلى أن دعا في يوليو عام 1520 قراءه إلى أن يغسلوا أيديهم في دماء الأساقفة والكرادلة، وعندما وصل نبأ إحراق لوثر علناً لمنشور البابا الذي يقضي بحرمانه من غفران الكنيسة، أقر أرازموس بأنه صدم لهذا النبأ. وفي الخامس عشر من يناير عام 1521 بعث إليه البابا برسالة أعرب فيها عن سروره بولائه، وفي الوقت نفسه أرسل ليو تعليماته إلى إلياندر بمعاملة عالم الإنسانيات بكل لطف. وعندما اقترب موعد انعقاد المجلس النيابي في ورمس، طلب أمير ألماني من أرازموس أن يخف لمعاونة لوثر، ولكنه رد بأن الأوان قد فات. وأسف لرفض لوثر الامتثال، إذ كان يعتقد أن هذا الامتثال سوف يؤدي إلى الإسراع بحركة الإصلاح الديني، أما الآن فإنه يخشى قيام حرب أهلية. وفي فبراير عام 1521 كتب إلى أحد أصدقائه: "إن كل إنسان أقر بأن الكنيسة قد عانت من نير طغيان بعض الناس، وكثيرون كانوا يسألون النصيحة لعلاج هذه الحالة الراهنة. والآن وقد هب هذا الرجل ليعالج الأمر على هذا النحو... لم يجرؤ أحد على أن يدافع حتى عما أجاد التعبير عنه. وقد حذرته منذ ست شهور خلت أن يحترس من الكراهية. وقد نفرت رسالته "الأسر البابيلوني" منه الكثيرين، وهو يعرض لنا كل يوم أشياء فظيعة(93).
وقد تخلى لوثر وقتذاك عن كل أمل في مساندة أرازموس، وأسقطه من حسابه باعتباره داعية للسلام جباناً "يعتقد أن كل شيء يمكن أن يتم بالتهذيب والعطف"(94). وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من تعليمات ليو، استمر إلياندر وعلماء اللاهوت في لوفان في مهاجمة أرازموس، باعتباره نصيراً سرياً للوثر. فاستاء من ذلك وانتقل إلى بازيل (15 نوفمبر عام 1521)، حيث راوده الأمل في أن يتناسى الإصلاح الديني الفتي في غمار النهضة العجوز. وكانت بازيل معقل مذهب الإنسانيات في سويسرة،
فهناك كان يعمل بياتوس رينانوس الذي نشر تاسيتوس وبلني الأصغر، واكتشف فيليوس بايتركولوس، وأشرف على طباعة العهد الجديد، الذي أعده أرازموس، وهناك كان طباعون وناشرون يعدون أيضاً من العلماء مثل هانز آمرباخ، وذلك القدّيس بين الناشرين الذي يدعى جوهان فروبن (يوس)، وهو الذي أضنى نفسه مكباً على مطابعه ونصصه و(قال عنه أرازموس) "ترك لأسرته من الشرف أكثر مما ترك لها من الثروة"(95) هناك عاش ديرر أعواماً طوالاً، وهناك قام هولبين برسم صورة الشخصية التي تخلب الألباب لفروين وبونيفاسيوس آمرباخ - الذي جمع المقتنيات الفنية الموجودة الآن في متحف بازيل. وقبل سبع سنواةت، وفي زيارة سابقة، كان أرازموس قد وصف هذا المحيط في شيء من المبالغة التي تنطوي على الحب.
"يبدو لي أني أعيش في هيكل قدسي ساحر لربات الفنون، يظهر فيه حشد من الأشخاص المتعلمين كأمر محتوم. ليس هناك مَن يجهل اللاتينية، ولا أحد يجهل اليونانية، ومعظمهم يعرفون العبرية. هذا يفوق زملاءه في دراسة التاريخ، وذاك متضلع في اللاهوت، وأحدهم بارع في الرياضيات، وآخر دارس للآثار، وثالث ضليع في القانون. وليس من شك في أن الحظ لم يسعدني، حتى ذلك الوقت، في أن أعيش في مثل هذا المجتمع الكامل... أية صداقة خالصة ترفرف عليهم جميعاً وأي بشر وأي توافق"(96).
وعاش أرازموس مع فروبن وعمل معه مستشاراً أدبياً، وكتب مقدمات وحرر جريدة "الآباء". ورسم هولبين صوراً شخصية مشهورة له في بازيل (1523-1524) ولا تزال إحداها هناك، وأرسلت أخرى إلى كبير أساقفة وارهام، وهي الآن من مقتنيات ايرل أف رادنور، والثالثة في متحف اللوفر، وهي من روائع هولبين. ويرى فيها جالساً إلى منضدة،
وهو يكتب ملتفاً بمعطف ثقيل حوافه مزينة بالفراء، ويضع على رأسه قلنسوة تغطي نصف أذنيه، وها هو أعظم علماء الإنسانيات تشي كهولته التي جاءت قبل الأوان، (كان وقتئذ في السابعة والخمسين من عمره) بالثمن الغالي الذي دفعه بسبب اعتلال صحته. حياة فيلسوف مشائي حافلة بالجدل والخصام، والعزلة الروحية والحزن، اللذين ترتبا على رغبته في أن يكون عادلاً مع الطرفين في الخلافات المذهبية التي حدثت في عصره. وتبرز من القلنسوة شعرات بيضاء مشعثة. وله شفتان رقيقتان كالحتان، وتقاطيع جميلة، وإن كانت قوية، وأنف حاد معقوف، وجفون ثقيلة، تكاد تغلق عينين متعبتين، هنا في لوحة من أعظم الصور الشخصية ترى النهضة وقد مزقها الإصلاح الديني إرباً.
وفي أول ديسمبر عام 1522 كتب البابا الجديد أدريان السابع إلى أرازموس بألفاظ توحي بسلطانه غير العادي على كلا الطرفين: "يتوقف عليك، وأسال الله أن يعينك، أن تهدي من أضلهم لوثر عن الطريق المستقيم، وأن تقف إلى جانب من لا يزالون صامدين... ولست في حاجة إلى أن أعرب لك عن مدى غبطتي عندما أتلقى ثانية هؤلاء الهراطقة دون حاجة إلى قرعهم بعصا القانون الإمبراطوري. وأنت تعرف إلى أي حد تتنافى مثل هذه الطرق الفظة مع طبيعتي. أنا لا أزال كعهدك بي عندما كنا ندرس معاً. تعال إلي في روما، وسوف تجد هنا ما تنشده من الكتب، وسوف تجدني أنا وآخرين من الرجال المستنيرين، لنتبادل المشورة، وإذا فعلت ما أطلبه منك فإنك لن تندم أبداً"(97).
وبعد تبادل تمهيدي لخطابات تعهد فيها كل منهما للآخر بالحفاظ على السرية، فتح أرازموس قلبه للبابا وقال: "إن قداستك تطلب مني النصيحة، وترغب في أن تراني. وكم كان يسعدني أن أذهب إليك لو سمحت بذلك صحتي. أما بالنسبة للكتابة ضد لوثر، فأنا لست على درجة كافية من العلم، وأنت تعتقد أن لكلماتي سلطاناً، ولكني للأسف أرى
أن شعبيتي، التي اكتسبتها فيما مضى قد استحالت إلى كراهية. لقد كنت يوماً أميراً للبيان، ونجماً من نجوم ألمانيا... وكاهناً أعظم للعلم ومنافحاً عن لاهوت أكثر نقاء. أما الآن فقد تبدل الوضع، ففريق يقول أني أتفق في الرأي مع لوثر، لأني لا أعارضه، وفريق آخر يرى أني على خطأ لأني أعارضه... وفي روما وفي برابانت يصفونني بأني هرطيق، وزعيم شعبة من الهراطقة، وداعية إلى الانشقاق، والحق أني لا أتفق بتاتاً مع لوثر. وأنهم ليستشهدون بهذه الفقرة أو تلك، ليبينوا أننا متشابهان، ومع ذلك ففي وسعي أن أجد مائة فقرة يبدو فيها أن القدّيس بولس يعلم العقائد التي يستنكرها عند لوثر. وخير من يمحضك النصح هم الذين يشيرون باتخاذ إجراءات خفيفة. والرهبان - يطلقون على أنفسهم العمالقة الذين يسندون كنيسة تهتز وتوشك أن تنقض - ينفّرون مَن يمكن أن يكونوا أنصاراً لها... ويعتقد البعض أنه لا علاج لهذه الحالة غلا القوة. وأنا أرى غير هذا... فسوف تؤدي إلى سفك مروع للدماء. إن المسألة ليست الجزاء الذي تستحقه الهرطقة، ولكنها الطريقة الحكيمة التي تعالج بها... وأنا من جهتي أرى اكتشاف جذور المرض واقتلاع ما يجب البدء به منها. لا تعاقب أحداً. واعتبر ما حدث عقوبة أنزلتها العناية الإلهية، وامنح عفواً عاماً. وإذا كان الله يغفر لي خطاياي، فإن كاهن الرب يمكن أن يغفرها، وفي وسع الحكام أن يمنعوا قيام ثورة مسلحة، وإذا أمكن يجب مراجعة المواد المطبوعة. ثم دع العالم يعرف ويرى أنك تنوي جاداً رفع المظالم، التي يشكو منها الناس بحق. وإذا أردت قداستك أن تعرف ما هي الجذور التي أشير إليها، فإرسل أشخاصاً تثق بهم إلى كل جزء من أجزاء العالم المسيحي اللاتيني، ودعهم يتبادلون الرأي مع أعقل مَن يجدون من الرجال في مختلف البلاد وسرعان ما تعرف بعد ذلك(98).
يا لأدريان المسكين الذي تجاوزت نياته الطيبة حدود قواه! لقد مات
كسير الفؤاد عام 1523. واستمر خلفه كليمنت السابع في حث أرازموس على الانخراط في سلك المناهضين للوثر. وعندما خضع العالم أخيراً، لم يكن هجومه على لوثر بصفة شخصية، ولم يكن لديه اتهام عام للإصلاح الديني ولكنه ناقشه مناقشة موضوعية مهذبة بإرادة حرة (De Libro arbitrio) - (1524). وسلم بأنه لم يستطيع أن يسبر غور لغز الحرية الأخلاقية، ولا أن يوفق بينها وبين علم الله بكل شيء وقدرته على كل شيء. ولكن ما من عالم بالإنسانيات يستطيع أن يتقبل العقائد، التي تقول بحتمية القدر ومذهب الجبر، دون تضحية بكرامة الإنسان أو الحياة البشرية وقيمتها: هنا فارق أساسي بين الإصلاح الديني والنهضة. وبدا واضحاً لأرازموس أن الإله الذي يعاقب على الخطايا التي ترتكبها مخلوقاته، ولا حيلة لهم في الامتناع عنها، وحش لا أخلاق له لا يستحق العبادة أو الثناء، ونسبة مثل هذا السلوك إلى الأب الذي في السماء" كفر فضيع. ووفق افتراضات لوثر يكون أسوأ المجرمين شهيداً بريئاً ذلك أن الرب قدر عليه الخطيئة، ثم حكم عليه المنتقم الجبار بالعذاب في نار جهنم خالداً فيها، فكيف يستطيع أي مؤمن بحتمية القدر أن يقدم أي مجهود خلاق، أو يعمل على تحسين أحوال البشر؟ وأقر أرازموس بأن اختيار الإنسان رهن بآلاف الظروف، التي لا يستطيع أن يتحكم فيها، ومع ذلك فإن شعور الإنسان يصر على أن يؤكد أن له بعض الحرية، وبدونها يكون آلة ذاتية الحركة لا معنى لها. وانتهى أرازموس إلى القول: على أية حال دعونا نسلم بجهلنا وبعجزنا في التوفيق بين حرية الإنسان في التمييز بين الصواب والخطأ، وبين سابق علم الله أو سبب وجوده في كل مكان. دعونا نؤجل الحل إلى يوم القيامة، ولكن في الوقت نفسه دعونا نتجنب كل فرض يجعل من الإنسان مجرد دمية، ومن الرب طاغية أقسى من أي طاغية عرف في التاريخ.
وأرسل كليمنت السابع مائتي فلورين ( 5.000 ؟ دولار)، إلى أرازموس
عندما تسلك منه الرسالة، وشعر معظم الكثالكة بخيبة الأمل بسبب اللهجة الفلسفية، التي تنشد المصالحة، والتي تنطوي على عبارات الكتاب عليها، فقد كانوا يأملون أن يسمعوا خبر إعلان حرب يطربون لها. والحق أن ميلانكتون الذي أعرب عن وجهة نظره في الجبرية بكتاب Losi Communes تأثر كثيراً بالرأي الذي أبداه أرازموس، وحذف نظريته في هذا الموضوع، وذلك في الطبعات التي ظهرت فيما بعد(99). وكان هو أيضاً لا يزال يراوده الأمل في السلام - ولكن لوثر دافع عن الجبرية بلا هوادة في رد متأخر عنوانه De Servo arbitro عام 1525، وقال:
"إن الإرادة البشرية مثل دابة الحمل، إذا امتطاها الرب رغبت، وانطلقت كما يشاء الرب، وإذا امتطاها الشيطان رغبت، انطلقت كما يهوى الشيطان. وهي لا تستطيع أن تختار راكبها... والركاب يتنازعون على امتلاكها... والرب يعلم الغيب، ويقدر ويعمل كل شيء، بإرادة فعالة أزلية، لا تتبدل، وبهذه الإرادة القاهرة تغوص الإرادة الحرة، وتتفتت في التراب"(100).
ومن الأمور ذات المغزى عن المزاج السائد في القرن السادس عشر، أن لوثر رفض التسليم بحرية الإرادة، لا لأنها تتعارض مع حكم قانون عالمي وعلية عالمية، كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين في القرن الثامن عشر، ولا لأنه يبدو أن الوراثة والبيئة والظرف تحدد، كثالوث آخر، الرغبات التي يبدو أنها تحدد الإرادة، كما ذهب إلى ذلك كثيرون في القرن التاسع عشر، بل إنه رفض التسليم بالإرادة الحرة على أساس أن قدرة الله على كل شيء، تجعله تعالى السبب الحقيقي لكل الحوادث وكل الأفعال، وبالتالي فإنه تعالى، وليست فضائلنا أو خطايانا، هو الذي يحكم علينا بالخلاص أو العذاب الأبدي: ويواجه لوثر مرارة منطقه برجولة فيقول: "لقد أسيء إلى حسن الإدراك والعقل الفطري، إلى حد كبير، بالقول بأن الله يتخلى عن عبده ويقسو عليه ويعذبه بمحض إرادته تعالى، كما لو كانت
الخطيئة تسره، والعذاب الأبدي يسعده، وهو الذي يقال إنه رؤوف رحيم، ومثل هذا المفهوم عن الله يبدو خبيثاً قاسياً لا يغتفر، من أجله ثار عدد من الرجال في جميع العصور، وأنا نفسي أسيء إلي مرة إساءة، أردتني في هوة اليأس، إلى حد أني تمنيت لو أني لم أخلق قط. ولا جدوى من محاولة الهروب من هذا بإيجاد فوارق بارعة، ومهما أحس العقل الفطري بما لحقه من إساءة فلا مفر من تسليمه بنتائج علم الله بكل شيء وقدرته على كل شيء... وإذا كان من الصعب الإيمان برحمة الله ورأفته، عندما يعذب مَن لا يستحقون العذاب، فإننا يجب أن نتذكر أن عدالة الله لا تكون إلهية إذا أحاط بها عقل الإنسان"(101).
ومما امتاز به هذا العصر الرواج الذي حظيت به الرسالة التي عنوانها: "الإرادة المستعبدة" فقد بيع منها عدد كبير في سبع طبعات باللغة اللاتينية وطبعتين باللغة الوطنية، واشتد الإقبال عليها في خلال سنة واحدة. وأثبت ذلك أنها أعظم مصدر للاهوت البروتستانتي، وهكذا وجد كافن عقيدة الجبر والاختيار والرفض reprobation، التي نقلها إلى فرنسا وهولندة واسكوتلندة وإنجلترا وأمريكا. ورد أرازموس على لوثر في مقالين نشرا في كراستين دينيتين بعنوان Hyperaspistes (المدافع) 1 و 2 (1526-1527)، ولكن رأي العصر كان في جانب الرأي الذي انتهى إليه المصلح في المناظرة. واستمر أرازموس حتى في هذه المرحلة، يبذل جهوده في سبيل السلام. وأوصى كل مَن بعث إليهم برسائل بالتسامح واللطف في المعاملة... ولقد ظن أن الكنيسة عليها أن تسمح برجال الدين بالزواج وتناول القربان المقدس بالأسلوبين المعروفين، وأنها يجب أن تتنازل عن بعض أملاكها الواسعة للسلطات الزمنية، لكي تستخدمها في مرافقها، وأن أمثال المسائل الحاسمة كالجبر والاختيار وحضور المسيح بجسده في القربان المقدس، يجب أن تترك دون تحديد مفتوحة
لمختلف التفسيرات(102). وأشار على الدوق جورج صاحب ساكسونيا بمعاملة اللامعمدانيين بالرفق، وقال: "ليس من العدل أن تعاقب بالنار على أي خطأ يرتكب ما لم يكن مقترناً بشغب أو بأية جريمة أخرى تعاقب عليها القوانين بالإعدام"(103). وحدث هذا في عام 1524، ومهما يكن من أمر فإنه دافع عام 1533 عن سجن الهراطقة، الذي دعى إليه توماس مور(104)، متأثراً بالصداقة أو الشيخوخة، أما في أسبانيا حيث أصبح بعض علماء الإنسانيات من مؤيدي أرازموس فقد بدأ رهبان محكمة التفتيش يفحصون أقوال أرازموس فحصاً منسقاً مستهدفين إدانته باعتباره هرطيقاً (1527). ومع ذلك فإنه استمر في نقده لفجور الرهبان والجمود اللاهوتي، باعتبارهما الحافزين الرئيسيين إلى الإصلاح الديني. وكرر عام 1528 الاتهام بأن كثيراً من الأديرة التي تضم الرهبان والراهبات "بيوت عامة للدعارة" وأن "آخر ما يوجد من فضائل في أديرة كثيرة إنما هي فضيلة العفة"(105). وأدان في عام 1532 الرهبان، باعتبارهم متسولين يسألون بإلحاح، ومضللين يغوون النساء، وصيادين ينطلقون في إثر الهراطقة، ومتصيدين للتركات ومزيفين للشهادات(106). وكان يؤيد كل شيء لإصلاح الكنيسة بينما كان يستهجن الإصلاح الديني. ولم يستطع أن يروض نفسه على التخلي عن الكنيسة، أو أن يراها مشطورة إلى نصفين، وقال: "إني أتحمل الكنيسة إلى اليوم الذي أرى فيه كنيسة أفضل"(107).
وارتاع عندما سمع بنبأ نهب روما على يد فرق بروتستانتية وكاثوليكية تعمل في خدمة الإمبراطور (1527). وكان قد راوده الأمل في أن شارل سوف يشجع كليمنت على أن يتصالح مع لوثر، ولكن البابا والإمبراطور كانا وقتذاك يمسك كل منهما بتلابيب الآخر. وأصيب بصدمة أكبر عندما دمر المصلحون الدينيون، في ثورة، التماثيل في الكنائس (1529)، مع أنه كان قبل ذلك بعام واحد فقط قد ندد بعبادة التماثيل
وقال: "يجب أن يعلم الناس أن هذه ليست غلا رموزاً، ومن الخير ألا يكون هناك شيء منها على الاطلاق، وأن توجه الصلاة للمسيح وحده. ولكن ليكن رائدنا الاعتدال في جميع الأمور"(108). وهذا بالضبط موقف لوثر من الموضوع نفسه. ولكنه رأى أن التجريد الأهوج الغبي للكنائس من التماثيل رجعية همجية، تتسم بضيق الأفق. وغادر بازيل، وانتقل منها إلى فرايبورج - الواقعة على نهر برايسجاو، في أرض نمساوية كاثوليكية فاستقبلته سلطات المدينة بالترحيب والتكريم، ومنحته قصر ماكسمليان الأول الذي لم يتم، ليقيم فيه. وعندما لم يصله المرتب، الذي خصصه له الإمبراطور بانتظام أرسل إليه آل فوجر كل ما احتاج إليه من أموال، بيد أن رهبان فرايبورج وعلماء اللاهوت فيها هاجموه باعتباره من معتنقي مذهب الشك في الخفاء، والسبب الحقيقي لما حدث في ألمانيا من فتنة.
وعاد إلى بازيل عام 1535 فخرج إليه وفد من أساتذة الجامعة مرحبين بعودته، وخصص له جيروم فروبن ابن جوهان غرفاً في منزله.
وكان وقتذاك قد بلغ التاسعة والستين، بوجه هزيل تغضن بفعل السنين وكان يعاني من القروح والإسهال وداء النقرس والحصوة ونزلات البرد المتكررة... لاحظ اليدين المتورمتين في رسم ديرر. وحبس نفسه، في سنواته الأخيرة، في حجراته، وكثيراً ما كان يلازم الفراش. وأضناه الألم، وفقد بسمته الجميلة المألوفة، التي كانت تحببه إلى أصدقائه، وأصبح دائم العبوس، وهو يكاد يسمع كل يوم عن هجمات جديدة يوجهها إليه البروتستانت والكثالكة. ومع ذلك فقد كانت ترد إليه يومياً تقريباً رسائل، تفيض بالإخلاص والاحترام، من ملوك أو بطاركة أو سياسيين أو علماء أو ماليين، وكان مسكنه كعبة يحج إليها الأدباء. وأصيب في السادس من يونية عام 1536 بدوزنتاريا حادة، وعرف أنه سوف يموت وشيكاً، ولكنه لم يطلب قسيساً أو كاهناً يعترف له ومات (12 يونيه)،
دون أن تجرى له الطقوس الدينية، التي فرضتها الكنيسة، وأخذ يكرر مبتهلاً اسمي مريم والمسيح. وشيعته بازيل في جنازة تليق بأحد الأمراء، ودفن في مقبرة بالكاتدرائية. واشترك علماء الإنسانيات وأسقف المدينة في إقامة لوح حجري فوق جثمانه، ولا يوال هذا اللوح في مكانه، وقد أشادوا فيه بما اتصف به من "سعة علم لا تضارع في كل فرع من فروع المعرفة". ولم يترك في وصيته ميراثاً لأغراض دينية، ولكنه خصص مبالغ للعناية بالمرضى أو المسنين، ولتقديم صداق للفتيات الفقيرات، ولتعليم الشبان الواعدين.
ويتذبذب موقفه في الأجيال القادمة مع تذبذب هيبة عصر النهضة، فكل الطوائف تقريباً وصفته بأنه مذبذب جبان، وذلك في حماسة الثورة الدينية، واتهمه أنصار الإصلاح الديني بأنه قادهم إلى حافة الهاوية، وأغراهم بأن يقفزوا ثم لاذ بالفرار. ووصف في مجلس مدينة ترنت بأنه هرطيق فاسق، وحرمت مؤلفاته على الفقراء الكاثوليك. وفي أواخر عام 1758 وصفه هوراس والبول بأنه "طفيلي متسول لديه من الشمائل ما يكفي لأن يتوصل إلى الحقيقة، ولكنه يفتقر إلى الشجاعة لكي يعترف بها"(109).وفي أواخر القرن التاسع عشر، عندما انقشع دخان المعركة، أسف مؤرخ بروتستانتي صائب الرأي على مفهوم أرازموس عن الإصلاح الديني، وقال: "مفهوم لعالم... سرعان ما أوقف وطرح جانباً بوسائل فظة خشنة. ومع ذلك يحق لنا أن نتساءل أما كانت، بعد كل شيء، الطريقة البطيئة هي في النهاية أكثر الطرق أمناً، وهل كان أي عامل من عوامل تقدم الإنسانية يمكن أن يكون بديلاً للثقافة على الدوام. لقد كان الإصلاح الديني في القرن السادس عشر من عمل لوثر، ولكن إذا ظهر في الأفق أي إصلاح ديني جديد... فإنه لا يمكن أن ينهض إلا على أساس مبادئ أرازموس"(110). ويضيف مؤرخ كاثوليكي تقديراً يكاد يكون
مطابقاً لمقتضيات العقل: "إن أرازموس كان ينتمي فكرياً إلى عصر لاحق علمي وعقلاني أكثر من عصره. والعمل الذي قد بدأ به والذي أوقفته الاضطرابات التي حدثت في عهد الإصلاح الديني استأنفه علماء القرن السابع عشر في وقت لاقى فيه قبولاً أكثر"(111)، وكان لابد أن يكون لوثر، ولكن عندما قام بعمله، وهدأت سورة الانفعال، حاول الناس مرة أخرى أن يتشبثوا بروح أرازموس وروح النهضة، وأن يجددوا، في صبر وتسامح متبادل، الجهد الطويل البطيء لتنوير أذهان الناس.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق