58
السّلطان سيْف الدّين قطز ومَعْركة عَيْن جالوت في عهد المماليك
ثانياً سلطنة عز الدين آيبك
5 ـ تمرد القبائل العربية ضد المماليك في مصر
ومن المشاكل التي اعترضت السلطان آيبك، هي ثورة بعض القبال العربية أو ما يسمى بالعربان في مصر سنة 1253م. من المعروف أن القبال العربية استوطنت مصر بعد الفتح الإسلامي وتأثرت بالبيئة المصرية الزراعية، وأخذت تتحول تدريجياً إلى شعب زراعي مستقر، ولا سيما في أقاليم الصعيد والشرقية وأطلق عليهم إسم العرب المزارعة، وكان هؤلاء الأعراب يقومون بفلاحة الأرض على مقربة من القرى القديمة الآهلة بالفلاحين من أهالي البلاد، غير أنه يلاحظ أن هؤلاء الأعراب كانوا يتمتعون بمركز إجتماعي أعلى مرتبة من الفلاحين بسبب المساعدات الحربية التي كانوا يؤدونها للدولة في وقت الحرب ولا سيما إبان الحروب الصليبية وكان مشايخ العربان تقع عليهم تبعة حفظ النظام في القرى والأرياف كذلك مساهمتهم في الإنتاج الزراعي ودفع الخراج، وكان تعسف أمراء المماليك في تحديد أثمان المنتجات الزراعية وإحتكارها والتلاعب في أسعارها أحياناً، من الأسباب التي دفعت بهؤلاء المزارعين العرب إلى القيام بثورات متعددة طول العصر المملوكي وهذه الثورات عرفت في الكتب المعاصرة باسم * فساد العربان * ، وكانت تنتهي في العادة بهزيمة العرب، نظراً لبراعة المماليك في فنون القتال[34]، وتجريد العرب من وسائل الدفاع المؤثرة، ففي منشور صدر في عصر المماليك جاء ما يلى:… فلا يمكن أحداً من العربان ولا من الفلاحين أن يركب فرساً فإنما يعدها للخيانة مختلساً ولا يكون لها مرتبطاً ولا محتسباً، وكن لهم ملاقياً مراقباً، فمن فعل ذلك فانتقم منه بما رسمنا معاقباً ولا تمكنهم من حمل السلاح، ولا ابتياعه ولا استعارته ولا استيداعه وتفقد من بالأقاليم من تجارة وصناعة فخذ بالقيمة ما عند التجار، وأقمع بذلك نفس الفجار وأخرم نار العذاب على من أخرم لعمل ذلك النار[35]. وورد في منشور آخر ما يلي:… ولا يمكن أحداً من العربان بجميع الوجه القبلي أن يركب فرساً ولا يقتنيه ويكفي بذلك الأيدي المعتدية فإن المصلحة لمنعهم من ركوبها مقتضية … ومن وجد من العربان خالف المرسوم الشريف من منعه من ركوب الخيل كائناً من كان ضرب عنقه وأرهقه من البطش بما أرهقه ليرتجع به أمثاله، ولا يتسع لأحد في الشرق مجاله[36]، ويرجع أسباب الصراع القائم بين العرب والمماليك إلى أن المماليك الذين أستولوا على الحكم لم يكونوا من أهل البلاد وإنما كانوا مجرد وافدين لأغراض حربية، فحسب، كما أنهم لم يرتبطوا مع الشعب المصري بروابط المصاهرة والنسب وظلوا منعزلين عن أفراد الشعب ومع ذلك فإنه إذا كان للمماليك دور فعال في الدفاع عن مصر وحمايتها من أعدائها فإن للمصريين والعرب دورهم أيضاً في الدفاع بنفس القدر الذي كان للمماليك ولذلك فقد رأى العرب أنهم أحق من المماليك الغرباء بحكم مصر[37]، فقامت الثورات ضدهم وأستخدم المماليك في قمع تلك الثورات وسائل متعددة تنطوي على القسوة والقهر، من وسائل قتل وتعذيب معروفة في ذلك العهد وقد أدت هذه السياسة إلى هجرة عدد كبير من المزارعين إلى المدن الكبرى بغية التسول أو السرقة أو الإشتراك في المنازعات والإضطرابات الداخلية التي كانت بين أمراء المماليك، وكانت دوافع تلك الثورات اقتصادية وسياسية، ولا شك أن الدافع السياسي وسعي بعض القبائل العربية للقضاء على حكم المماليك ولّد ردة فعل لديهم مما جعلهم يستخدمون سياسة العنف والقسوة في قمع الثورات خوفاً على سلطانهم وأول وأخطر ثورة قام بها الأعراب أيام المماليك، هي الثورة التي قاموا بها في عهد السلطان أيبك التركماني عام 651هـ /1253م وأسباب هذه الثورة ترجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية كما أسلفنا، فالمماليك منذ أن أنتصروا على الأيوبيين في وقعة العباسية وتدخلت الخلافة في صالحهم اعتقدوا أن البلاد وما فيها صارت لهم ولا منازع، فبالغوا في الفساد والاستهتار وزيادة الضرائب، إلى درجة أن بعض المؤرخين أمثال المقريزي وأبي المحاسن، فضلوا عليهم الصليبيين وقالوا لو أن الفرنج ملكوا مصر ما فعلوا فعلهم[38].وهذا كلام لا يستقيم أمام الوقائع التاريخية فالفرنج لما تمكنوا من ثغر دمياط في الحملة الصليبية، عملوا ما تقشعر منه الأبدان وتشيب منه الرؤس، وفصلنا كثيراً من أعمال الفرنج في كتبنا السابقة عن الحروب الصليبية، وقد حاول بعض المؤرخين أن يقدم لنا صفحات التاريخ المملوكي بلون أسود مظلم قاتم، ومع اعترافنا بالحقيقة المرّة أن تمزقاً كان يقوم بين طوائف المجتمع في عهد المماليك وبين الأمراء المماليك أنفسهم وولاءتهم المتعددة، فإن إشراقة من الإيمان تطل علينا وشموعاً تضاء في دهاليز الذات لدى هذا القائد أو ذاك، عندما يمس الإيمان شغاف قلبه، ويحرّك القرآن فيه روح الجهاد والاستشهاد، إن من التجني أن ننسى الدور الرائد الفذ الذي قام به الظاهر بيبرس والمظفر قطز في قيادة جيش إسلامي وقف كالطود الشامخ في وجه الزحف التتري، الذي كان يستهدف عقيدتنا، وديارنا وأمتنا ويسى لإجتثـاث ذلك كله من الوجود، وكانت النتيجة إندحار الغزاة وهزيمة المعتدين بوحدة الصف ودافع الإيمان الصادق المتين[39].إن معركة عين جالوت تمثل معلماً مضيئاً في خضم الظلمات ومثلها معالم أخرى، كتحرير بلاد الشام من المشروع الصليبي في عهد المنصور بن قلاوون والمدارس التي بنيت والمكاتب التي أوقفت والمساجد التي شيدت وصرح الخير والبر والمرحمة، والحركة العلمية الموسوعية التي قادها علماء ذلك العصر، كالنووي وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير والمزي والسبكي والمقريزي وابن خلدون والسيوطي وغيرهم كثير، وهذا ما سوف نعرفه في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
الحقيقة هناك تجاوزات حدثت في عهد المماليك منها استخدام العنف الغير مبرر ضد المعارضين مما ولّدت ردة فعل عكسية قال أبو المحاسن: إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق، وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب ومر بالطرقات، ويقولون لا نريد إلا سلطاناً رئيساً مولوداً على الفطرة[40].وتزعم تلك الثورة الشعبية شريف علوي وهو حصن الدين بن ثعلب الذي طمع في السلطنة، وصرح بأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للعبيد الأرقاء[41]، وأقام دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى، وفي منطقة الشرقية بالوجه البحري وكانت قاعدة هذه الدولة بنواحي الفيوم في بلدة تعرف بذروة سريام أو ذروة الشريف * نسبة إليه * وتقع بين النيل وترعة المنهى التي هي الآن بحر يوسف[42]. واتصل الشريف حصن الدين بالملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب الشام يطلب مساعدته في محاربة أيبك في ذلك الوقت، إذ كانت رسل الخليفة المستعصم قد تدخلت لحسم النزاع بينهما وكان العرب يومئذ في كثرة من الرجال والخيل والمال بفضل الله ثم مشاركتهم في حروب الصليبيين، فكونوا جيشاً كبيراً والتفوا حول زعيم حصن الدين وحلفوا له، واضطر السلطان أيبك أن يرسل حملة تأديبية للقضاء على هذه الثورة، ومن عجب أن يسند قيادتها إلى منافسه أقطاي وذلك فيما يبدو لمهارته الحربية، وخرج أقطاي من القاهرة بخمسة الآلاف فارس من خيرة المماليك وتوجه إلى الشرقية حيث كانت أكبر مظاهر العصيان، وعلى الرغم من قلة عدد المماليك بالقياس إلى العرب، تغلب المماليك بسبب تفوقهم الحربي ومهارة قائدهم أقطاي، وتهدمت المقاومة العربية في بلبيس سنة 1253م[43]، غير أنها بقيت على حالها في مصر الوسطى، حيث ظل حصن الدين طليقاً وأقام حكومة مستقلة هناك ولم يتمكن أيبك ومن جاء بعده من سلاطين من القبض عليه إلى أن خدعه السلطان بيبرس البند قداري وقبض عليه وشنقه بالإسكندرية[44]، وكيفما كان الأمر في نهاية الأمير حصن الدين، فالمهم هنا أن أيبك تغلب على أحد العناصر المهددة بقيام دولة المماليك واستقرارها في مصر[45]، وذكر المقريزي في السلوك أن من نتاج ثورات العرب ضد المماليك: أن تبدد شمل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ[46].
يتبع
[IMG]http://img137.imageshack.us/img137/913/w6w20060221105143ce8876fe3aa9j.gif[/IMG]
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق