إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 7 أبريل 2013


4

السّلطان سيْف الدّين قطز ومَعْركة عَيْن جالوت في عهد المماليك

المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

--* يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون --* --* آل عمران، الآية:102 --* .

--* يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا --* --* النساء، الآية:1 --* .

--* يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً--* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً --* --* الأحزاب، الآية:70ـ71 --* .

يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى فللّه تعالى الحمد كما ينبغي لجلاله وله الثناء كما يليق بكماله، وله الحمد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه أما بعد:

هذا الكتاب جزء من كتاب المغول --* التتار --* بين الإنتشار والإنكسار، وقد رأيت نشره على إنفراد لتعم الفائدة وحتى نعطي سيف الدين قطز حقه على إنفراد، وقد سميته السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت.

وقد تكلمت عن دولة المماليك وعن أصولهم ونشأتهم وعن نظام التدريب والتربية والتعليم والمراحل التي يمرّون بها وعن نظام التخرج وانهاء الدراسة ولغتهم ورابطة الاستاذية والزمالة بينهم وجهودهم في دحر الحملة الصليبية السابعة وصور من شجاعتهم وعن أسباب هزيمتهم ونتائجها والتي كان من أهمها:

1 ـ ارتفاع شأن ومكانة المماليك.

2ـ وعجز فرنسا عن تحقيق أهدافها.

وعن مقتل تورانشاه وزوال الدولة الأيوبية وكيفية مقتل تورانشاه؟ واسباب سقوط الدولة الأيوبية والتي من أهمها:

1ـ توقف منهج التجديد والإصلاح.

2ـ الظلم.

3ـ الترف والانغماس في الشهوات.

4ـ تعطيل الخيار الشوري.

5ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية.

6ـ موالاة النصارى.

7ـ فشل الأيوبيين في إيجاد تيار حضاري.

8ـ ضعف الحكومة المركزية.

9ـ ضعف النظام الإستخباراتي.

10ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي.

11ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه.

وكان حديثي عن شجرة الدر هل هي أيوبية أم مملوكية؟ وكيف تولت سلطنة مصر؟ وموقف الخليفة العباسي والعلماء وعامة الناس من توليها الحكم، وكيف خلعت نفسها ورشحت عزالدين أيبك لتولي السلطنة وتزوجته بعد ذلك؟ وبينت حكم الشريعة الإسلامية في تولي المرأة للولاية العامة، وأشرت للمخاطر التي تعرض لها عزالدين أيبك في حكمه، كالخطر الأيوبي والصليبي، ومحاولة لويس التاسع استغلال فرصة النزاع بين المسلمين، وتردد السفارات بين ملوك مصر والشام ولويس التاسع ومساعي الخليفة العباسي في الصلح بين المماليك والأيوبيين، وموقف المماليك من تمرد القبائل العربية في مصر، وتصدي عزالدين أيبك لخطر زملائه المماليك ومقتل الفارس أقطاي، ومقتل السلطان أيبك وشجرة الدر بعد ذلك.

وتحدثت عن سلطنة علي ابن المعز ثم تولي سيف الدين قطز، وترتيبه للأمور الداخلية. كان الحديث عن معركة عين جالوت الخالدة وانكسار المغول، وتتبعت تحرك المغول بعد سقوط بغداد، وبينت كيف تم احتلال المغول لبلاد الشام والجزيرة، ووضحت مشروع الكامل الأيوبي لمواجهة التتار وكيف استشهد عند دفاعه البطولي عن ميّافارقين، فقد صمدت المدينة الباسلة وظهرت فيها مقاومة ضارية بقيادته ونظراً لطول الحصار الذي فرضه المغول على المدينة، نفذت الأرزاق من داخلها وعم القحط وانتشر الوباء وتهدمت الأسوار من شدة ضرب المنجنيقات حتى هلك أكثر سكان المدينة، فقد وقعت المجاعة فيها بسبب الحصار الطويل وفي عام 658هـ/1260م سقط آخر معقل للمقاومة في الجزيرة ودخل التتار ميّافارقين فوجدوا جميع سكانها موتى، ما عدا سبعين شخصاً نصف أحياء وقبضوا على الكامل الأيوبي فعنفه هولاكو وأمر بتقطيعه وأخذوا يقطعون لحمه قطعاً صغيرة ويدفعون بها إلى فمه حتى مات ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في البلاد وذلك سنة 657هـ/1259م إلى أن وصل دمشق، فعلّقوه على باب الفراديس، حتى أنزله الأهالي ودفنوه.

وكان السلطان الناصر الأيوبي سلطان بلاد الشام متردد بين المقاومة والاستسلام، وكان متخوفاً من المغول، الذين هددوه بالرسائل وذكروه بما حدث لبغداد وخليفتها وجاء في رسائلهم للسلطان الناصر:... واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب فواقعه الندم واستوجب منا العدم وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال وكان قد نمى ذكره وعظم قدره ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال:

إذا تم أمر دنا نقصه توقّ زوالاً إذا قيل تم

إذا كنت في نعمة فارْعها فإن المعاصي تُزيل النعم

وكم من فتى بات في نعمة فلم يدر بالموت حتى هجم



إذا وقفت على كتابي هذا فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض، ملك الملوك على وجه الأرض، تأمن شره، وتنل خيره، كما قال تعالى في كتابه العزيز:"وأن ليس للانسان إلا ما سعى--* وأن سعيه سوف يرى--* ثم يجزاه الجزاء الأوفى". ولا تعوق رسلنا عندك، كما عوقت رسلنا من قبل "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". وقد بلغنا تجار الشام وغيرهم انهزموا إلى كروان سراي[1]، فإن كانوا في الجبال نسفنها وإن كانوا في الأرض خسفناها.

هذه طرق من الحرب النفسية التي كان المغول يشنونها ضد أعدائهم. واستمر المغول في هجومهم على ديار المسلمين وسقطت حلب وسلمت دمشق وسيطر المغول على بلاد الشام وكانوا شديدي الوطأة على المسلمين، فبادروا إلى تدمير الاستحكامات والأسوار والقلاع في البلاد التي خضعت لهم مثل حلب ودمشق وحمص وحماة وبعلبك وبانياس وغيرها، وحققوا بذلك ما لم يستطع تحقيقه الصليبيون من قبل، ولقد مال المغول منذ اللحظة الأولى لغزوهم للشرق الأدنى إلى العنصر المسيحي النسطوري. وأصبح الملك الناصر مسلوب الإرادة مرعوباً ليس له رأي ووقع أخيراً في أسر هولاكو الذي قام بقتله فيما بعد عند سماعه لهزيمة المغول في عين جالوت.

كان من نتائج سقوط بلاد الشام في أيدي المغول وحلفائهم أن عم الرعب والخوف سائر أرجائها، فهرب الناس، باتجاه الأراضي المصرية وكانت القيادة الإسلامية بمصر تستقبل فلول المسلمين من العراق والشام وتجهز نفسها لمعركة فاصلة مع المغول وكان السلطان سيف الدين قطز على رأس السلطة في مصر وكان يدرك أن بقاء دولته الفتية يتوقف على إجتيازه ذلك الإمتحان الكبير المتمثل في الغزو المغولي للممالك الإسلامية الذي استشرى خطره، وأن يثبت أنه بحق أهل للثقة التي أولاها إياه الأمراء في مصر ورجل الساعة بالفعل بعد اجماعهم على عزل الملك المنصور علي ابن المعز أيبك وتنصيبه على دولة المماليك وأخذ سيف الدين في إعداد الجبهة الداخلية، وحرص على رص الصفوف والتصالح مع المخالفين، وحكّم الشريعة الإسلامية في دولته واستجاب لتعاليم وترشيد الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ورد على رسالة هولاكو بإعلان الحرب على المغول والقبض على رسلهم وضرب أعناقهم أمام أبواب القاهرة وعلق رؤوسهم على باب زويلة وأبقى على صبي من الرسل وجعله من مماليكه وكانت تلك الرؤوس أول ما علق في مصر من المغول، وشرع في إعداد العدة للمعركة الفاصلة واستطاع المسلمون بقيادة سيف الدين قطز تحقيق نصراً ساحقاً على المغول وتمّ تطهير بلاد الشام من السيطرة المغولية، ورتّب سيف الدين قطز أمور الولايات الشامية، وبعد ذلك قصد البلاد المصرية وفي طريق عودته تمّ اغتياله على يد ركن الدين قطز ومجموعة من فرسان المماليك لأسباب تمّ بيانها وتفصيلها في هذا الكتاب، وذكرت أهم العوامل التي ساهمت في تحقيق النصر في معركة عين جالوت والتي منها:

1ـ القيادة الحكيمة.

2ـ توسيد الأمر إلى أهله.

3ـ الجيش القوي.

4ـ إحياء روح الجهاد.

5ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب.

6ـ عبقرية التخطيط.

7ـ بعد نظر سيف الدين قطز وقيادته الحكيمة.

8ـ توفر صفات الطائفة المنصورة.

9ـ سنة التدرج ووراثة المشروع المقاوم.

10ـ الاستعانة بالعلماء واستشارتهم.

11ـ الزهد في الدنيا.

12ـ صراعات داخل بيت الحكم المغولي.

13ـ سنة الله في أخذ الظالمين والطغاة.

وبينت أن الأسباب في انتصار المسلمين في عين جالوت متشابكة ومتداخلة، ويؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، وما ذكرنا من الأسباب ليس على سبيل الحصر وإنما هذا ما أمكن الوصل إليه ومع البحث والتنقيب في صفحات التاريخ، يمكن للباحثين والمهتمين أن يصلوا إلى المزيد، لكي نستخرج الدروس والعبر والسنن والقوانين المهمة في قيام الدول وسقوطها وانتصار الشعوب وهزيمتها، ومعرفة صفات قادة التمكين، وفقهاء النهوض قال تعالى: --* لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديث يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون --* --* يوسف، الآية:111 --* .

ولخصت أهم النتائج والآثار المترتبة على انتصار المسلمين في عين جالوت فذكرت منها:

1ـ تحرير بلاد الشام من المغول.

2ـ تحقق الوحدة بين الشام ومصر.

3ـ خمود القوى المناوئة للماليك.

4ـ انتصار الإسلام على الوثنية.

5ـ حدث حاسم في تاريخ البشرية.

6ـ روح جديدة في الأمة.

7ـ إنحسار المد المغولي.

8ـ فشل التحالف بين الصليبيين والتتار.

9ـ إضعاف الوجود الصليبي.

10ـ مدينة القاهرة عاصمة المماليك.

11ـ ميلاد دولة المماليك الفتية.

12ـ الدور الرمزي للخلافة العباسية.

13ـ تطوير الجيش المملوكي وتحديث عتاده وأنظمته.

لقد تعرفت من خلال دراستي في هذا الكتاب على طبيعة المشروع المغولي ونقاط ضعفه وقوته، وكيف استباح العالم الإسلامي وتهاوت مدن المسلمين، كبخارى وسمرقند وكابل وبغداد وغيرها أمام جيوش المغول، فاستباحت الديار وهتكت الأعراض، وصودرت الممتلكات وغابت أسباب النصر، وتعمقت عوامل الهزيمة في الأمة أمام المشروع الغازي ومضت السنن والقوانين الإلهية وعملت عملها ولم تجامل أحد، وما تغيرت ولا تبدلت والناس في همّ وغمّ وذل وضعف وخور، وصغار، حتى استوعبت القيادة الإسلامية في مصر فقه المقاومة وادارة الصراع وعرفت كيف تدفع أقدار الله بأقداره من خلال سنن النهوض، وأسباب النصر، فكانت النتيجة المذهلة في معركة عين جالوت لقد تحرك سيف الدين قطز من خلال مشروع اسلامي ملك مقومات الصمود والتحدي وحقق الانتصار، فكانت الرؤية واضحة والهوية صافية، والبعد العقائدي حاضر، والفقه السياسي ناضج، والقوة العسكرية متفوقة في مجاليها المعنوي والمادي، وعرف سيف الدين قطز مكانة العلماء في الأمة وقوة تأثيرهم ونفوذهم الروحي على الشعب فقربهم واحترمهم وفتح لهم أبواب التعليم والوعظ والإرشاد فقاموا بدور كبير في تعبئة الأمة ودفعها لكي تلتف حول المشروع الإسلامي الذي قاده سيف الدين قطز.

إن تاريخ الأمة ثروة فكرية لا تفنى، وكنوز علمية لا تنفذ، تمنحنا الأصالة وعز الإيمان وشرف الانتماء فيعيننا هذا المخزون الحضاري في تشكيل الحاضر واستشراق المستقبل واستئناف الحياة الكريمة في ظل مجتمع إسلامي تسوده العقائد الصحيحة وتزكيه العبادات السليمة وتحركه مشاعر رفيعه وتحكمه تعاليم الإسلام وتوجه اقتصاده وفنونه وسياسته على أننا إذا تلفَّتنا إلى الماضي فلا نلتفت إليه لنرجع القهقري ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعياً إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد والمستقبل المشرق، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد إننا نعلم أن الاستغراق في الماضي وحده نوم أو جمود والاستغراق في المستقبل وحده هوس وجنون، والاستغراق في الحاضر وحده عجز وقعود، ونحن نريد أن نستمد من الماضي دافعاً وحافزاً، ومن المستقبل موجّهاً ومرشداً ومن الحاضر عماداً وسناداً.

ونحن نعلم أن هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب ونعلم أن السجين المصفّد بالاغلال لا يطلقه تذكر الحرية والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي واستعراض ألوانها وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه والزهو بما ضاع فيه، وأن الذلة لا تُدفَع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده، ولكننا نعلم أيضاً أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد ولا يجد حافزاً إلى الإنطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغنى يطمئن إلى الفقر ولا يجد دافعاً إلى الإستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذل ولا يجد قوة على دفعه، فإذا اطمئنّنا إلى جلال ماضينا وحسبنا أن خطبة بتجميده ومقالة بالإشادة به تغنينا وتكفينا فلن يعود لنا هذا الجلال أبداً، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض وأساتذة الدنيا لم يحرك أعصابنا شيء إلى إستعادة هذا المجد، فلنأخذ من الماضي بقًدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يثبط ويُقعد وينيم إننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبداً لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي، ونترك ثمرات الحاضر، ولكن نعود إلى المُثُل العلياء وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن، فكما أن الذهب والألماس لا يغيرّه القِدَم ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن[2].

نحن نريد نعود إلى حياة الإيمان، والتقوى، والإحسان والعدل، والعبودية الخالصة لله عز وجل والشريعة الحاكمة على الأفراد والشعوب والأمة والدول ونتحرر من أنواع الشرك ما ظهر منه وما بطن ونعمل لقول الله تعالى: "وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون--* وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون --* --* النور، الآية : 55 ـ 56 --* .

إن أمر النهوض بهذه الأمة والتصدي للمشاريع الغازية يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القران الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه للوصول إلى القوى بمفهومها الشامل وقد قال الأصوليون: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[3].

إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم ظالمون" --* الأنفال، الآية : 60 --* وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصّلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاماً عالمياً وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد ويقابلوا الريح بالإعصار ويقاتلوا الغزاة بكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون[4].

إن قادة المماليك قدموا للأمة أعمالاً جليلة في الفداء والبطولة، فقد استطاعوا أن يقاوموا طوال فترة حكمهم عدوين غاشمين، كانت لهم أطماع في البلاد الإسلامية دينية وسياسية واقتصادية هما المغول والصليبيون، غير أنهم جميعاً لم يستطيعوا تحقيق رغباتهم ولا الوصول إلى اهدافهم إذ كان المماليك يقفون سداً منيعاً حماية للبلاد الإسلامية ودفاعاً عن الدين والأخلاق، فكان جهادهم في هذا المضمار من أعظم الأعمال التي قاموا بها وكانت وقائعهم مع أعداء الإسلام صفحات مضيئة ومشرقة يستفيد منها ويقتدى بها المسلمون كلما أرادوا العزة والكرامة، لقد استطاع المماليك أن يثبتوا كفاءتهم وشجاعتهم في الميادين العسكرية والسياسية، فنظر إليهم حكام الدول الإسلامية وشعوبها نظرة إكبار وإجلال في حين نظرت إليهم القوى الدولية الأخرى نظرة خوف واحترام، فحرصت على ملاطفتهم ومسالمتهم أو مهادنتهم اتقاء بطشهم وانتقامهم وبذلك تكون دولة المماليك قد فرضت احترامها على الأعداء والأصدقاء وتسابق الجميع في كسب مودتها وإقامة العلاقات معها، وشهدت القاهرة نشاطاً سياسياً ضخماً في تلك الحقبة من تاريخ المماليك[5].

وقد وصف عصر المماليك بأوصاف واتهامات جائرة، فوصف بأنه عصر تدهور واضمحلال، وعصر تخلف وجمود وعصر إجترت فيه العلوم اجتراراً، إلى غير ذلك من الأحكام التي انطلقت من أفواه المستشرقين خاصة، فعلى الرغم من أن الحقائق تشير إلى أن أضخم إنتاج فكري في العصور الإسلامية قد جاءنا من عصر المماليك إلا أن المستشرق الفرنسي جاستون فييت يعده إنتاجاً من الدرجة الثانية، ويقول عن ذلك: ولكن القاهرة لم تكن في أي وقت مضى مركزاً علمياً في مستوى بغداد وقرطبة، وكانت في القرنين الرابع عشر والخامس الميلاديين ـ الثامن والتاسع الهجريين مركزاً للسياسة والإدارة وبصفة خاصة للتجارة العالمية، ورغم أنها احتفظت بذوقها الفني الرفيع، فإنها في مجال الإنتاج الفكري كانت من الطبقة الثانية[6]، ويصف بروكلمان هذا الإنتاج بأنه، إنتاج يكاد يكون خلواً من الأصالة والإبداع بالكلية[7]، وثم إننا نجد أن عدداً من الباحثين العرب والمسلمين قد انساقوا وراء آراء المستشرقين، فأصيبوا بداء الإعجاب بهم، فانطلقت أكثر أحكامهم من حدود آراء المستشرقين، ولم تنطلق من دراسة علمية متخصصة وموضوعية، وهؤلاء الباحثين الذين ساروا على نهج المستشرقين، كفيليب حتى ابتعدت أحكامهم عن الموضوعية وجاءت مطلقة، كما ورد في رأي بروكلمان الذي جعل العصر المملوكي بطوله وعرضه خالياً من الإنتاج الأصيل المبدع بالكلية وقاصرة كما جاء في رأي جاستون فييت الذي وصل إلى رأي لا أظن أن أحداً من الباحثين يسمع له فيه عندما قصر الحياة الفكرية على مقدمة ابن خلدون وحدها في عصر امتد قرابة قرون ثلاثة، وخلَّف العشرات من العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان ويعرفهم الصغير والكبير، لقد حاول غالبية المستشرقين أن يصفوا عصر المماليك بعصر الإنحطاط وتخلف وجمود بدافع من الجهل أو الحقد أو كليهما ثم تابعهم كالعادة بعض المؤرخين والعلماء المحسوبين على ثقافتنا وحضارتنا ورددوا هذه الأقاويل حتى وسموا عصر المماليك كله بالتخلف والإنحطاط والهجين والفوضى، والإنحلال، والواقع أن هذا الرأي الذي يؤيده غالبية المستشرقين ـ كما تتشدق به غالبية المستغربين من أهل المشرق ـ ينطلق من حقد الغربيين الدفين على المماليك الذين دمروا الصليبيين وأجلوهم عن الشام، كما دمروا حلفاؤهم المغول، وحفظوا لبلاد الشام والأماكن المقدسة فيها والحجاز إستقلالها قرابة ثلاثة قرون في فترة زمنية قياسية[8].

إن الحقائق التاريخية تثبت للباحثين المنصفين، بأن عصر المماليك لم يكن بحال من الأحوال عصر إنحطاط، بل هو الذي ظهرت فيه حضارة عظيمة في مختلف نواحي الحياة، لقد كان عصر المماليك هو العصر الذهبي في العمارة الإسلامية، وهذا يبدو اليوم بوضوح تام في القاهرة التي سميت بمدينة الألف مئذنة والتي تنتشر فيها الآثار المملوكية الهائلة بدءاً من البيمارستان المنصوري إلى جامع السلطان حسن، وخانقاه بيبرس الجاشنكير ومسجد الأمير أيبك ومسجد الغوري وغير ذلك[9]، وأما الذين لم يزوروا القاهرة، فبإمكانهم مشاهدة الآثار المملوكية في دمشق مثل الدراسة الظاهرية، والجقمقية التي بجوارها، وبين هذه وتلك يمكنهم مشاهدة نموذج رائع من نماذج العمارة المملوكية وهو المئذنة الغربية من مآذن الجامع الأموي التي أمر ببنائها السلطان قايتباي بعد حريق الجامع الأموي 884هـ وتم ذلك في بضعة شهور[10].

وفي ميدان الفكر قد امتاز العصر المملوكي بأنه عصر الموسوعات الكبرى في الآدب والتاريخ والتفسير والفقه والحديث وغيرها، ففي علوم الدين والفقه والحديث نجد الموسوعات الضخمة للإمام النووي وابن تيمية وابن رجب والبدر العيني وابن حجر، وفي التاريخ نجد اليونيني والبرزالي وابن كثير وابن خلدون وابن تغري بردي والنويري وفي الموسوعات العلمية نجد مسالك الأبصار، وصبح الأعشى، وخطط المقريزي وغيرها، وهؤلاء وأمثالهم حفظوا لنا التراث الإسلامي بالدرجة الأولى ثم زادوا عليه حتى أصبحنا اليوم نعرف أدق التفاصيل عن القاهرة في عصر المماليك، وهناك جانب آخر من الحضارة المملوكية لم يلتفت إليه الكثيرون ونعني به الجانب العسكري، ذلك أن الانتصارات المذهلة التي حققها المماليك على برابرة الشرق والغرب أي على المغول والصليبيين في غضون أربعة وأربعين عاماً فقط من سنة 658هـ ـ 702هـ فقد تحققت بسبب الشجاعة والعقيدة ونتيجة ازدهار ما يسمى بلغة اليوم بالصناعات الهندسية والعسكرية، التي مكنت المسلمين من تحرير قلعة عكا في فلسطين، وهو الفتح المبين الذي لم يكن في أهميته عن فتح القسطنطينية فيما بعد بشهادة الغربيين أنفسهم لقد كانت دولة المماليك من حيث طبيعتها إمتداداً طبيعياً للأيوبيين ولمن سبقهم من الملوك والسلاطين، فهي دولة عريقة الحضارة، أعجمية الحكام، تقود الجهاد الإسلامي في وجه الخطر الذي كان يتهدد المسلمين[11]، ومن الأوهام التي تأثر بها كثير من الباحثين هو أن تدمير المغول لبغداد عام 656هـ ـ 1258م كان نهاية الحضارة الإسلامية، ولذلك لا يتطرقون إلى ذكر شيء من إبداعات عصر المماليك وإنجازاته، وهذه فكرة خاطئة ووهم يتطلب الوقوف عنده كثيراً[12]، وسنجيب عنها بإذن الله تعالى في كتبنا القادمة ونبين الحياة العلمية والفكرية وأشهر الأعلام في عهد المماليك.

إن هذه الأمة تنبض بالحياة، وقادرة على تجاوز المحن العظيمة، وأثبت التاريخ بشواهده ووقائعه بأن طاقاتها الكامنة تتفجر عندما تتعرض للمخاطر والشدائد وحينئذ تستجمع قواها وتستثير كوامنها وتظهر ذخائرها وتتصدى للمشاريع الغازية والمصائب القاسية، بإيمان عظيم وصبر جميل حتى يجعل الله من ظلام ليلها صباحاً مشرقاً ونهاراً مضيئاً، قد رأينا الصحابة الكرام، وفتوحاتهم الربانية وسار على هديهم التابعون بإحسان، ولما جاءت جحافل الصليبيين والمغول تصدى لهم السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك، وكان الإسلام هو المحرك لقادة الجهاد الإسلامي من أمثال عماد الدين، ونور الدين، وصلاح الدين، وسيف الدين قطز، وركن الدين بيبرس، ومن سار على نهجهم، ولسان حال المسلمين في الماضي وفي الحاضر والمستقبل قول الشاعر:

أنا مسلمُ أنا مسلمُ هذا نشيدي المُلَهمً

من أعمق الأعماق أبعث لحنه يترنم

رُوحي تُردِّدُه وقلبي والجوارح والدَّمد

شوقاً وتحناناً لأمجاد لنا تتكلم

أنا مسلمُ أنا مسلمُ بالرغم ممن يحقدون

أنا هاهنا بشريعتي في موكب الحق المبين[13]

وبقول الشاعر:

أظننت دعوتنا تموت بضربة خابت ظنونك فهي شر ظنون

بليت سياطُكَ والعزائمُ لم تزل منا كحد الصارم المسلول

تالله ما الطغيان يهزم دعوة يوماً وفي التاريخ برُّ يميني

ضع في يديَّ القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي ناصري ومعيني

سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي وأموت مبتسماً ليحيا ديني[14]



إن الذين استطاعوا التصدي للمشاريع الغازية، وانتزاع المدن والقلاع والحصون من المغول والصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح، وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم، إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرق مستقبلها.

إن قراءة التاريخ تضيف للباحث والقائد والزعيم والملك والرئيس أعمار السابقين وأما الوعي بالتاريخ فإنه يوظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع، واستشراف المستقبل، ولذلك يستحيل التقدم وينعدم النهوض عند الذين لا يفقهون ولا يتعرفون على سنن الله وقوانينه وعبره وعظاته من خلال التاريخ.

إن النهوض بوجه عام يحتاج إلى سلاح القلم واللسان ولم ينجح مشروع نهضوي عبر التاريخ من غير أقلام قوية أو ألسنة تعبر عن قلوب صادقة تدعو إليه وتنشر مبادئه بين الناس وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الحوار والجدال والصراع والممانعة والمطالبة بالحقوق، وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد والثقافات والمناهج وهي تسبق التدافع السياسي والعسكري فأي برنامج سياسي توسعي طموح يحتاج لعقائد وأفكار وثقافة تدفعه، فالحرف هو الذي يلد السيف، واللسان هو الذي يلد السنان، والكتب هي التي تلد الكتائب، إن موسوعة الحروب الصليبية، والتي صدر منها كتاب السلاجقة وعصر الدولة الزنكية، وصلاح الدين الأيوبي، والحملات الصليبية الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة وهذا الكتاب، قد أجابت عن الكثير من الأسئلة المطروحة على الساحة القطرية والإقليمية والعالمية، وهذه الحقبة من تاريخ الأمة تأتي شاهداً تاريخياً مقنعاً على أن الإسلام قادر في أية لحظة تتوافر فيها النية المخلصة، والإيمان الصادق، والإلتزام المسؤول، والذكاء الواعي واستيعاب فقه السنن والنهوض وقوانين الحضارات وبناء الدول على إعادة دوره الحضاري والقيادي، واخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب--* السلطان سيف الدين قطز --* يوم الخميس من تاريخ 17 صفر 1430هـ/ الموافق 12/2/2009م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للإنتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" --* فاطر، الآية : 2 --* .

ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب أمام خالقي العظيم وإلهي الكريم معترفاً بفضله وكرمه وجوده متبرئاً من حولي وقوتي ملتجئاً إليه في كل حركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي، فالله خالقي هو المتفضل، وربي الكريم هو المعين وإلهي العظيم هو الموفق، فلو تخلّى عني ووكلني إلى عقلي ونفسي، لتبلد مني العقل، ولغابت الذاكرة، وليبست الأصابع، ولجفت العواطف، ولتحجرت المشاعر، ولعجز القلم عن البيان، اللهم بصّرني بما يرضيك وأشرح له صدري وجنبي اللهم ما لا يرضيك وأصرفه عن قلبي وتفكيري، وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل عملي لوجهك خالصاً ولعبادك نافعاً وأن تثيبني على كل حرف كتبته وتجعله في ميزان حسناتي، وأن تثيب إخواني الذين أعانوني على إتمام هذا الجهد الذي لولاك ما كان له وجود ولا إنتشار بين الناس، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير، إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه قال تعالى: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" --* النمل ، آية : 19 --* .

وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: "ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم" --* الحشر، آية : 10 --* .

--* سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك --* .

الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه ، علي محمد محمد الصلابي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين.







--------------------------------------------------------------------------------

[1] كان هذا اسم مصر عند التتار.

[2] فصول في الدعوة والإصلاح صـ14.

[3] فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم صـ123.

[4] المصدر نفسه صـ224.

[5] الحسبة في العصر المملوكي صـ267.

[6] القاهرة مدينة الفن والتجارة، مصفى العبادي صـ106 ـ 107.

[7] تاريخ الشعوب الإسلامية صـ371.

[8] العصر المفترى عليه عصر المماليك البحريةصـ13.

[9] المصدر نفسه صـ13.

[10] المصدر نفسه صـ13.

[11] العصر المفترى عليه عصر المماليك البحرية صـ14.

[12] المصدر نفسه صـ15.

[13] صلاح الأمة في علو الهمَّة (6/516).

[14] صلاح الأمة (6/528).


يتبع



يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق