إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 11 أبريل 2013

109 السّلطان سيْف الدّين قطز ومَعْركة عَيْن جالوت في عهد المماليك


109

السّلطان سيْف الدّين قطز ومَعْركة عَيْن جالوت في عهد المماليك

سادساً أسباب إنتصار المسلمين في عين جالوت

 1 ـ القيادة الحكيمة

أكرم الله الأمة في تلك الفترة التاريخية الحرجة، بالسلطان سيف الدين قطز وكان رجلاً صالحاً، كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى الشرب ولا شيئاً مما يتعاطاه الملوك[1]، وكان شجاعاً وبطلاً، كثير الخير، ممالئاً للإسلام وأهله وهم يحبونه[2]، وكان مقداماً حازماً حسن التدبير، وكانت الأمة في أشد الحاجة لقيادة حكيمة، تتصف بصفات فذة، فقد جاءت مواهبه موافقة لحاجات الأمة[3]، شهد معارك كثيرة مع الأيوبيين مما أتيح له خبرة في الحروب وكان مهيأ نفسياً منذ نعومة أظفاره في أن يكون قائداً فذاً، يشار إليه بالبنان، ويكون صاحب شأن في مجريات الأحداث في مصر والشام، وكان يعتز بعقيدته الإسلامية ويفاخر بها وكان يحمل الضغينة والحقد على المغول الذين أذاقوا خوارزمشاه ومن معه شراً ووطأوا بلادهم وساموهم سوء العذاب، وكان له من الصفات الجسمية ما يؤهله لأن يكون قائداً، فهو قوي البنية، مستدير الوجه، عريض الكفين، ممتلئ الجسم، أشقر، كث اللحية، وكان من البارزين في الفروسية والحاذقين في إستخدام الرمح، فإذا أتاه الخصم من الخلف رمى الرمح أمامه بقدر ثلث حتى إذا كان الرمح بين كتفي قطز أبطله وغرز رمحه في صدره لا محال[4]، ولما داهم الخطر الأرض الشامية والمصرية وتحرك المغول بجيوشهم لكي يقضوا على المماليك إتخذ قطز حينذاك عدة إجراءات دفاعية منها: الترحيب بالهاربين من المماليك، وتناسيه الضغائن والأحقاد والخلافات التي كانت بينه وبينهم، وعزل الملك المنصور علي لصغر سنه وعدم قدرته على ترتيب الأوضاع التي تحتاج إلى حزم ووحدة، وقيادة قادرة على محاربة المغول وذلك سنة 657هـ/1259م، وتحضير الإمكانيات وحشد الطاقات البشرية والاقتصادية ومحاولة التحالف مع الملك الناصر صاحب الشام، وتوحيد القوتين ليكون الجيش أقوى في مواجهة أعدائه[5]، لقد كان سياسياً إستراتيجياً مخططاً أكثر منه مقاتلاً إذ إستطاع في مدة بسيطة أن يسوس بلاد الشام، وأن يحسن إلى الشعب، ويقدم له الأمن والسلامة والاستقرار، وأن يهيء له سبل العيش الكريم، وأن ينظم الأمور الإدارية، ويعين الحكام الإداريين للمدن التي إحتلها واستردها التتار[6].

إنما يتميز به هذا السلطان هو الإيمان بالله عز وجل، الذي لا يرقى إليه ريب ولا شك، والفطرة السليمة التي جبل عليها وتربى في ظلالها والعيش الصعب الذي أهله للصبر والوقوف أمام الشدائد، وتقلبه في البلاد، والحرمان الذي قاساه في صغره، والتربية التي خضع لها، وتمت عقيدته ورسخ إيمانه، وهذب نفسه، وأصلح باله، وقوى من عزيمة الجهاد، ومن الاستهانة بالموت، ومن الإقدام والعزيمة على قتال المغول، ومن الوثوق الكامل في الله بالنصر عليهم[7]، وقد دلت حروب قطز التي خاضها مع الأيوبيين وضد الأمراء الهاربين إلى الكرك، وضد الأمراء الذين حاولوا إغتصاب السلطة، وفي معركة عين جالوت، على أنه قائد حرب إستراتيجي من الطراز الأول، فهو خفيف الحركة على حصانه، وهو الذي أجاد في القتال بالأسلحة المستخدمة آنذاك، وكان صاحب قرار تميز بالوضوح والدقة، والنظر الثاقب، وجلاء الهدف، وبيان الحقيقة خاصة فيما يتعلق بمعركته هذه مع المغول، وهو حازم وقت الشدة ومصمم على بلوغ النصر مهما كانت العقبات أمامه، ومتفهم لقدرة عدوه ومقدر لقوة الصديق، وكان لكل شيء حسابه، ويدقق المعلومات ويحافظ على مرؤوسيه ويستميلهم بأسلوبه الجذاب، ويتعاون مع أركانه ويعطيهم الثقة، ويمنحهم المساعدة والعطاء، وكان منظماً قاد الكتلة الرئيسية من الجيش في معركة عين جالوت، فنظم الميمنة والميسرة والقلب، وأناط لكل جناح قائداً شجاعاً ونسق الصفوف إلى عدة تراتيب، وجعل الميمنة تتقدم بالإحاطة والميسرة بالإلتفاف والقلب بالتقدم البطيء الزاحف، كما بث الحرس المتحرك على الأجناب والكمائن في المواقع التي لا يتوقعها العدو، مما جعله يتمكن من عدوه، ويقضي عليه بعد أن استدرجه للوقوع في النقطة الميتة التي وقع فيها عدد كبير من قتلى المغول، ولقد حدد قطز قواعد وأسس الشئون الإدارية في الجيش المملوكي، إذ إستطاع أن ينظمها ويحدد خطوطها العريضة بخاصة فيما يتعلق بحركتيها وخفتها، وقد ظهر ذلك جلياً عندما حدد لصاحب حماه كيفية ونوع الإمداد، وعندما أكد على أن الجندي يجب أن يكون خفيف الحركة لا يثقله الطعام الكثير المتنوع فأمر بوضع قطعة من اللحم في مخلاة عسكرية[8] ومما يشار إليه أن قطز كان متديناً عفيفاً، صاحب تقوى وورع، وهذه الصفة أكسبته الشجاعة والإقدام في الحروب، وجعلته يستبسل ويقدم روحه رخيصة، ويستهين بالموت، وبخاصة عندما قتل حصانه، واستمر في القتال دون جواد، وكان في مقدمة الجيش يقاتل عن حمية وعقيدة[9]، وكانت له مواقف إيمانية متميزة منها:

أ ـ وضوح الرؤية ونقاء الهوية: كان على إعتقاد جازم بأن النصر لا يكون إلا من عنده سبحانه وتعالى، ولذلك إهتم قطز بالناحية الإيمانية عند الجيش وعند الأمة وعظم دور العلماء وحفز شعبه لحرب التتار من منطلق إسلامي وليس من منطلق قومي أو عنصري، ولخص ذلك في عين جالوت في كلمته العظيمة * وا إسلاماه *  ولم يقل: * وا مصراه * ، أو * وا ملكاه * ، أو * وا عروبتاه * ، لقد كانت الغاية واضحة والهوية إسلامية تماماً، ووضوح الرؤية ونقاء الهوية كان سبباً من أسباب النصر، بل هو أعظمها على الإطلاق[10].

ب ـ الدعاء سلاح فتاك: حرص سيف الدين قطز قبل بدء المعركة أن يتأخر الناس في مواجهة الأعداء كما قال: حتى تدور الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم[11]، وكان هذا العمل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده حيث كانوا يحبون أن يكون القتال بعد الزوال، وقد نشبت المعركة وكان القتال شديداً على المسلمين، حتى أن الأعداء كادوا يزيلونهم عن مواقعهم، وكان السلطان قطز يثبت الناس وينحاز إلى بعض نواح الجيش حينما يحس ضعفاً منهم حتى يقوي من عزيمته ويشجعهم، وكان له عدة مواقف شجاعة أثناء المعركة[12].

جـ ـ الحرص على الشهادة: في معركة عين جالوت، قتل جواده ولم يجد أحداً في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً والقتال على أشده في المعركة، وهو في موضع السلطان من القلب، فلما رآه أحد الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها، فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل فركب، فلامه بعض الأمراء وقال: يا خونت لم لا ركبت فرس فلان فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك، فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان، حتى عدَّ خلقاً من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم ولم يضع الإسلام[13]. فهذا موقف جليل لهذا الأمير البطل دلَّ على تواضعه وعدم إهتمامه بحفظ نفسه في سبيل مصلحة المسلمين العامة، كما يدل على تذكره عظمة الإسلام، والهدف العالي الذي ينشده المؤمنون حقاً وهو إبتغاء رضوان الله تعالى والجنة[14].

س ـ رؤيا صادقة: كان من أهم الحوافز للأمير سيف الدين قطز على الإقدام على حرب التتار رؤيا صالحة رآها في صغره، وكان يحدث بها أصحابه، حيث قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه[15]. فهذه الرؤيا الصالحة كانت هي الدافع الأكبر لمظفر الدين قطز بأن يقدم على قتال التتار بعزم وقوة، بعدما نكل عن ذلك كثير من الأمراء أو قاتلوهم بضعف وخوف، لقد دخل مظفر الدين تلك المعركة وهو على يقين قوي وثقة كاملة بنصر الله تعالى له ولجنده، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يدخلون المعارك وهم يحملون في أفكارهم وعد النبي صلى الله عليه وسبم بالتمكين في الأرض، وما دامت هذه الرؤيا قد انتشرت، فإن الذين علموا بها من جنوده وقادته سيكونون على درجة عالية من الثقة واليقين بالنصر، فكان ذلك دافعاً قوياً له إلى بذل كل ما يستطيعون من طاقة في سبيل الله تعالى[16]، وذلك من أسباب النصر على أعدائهم.

ش ـ القدوة: كان سيف الدين قطز متواضعاً وضرب أفضل الأمثلة لجنوده ولأمته في كل الأعمال، وتربية القدوة أعلى آلاف المرات من تربية الخطب والمقالات، كان سيف الدين قدوة في أخلاقه وفي نظافة يده وفي جهاده وفي إيمانه، وفي عفوه، ولم يشعر الجنود أبداً بأنهم غرباء عن قطز، لقد نزل ـ رحمه الله ـ بنفسه إلى خندق الجنود وقاتل معهم فكان حتماً أن يقاتلوا معه[17].

ع ـ عدم موالاة أعداء الأمة: لم يوال سيف الدين قطز التتار أبداً مع فارق القوة والإعداد بينهما، كما لم يوال أمراء النصارى في الشام مع إحتياجه لذلك، لقد سقط الكثير من الزعماء قبل قطز في مستنقع الموالاة للكفار، وكان منطلقهم في ذلك أنهم يجنبون أنفسهم أساساً، ثم يجنبون شعوبهم بعد ذلك ـ كما يدعون ـ ولايت الحروب، فارتكبوا خطأً شرعياً شنيعاً، بل إرتكبوا أخطاء مركبة، فتجنب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه خطأ آخر، وموالاة العدو وإعتباره صديقاً خطأ ثالث، لكن قطز كان واضح الرؤية بفضل الله ثم تمسكه بشرعه سبحانه وتعالى[18]، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" * المادة ، آية : 51 * .

لقد كان سيف الدين قطز من القيادات الحكيمة التي إستطاعت أن تأخذ بعوامل النصر وتتعامل مع أسبابه، وجمع بين الأسباب المادية والمعنوية، وبعد المعركة قرر المظفر قطز مواصلة الجهاد فجمع جيشه وأمراءه ونزل إلى الأرض، ومرغ وجهه بالتراب، وصلى ركعتين شكراً لله على هذا النصر، ووقف فيهم خطيباً، وقال: لقد صدقتم الله الجهاد في سبيله فنصر قليلكم على كثير عدوكم إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكروا الله واخضعوا لقوله وجلاله أنه ذو القوة المتين، واعلموا أنكم لم تنتهوا من الجهاد وإنما بدأتموه وإن الله ورسوله لن يرضيا عنكم حتى تقضوا حق الإسلام بطرد أعدائه من سائر بلاده، ويموئذ يفرح المؤمنون بنصر الله[19].

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق