إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 28 أبريل 2014

1230 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> العقائد في الحرب -> مجالس الدايت لا تواف 2- مجالس الدايت لا توافق (1526 - 1541)





1230


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> العقائد في الحرب -> مجالس الدايت لا تواف

2- مجالس الدايت لا توافق


(1526 - 1541)


لما كانت الحرية الداخلية تختلف (بينما تتساوى أمور أخرى) باختلاف درجات الأمن الخارجي، فإن البروتستانتية تورطت، أثناء فترة أمنها، في انقسام طائفي، يبدو أنه كان كامناً في مبادئ الحكم الفردي وسيادة الضمير. وكتب لوثر عام 1525: "هناك اليوم طوائف وعقائد بقدر عدد الرؤوس تقريباً"(12). وشغل ميلانكتون نفسه في حزن بالتخفيف من حدة سيده، وأخذ يتلمس صيغاً مبهمة للتوفيق بين اليقينيات المتناقضة. وأشار الكاثوليك باغتباط إلى الأحزاب البروتستانتية، التي تتبادل الاتهامات، وتنبئوا بأن حرية التفسير وحرية الاعتقاد تؤديان إلى فوضى دينية، وانحلال خلقي، وشكية بغيضة إلى البروتستانت والكاثوليك على السواء(13)، وفي عام 1525 أقصي من مدينة نورمبرج البروتستانتية ثلاثة من الفنانين لأنهم تساءلوا عن مؤلف الإنجيل، وعن وجود المسيح بجسده حقاً في القربان المقدس، وعن ألوهية المسيح.
وبينما كان سليمان يعد الحملة التي مزقت هنغاريا إلى شطرين، اجتمع في سبيير (يونيه سنة 1526) مجلس نيابي من الأمراء والبطارقة والأوساط من الألمان، لتبادل الرأي في المطالب التي تقدم بها الكاثوليك، ومؤداها أن مرسوم ورمس يجب أن ينفذ بالقوة والنظر في الاقتراح المضاد الذي

تقدم به البروتستانت، ومؤداه أن الدين يجب أن يترك حراً، إلى أن يقضي في النزاع مجلس عام، تحت رعاية ألمانيا. ورجحت كفة البروتستانت وقضى مرسوم هذا المجلس النيابي في الختام - وهو معلق على مجلس مثل هذا - بأن كل ولاية ألمانية "يجب أن تعيش وتحكم وتتحمل أعباء نفسها، بالطريقة التي يعتقد أنها يمكن أن تتفق مع أمر الله والإمبراطور"، وذلك في موضوع الدين، وأنه يجب ألا يعاقب أحد على ما ارتكبه من إساءات لمرسوم ورمس، وأن كلمة الله يجب أن يعظ بها كل الأحزاب، دون أن يتدخل أحدها في شئون الآخرين. وفسر البروتستانت هذا بأنه "مرسوم سبيير" باعتبار أنه أباح تأسيس الكنائس اللوثرية، ووفر السيادة الدينية لكل أمير في إقليمه، وحرم إقامة القداس في المناطق التي تدين بمذهب لوثر. ورفض الكثالكة التسليم بهذه الدعاوى، ولكن الإمبراطور، وهو مشتبك مع البابا، قبلها مؤقتاً، وسرعان ما انشغل فرديناند، إلى أقصى حد بشؤون هنغاريا، فلم يستطع أن يبذل أي جهد فعال للمقاومة.
وبعد أن حقق شارل السلام بينه وبين كليمنت، عاد إلى سياسة المحافظين، التي فطر عليها كل ملك، وأمر المجلس النيابي في سبيير أن يعود إلى الانعقاد يوم أول فبراير عام 1529. وقام المجلس الجديد تحت تأثير الأرشيدوق، الذي تولى رئاسته، والإمبراطور الذي تغيب عن الحضور بإلغاء "المرسوم" الذي وافق عليه عام 1526، وأصدر مرسوماً يسمح بأداء الصلاة وفق مذهب لوثر، ولكنه يقضي بالتسامح في أداء الصلوات الكاثوليكية، في الولايات التي تعتنق مذهب لوثر، ويحرم تماماً الوعظ بمبادئ لوثر أو إقامة الشعائر حسب مذهبه في الولايات الكاثوليكية. وأيد تنفيذ مرسوم ورمس، واعتبار الطوائف الزونجلية واللامعمدانية في كل مكان خارجة على القانون. وفي يوم 25 أبريل عام 1529 نشرت الأقلية اللوثرية "احتجاجاً Protest" أعلنوا فيه أن الضمير يحرم عليهم قبول هذا المرسوم، والتمسوا من الإمبراطور عقد مجلس عام، وفي الوقت

نفسه أعلنوا أنهم على استعداد للتمسك بمرسوم سبيير الأصلي بأي ثمن. وأطلق الكاثوليك اسم بروتستانت على مَن وقعوا هذا الاحتجاج، وبالتدريج استخدم للدلالة على الألمان المتمردين على روما.
وأدرك شارل أنه لا يزال في حاجة إلى اتحاد ألمانيا ضد الأتراك، فدعا إلى الانعقاد مجلساً نيابياً آخر، فانعقد في أوجسبورج (20 يونيه عام 1530) برئاسته. وفي خلال دورة هذا المجلس أقام مع أنطون فوجر، وكان وقتذاك رئيساً للمؤسسة، التي جعلت منه إمبراطوراً. وطبقاً لقصة قديمة أدخل المصرفي السرور على قلب الحاكم بإشعال نار ألقى فيها بشهادة، يقر فيها الإمبراطور بمد يونيته(14)، ولما كان آل فوجر مرتبطين مالياً مع البابوات، فإن الحركة المذكورة ربما تكون قد دفعت شارل إلى أن يخطو خطوة يقترب بها من البابوية. ولم يحضر لوثر لأنه كان لا يزال تحت الحظر الإمبراطوري، ومن الممكن أن يقبض عليه في أي لحظة، ولكنه ذهب إلى كوبورج الواقعة على حدود ساكسونيا، واستمر في الاتصال بالوفد البروتستانتي عن طريق الرسل. وشبه المجلس بجمع من غربان الزرع، التي تصفق أجنحتها، وتناور أمام نوافذ بيته، وشكا من أن "كل أسقف جاء ومعه شياطين كثيرة، بقدر عدد البراغيث على جسد كلب في يوم عيد القدّيس يوحنا"(15). وكان من الواضح في هذا العهد أنه ألف أعظم أناشيده "الحصن الحصين هو ربنا".
وفي يوم 24 يونيه التمس الكاردينال كامبيجيو من المجلس النيابي تحريم إنشاء الطوائف البروتستانتية تحريماً تاماً. وفي الخامس والعشرين قرأ كريستيان باير للإمبراطور ولجانب من المجلس إقرار أوجسبورج الشهير، الذي كان ميلانكتون قد أعده، والذي قدر له أن يصبح بشيء من التعديلات العقيدة الرسمية للكنائس اللوثرية. ولأن ميلانكتون قد خشي قيام القوات الإمبراطوريّة والبابوية معاً بحرب ضد البروتستانت المنقسمين من ناحية، ولأنه كان يميل بفطرته إلى المهادنة والسلام من ناحية أخرى، أضفى على الإقرار

(كما يقول باحث كاثوليكي) "لهجة مشرفة معتدلة مسالمة"(16). وسعى إلى تقليل الخلافات بين آراء الكاثوليك وآراء اللوثريين، وأفاض في الهرطقات التي أدانها الإنجيليون (كما كان اللوثريون يسمون أنفسهم بسبب اعتمادهم فحسب على الأناجيل أو على العهد الجديد) والكاثوليك الرومان على السواء، وفرق بين الإصلاح اللوثري والإصلاح الزونجلى، وترك الأخير يتحايل لنفسه. وخفف من العقائد التي تقول بالجبر و"التجسيد" والتزكية بالإيمان، وكتب باعتدال عن مظالم رجال الدين، التي كانت البروتستانتية قد قللت منها، ودافع مجاملاً عن تناول القربان المقدس في كل من الشكلين، وعن التحلل من عهود الرهبانية، وعن زواج رجال الدين، وطلب من الكاردينال كامبيجيو أن يتقبل هذا الإقرار بقبول حسن، كما دبجه هو. وأسف لوثر لبعض ما قدمه من تنازل، ولكنه أعرب عن رضاه، الذي لم يكن منه مفر، عن هذه الوثيقة، وأرسل زونجلى تقريره إلى الإمبراطور وقد أعرب فيه بصراحة عن عدم إيمانه بوجود المسيح بجسده في القربان المقدس، وقدمت ستراسبورج وكونستاتس ولينداو وممنجن إقراراً منفصلاً هو: Tetra Politana، وفيه جاهد كابيتو وبوسر. لسد الثغرات، التي بدت بين العقائد اللوثرية والزونجلية والكاثوليكية.
ورد الحزب المتطرف من الكاثوليك الذي يتزعمه إيك رداً مدعماً بالبراهين، فندوا فيه الاتهام بصورة لا تقبل التفاهم، إلى حد أن المجلس رفض أن يقدمه إلى الإمبراطور، حتى خففت لهجته مرتين. وعلى الرغم من مراجعته فإنه أصر على التجسيد والشعائر السبع والتوسل بالقديسين وفرض العزوبة على رجال الدين ومناولة القربان بالخبز والقداس باللغة اللاتينية، ووافق شارل على هذا الرد المدعم بالبراهين، وأعلن أن على البروتستانت أن يقبلوه وإلا واجهوا الحرب.
ولقد تفاوض حزب أكثر اعتدالاً من الكاثوليك مع ميلانكتون،

وعرضوا عليه السماح بتناول القربان بالخبز والنبيذ. فوافق ميلانكتون بدوره على التسليم بالاعتراف السماعي والصيام والسلطة القضائية للأساقفة، بل وسلطة البابوات، مع بعض التحفظات، غير أن الزعماء البروتستانت الآخرين رفضوا أن يذهبوا في الاتفاق إلى هذا الحد، واحتج لوثر، وقال: إن إعادة الولاية القضائية للأساقفة سيؤدي إلى إخضاع القسس الجدد للدرجات الكهنوتية في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وإلى تصفية الإصلاح الديني في أقرب وقت. ورأى عدد من الأمراء البروتستانت استحالة الاتفاق، فعادوا أدراجهم إلى أوطانهم.
وفي التاسع عشر من نوفمبر أصدر المجلس النيابي، الذي كان قد نقص عدد أعضائه، مرسومه النهائي أو مرسومه الأخير، وقد أدينت فيه كل وجوه البروتستانتية، ونص على تنفيذ مرسوم ورمس، وعلى مجلس العدالة الإمبراطوري أن يبدأ في اتخاذ الإجراءات القانونية ضد جميع الذين انتزعوا أملاك الكنيسة، وأعطى البروتستانت مهلة تنتهي في 15 أبريل عام 1531 لقبول الرد المدعم بالبراهين بطريقة سلمية. وأضفى توقيع شارل على "مرسوم أوجسبورج" صفة المرسوم الإمبراطوري، ولابد أن الإمبراطور قد خال أن منح المتمردين مهلة الشهور الستة، لكي يروضوا أنفسهم على تنفيذ إرادة المجلس النيابي، ذروة التعقل، وفي خلال تلك الفترة عرض عليهم الإعفاء من تنفيذ مرسوم ورمس، ولذلك فإنه قد يقدم، إذا سمحت واجبات أخرى، القواعد المتناظرة في علم اللاهوت إلى محكمة الحرب العليا.
وبينما كان المجلس النيابي في ذروة انعقاده أقامت عدة ولايات حلفاً كاثوليكياً فيما بينها، للدفاع عن العقيدة التقليدية واستعادتها. وفسر هذا بأنه نذير بالحرب، فنظم الأمراء البروتستانت والمُدن البروتستانتية الحلف الشمالكالدي، الذي اتخذ اسمه من موطنه الأصلي بالقرب من أرفورت،

وعندما انتهت مهلة العفو، اقترح فرديناند، الذي أصبح وقتذاك ملكاً على الرومان، أن يبدأ شارل بالحرب، ولكن شارل لم يكن على استعداد، وكان سليمان يخطط لهجوم آخر على فيينا، كما أن بارباروسا حليف سليمان كان يغير على السفن التجارية في البحر الأبيض المتوسط، يضاف إلى ذلك أن فرانسيس ملك فرنسا - وهو حليف سليمان أيضاً - كان يتأهب للانقضلض على ميلان في اللحظة التي يتورط فيها شارل في حرب أهلية بألمانيا. وفي أبريل عام 1531 أوقف شارل مرسوم أوجسبورج بدلاً من وضعه موضع التنفيذ، وطلب المعونة من البروتستانت لقتال الأتراك، فاستجاب لوثر والأمراء معربين عن ولائهم، ووقع اللوثريون والكاثوليك معاهدة سلام في نورمبرج (23 يوليه عام 1532)، وتعهدوا بتقديم العون إلى فرديناند، والتسامح الديني فيما بينهما إلى أن ينعقد مجلس ديني عام. واحتشد جيش كبير من الألمان البروتستانت والكاثوليك، ومن الأسبان والإيطاليين والكاثوليك، تحت لواء الإمبراطور في فيينا، فوجد سليمان أن الظروف غير مواتية، فعاد أدراجه إلى القسطنطينية، بينما انتشى الجيش المسيحي بخمر النصر، الذي خلا من إراقة الدماء، وأعمل يد السلب والنهب في المُدن والبيوت، وقال شاهد عيان هو توماس كرانمر الإنجليزي (وأوقع بالبلاد كارثة أعظم مما جلبه الأتراك أنفسهم"(17).
ولقد أضفت وطنية البروتستانت على حركتهم رفعة جديدة ودفعة قوية، وعندما عرض إلياندر، الذي عين رسولاً بابوياً مرة أخرى، على الزعماء اللوثريين سماع دعواهم أمام مجلس عام، إذا وعدوا بالامتثال لقرارات المجلس النهائية، رفضوا الاقتراح، وبعد مرور عام (1534) قبل فيليب الهسي العون الفرنسي، لكي يستعيد الدوق اولريخ البروتستانتي السلطة في فيرتنبورج، مستخفاً بإدانة لوثر لانتهاج سياسة هجومية. وقضى هناك على حكم فرديناند، ونهبت الكنائس وأغلقت الأديرة، واستولت الحكومة على أملاكها(18). وأصبحت الظروف مرة أخرى مواتية للبروتستانت.

فقد كان فرديناند مشغولاً في الشرق، وشارل منهمكاً في الغرب، وكان من الواضح أن اللامعمدانيين يدعمون ثورة شيوعية في منستر. واستولى المتطرفون في يورجن فولنفيفر على لوبيك (1535)، وأصبح الأمراء الكاثوليك في ذلك الوقت في حاجة إلى عون لوثر، لمواجهة الثورة الداخلية، بقدر حاجتهم إليه في حربهم ضد العثمانيين، وفضلاً عن هذا فإن اسكنديناوة وإنجلترا تخلتا عن روما في هذا الوقت، وأخذت فرنسا الكاثوليكية تنشد التحالف مع ألمانيا اللوثرية ضد شارل الخامس.
وطرب الحلف الشمالكالدي بهذه القوة النامية. فطالب بحشد جيش قوامه 12.000 رجل، وعندما سأل البابا الجديد بول الثالث عن الشروط، التي يقبل بها الحلف مجلساً دينياً عاماً، أجاب بأنه لن يعترف إلا بمجلس ينعقد مستقلاً عن البابا، ويتألف من زعماء ألمانيا الزمنيين والدينيين على السواء، وأنه يرحب بالبروتستانت ليشتركوا فيه على قدم المساواة(19)، ولا يعتبره هراطقة. ورفض الحلف قبول مجلس العدالة الإمبراطوري، وأبلغ نائب رئيس وزراء الإمبراطور أنه لن يسلم بحق الكاثوليك في الاحتفاظ بأملاك الكنيسة، أو بحقهم في القيام بالعبادة وفق شعائرهم في أراضي الأمراء البروتستانت(20). وجددت الولايات الكاثوليكية تكوين حلفها، وطالبت شارل بدعم السلطات المخولة لمجلس العدالة الإمبراطوري، فرد عليهم بكلمات رقيقة، ولكن خوفه من أن يطعنه فرانسيس الأول في ظهره جعله في حرج.
واستمر المد البروتستانتي يتعاظم، ويقول مؤرخ كاثوليكي: "في اليوم التاسع من سبتمبر عام 1538 كتب إلياندر إلى البابا من مدينة لينز يقول إن الحالة الديني في ألمانيا منهارة تقريباً، وقد كادت تتوقف عبادة الله، ومناولة القربان، وكان الأمراء الزمنيون جميعاً، ما عدا فرديناند الأول، إما من أتباع لوثر المخلصين، أو ممن يمقتون نظام القساوسة مقتاً بالغاً، ويطمعون في أملاك الكنيسة. أما البطارقة، فكانوا يعيشون في بذخ

كعهدهم من قبل. وتضاءلت الرتب الدينية إلى ما يعد على أصابع اليدين، ولم يكن رجال الدين من غير الرهبان أكثر عدداً، وكانوا على درجة من الانحلال والجهل، إلى حد أن بعض الكثالكة أعرضوا عنهم"(21).
وعندما توفي الدوق الكاثوليكي جورج صاحب البرتين سكاسونيا، خلفه شقيقه هنري. وكان من أتباع لوثر، وخلف موريس بدوره هنري وكان المنقذ العسكري للبروتستانتية في ألمانيا. وفي عام 1539 شيد يواقيم الثاني الأمير المختار في براندنبورج كنيسة بروتستانتية في عاصمته برلين معتزاً باستقلالها عن كل من روما وفيتنبرج. وفي عام 1542 أضيفت إلى قائمة بروتستانت دوقية كليفس وأسقفية نارمبورج بل وكرسي أسقفية ألبرخت في هال بطريقة جمعت بين الساسة والحرب كل في حينه. وفي عام 1543 روع الكونت هرمان فون فيد، كبير أساقفة كولون وأميرها المختار، روما بتحوله إلى المذهب اللوثري، وكان الزعماء اللوثريون واثقين بأنفسهم إلى حد أن لوثر وميلانكتون وآخرين أصدروا في يناير عام 1540 بياناً ينص على أن السلام لا يمكن أن يسود إلا بتخلي الإمبراطور ورجال الدين الكاثوليك عن "عبادتهم للأوثان وضلالهم". ولن يتم ذلك إلا باعتناقهم العقيدة الطاهرة، التي وردت في اقرار أوجسبورج، واستطردت الوثيقة تقول: "حتى إذا كان على البابا أن يسلم لنا بما نعتنقه من عقائد، وما نقوم به من شعائر، فإننا مضطرون إلى معاملته باعتباره ظالماً متعسفاً، منبوذاً، مادام أنه لن يتبرأ من أخطائه في ممالك أخرى". وقال لوثر: "لقد انتهى كل ما بيننا وبين البابا كما انتهى ما بيننا وبين ربه، الشيطان"(22).
ووافق شارل، أو كاد، لأنه اتخذ زمام المبادرة من البابا في أبريل عام 1540، ودعا زعماء الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا إلى الاجتماع في "ندوة مسيحية"، ليبحثوا مرة أخرى عن تسوية سلمية لخلافاتهم. وكتب قاصد رسولي: "ما لم يتدخل البابا بطريقة حاسمة، فإن ألمانيا بأسرها سوف تسقط في براثن البروتستانت". وفي مؤتمر تمهيدي بورمس دار

جدال طويل بين إيك وميلانكتنون، انتهى إلى أن الكاثوليك، الذين كانوا يرفضون من قبل التفاهم، قبلوا على سبيل التجربة المبادئ، التي تدل على رحابة الصدر، والتي صيغت في إقرار أوجسبورج(23)، وتشجع شارل فاستدعى جماعتين إلى راتيسبون (رجنزبورج)، وهناك عقدا اجتماعاً تحت رئاسته (5 أبريل - 22 مايو عام 1542)، وتقاربت آراؤهما إلى أقصى حد، للوصول إلى تسوية، وكان بول الثالث على استعداد للسلام، وكان كبير مندوبيه الكاردينال جابارو كونتاريني رجلاً حسن النية وعلى خلق رفيع. أما الإمبراطور فقد أزعجته تهديدات فرنسا واستغاثة فرديناند به، لمعاونته على صد الأتراك، الذين عادوا إلى الإغارة عليه، ولهذا كان تواقاً جداً إلى عقد الاتفاق المنشود، إلى حد أن الكثيرين من زعماء الكاثوليك ارتابوا في أن له ميولاً بروتستانتية. وتلاقت آراء المشتركين في المؤتمر وانتهت إلى السماح بزواج رجال الدين، وتناول القربان بالأسلوبين المعروفين، ولكن ما كان لأي شعوذة أن تجد في الحال صيغة تؤكد وتنفي في الوقت نفسه رئاسة البابوات الدينية والتجسيد في القربان المقدس، ولم يجد كونتاريني تفكهه في سؤال وجهه إليه بروتستانتي عما إذا كان الفأر الذي يقرض قطعة سقطت من القربان المقدس، يأكل الخبز أم الرب(24)، وفشل المؤتمر، لكن شارل قطع على نفسه عهداً موقوتاً للبروتستانت، وهو يخف للحرب، بعدم اتخاذ أي إجراء ضدهم لتمسكهم بالعقائد المنصوص عليها في إقرار أوجسبورج، أو لاحتفاظهم "بأملاك الكنيسة المصادرة".
وفي خلال هذه السنوات التي اشتد فيها الجدال وازداد، كانت العقيدة الجديدة قد أنشأت كنيسة جديدة، وأطلقت على نفسها اسم الكنيسة الإنجيلية بناء على اقتراح من لوثر. وكان أصلاً قد ناضل في سبيل تحقيق ديمقراطية كهنوتية. تنتخب فيها كل طائفة من المصلين قسيسها الخاص، وتحدد ما تقوم به من شعائر، وما تعتنقه من عقيدة، ولكن اعتماده المتزايد على الأمراء اضطره إلى التسليم بهذه الامتيازات للبعثات التي عينتها الدولة، وتعد مسئولة عنها.

وفي عام 1525 أصدر جون الأمير المختار لساكسونيا أمراً لجميع الكنائس الواقعة في دائرة دوقيته بأداء الصلاة وفق المذهب الإنجيلي، كما صاغه ميلانكتون بالاتفاق مع لوثر، وكل مَن يرفض الامتثال لهذا الأمر من القساوسة يفق مستحقاته، وينفى العلمانيون المتشبثون بآرائهم بعد فترة يمهلون فيها(25). وحذا حذوه أمراء آخرون من أنصار لوثر واتخذوا إجراء مماثلاً. وكتب لوثر في خمس صفحات Kleiner Katechismus، ويتألف من الوصايا العشر، التي وردت في عقيدة الرسل، وتفسيرات موجزة لكل وصية، وكان من الممكن أن يعد نصاً محافظاً جداً، يعود إلى القرون الأربعة الأولى للمسيحية.
كان القساوسة الجدد بوجه عام رجالاً يتصفون بالأخلاق الحميدة متضلعين في الكتاب المقدس، لا يعبأون بالتضلع في علوم الإنسانيات، ويكرسون حياتهم لأداء واجباتهم في أبرشياتهم. وروعيت إقامة الصلوات يوم الأحد، كما كانت تقام يوم السبت عند اليهود، وهنا رضي لوثر باتباع التقاليد، أكثر مما راعى ما ورد في الكتاب المقدس، واحتفظت "عبادة الرب" بكثير من شعائر الكاثوليك - المذبح والصليب والشموع والثياب الكهنوتية وأجزاء من القداس باللغة الألمانية، ولكن الموعظة حظيت باهتمام كبير، لتلعب دوراً أعظم، ولم تكن هناك صلوات تقام للعذراء والقديسين، ونبذت الصور والتماثيل الدينية، وتحولت عمارة الكنيسة، بحيث تتيح للعابدين سماع الواعظ بسهولة، وأصبحت الأروقة معلماً مألوفاً في الكنائس البروتستانتية. ومن أجمل ما استحدث المشاركة الفعلية لجماعة المصلين في عزف الموسيقى، التي تصحب أداء الشعيرة، فحتى صاحب الصوت النشاز يتوق للاشتراك في التراتيل، وفي وسع كل صاحب صوت الآن أن يسمع نفسه في شغف، دون أن يخشى أن يتعرف عليه أحد في هذا الجمع الحاشد. وأصبح لوثر شاعراً بين عشية وضحاها، وكتب أناشيد تعليمية، يتخللها الحوار، وتثير الاهتمام، وتتسم

بالقوة والجزالة، وتنبض بالرجولة، التي تتميز بها شخصيته، ولم يكتفِ العابدون بترتيل هذه الأناشيد وغيرها من أمثالها البروتستانتية، وإنما دعوا إلى إجراء تجارب عليها في غضون الأسبوع، ورتلتها عائلات كثيرة في البيوت. وقال أحد رجال الدين من اليسوعيين الذين أزعجهم هذا الأمر "إن أناشيد لوثر قضت على الأرواح (أخرجتها من دينها) أكثر مما فعلت عظاته"(26)، وارتقت الموسيقى البروتستانتية لتنافس التصوير الكاثوليكي في عصر النهضة.



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق