114
السّلطان سيْف الدّين قطز ومَعْركة عَيْن جالوت في عهد المماليك
سادساً أسباب إنتصار المسلمين في عين جالوت
6 ـ عبقرية التخطيط
إشتهر قادة المماليك بالقدرة على التخطيط والتنفيذ، ومعرفة قوانين الحرب والمبادئ التي تلعب دوراً هاماً لبلوغ النصر وإذا أمعنا النظر في معركة عين جالوت بصورة خاصة والمعارك التي تلت بصورة عامة لأدركنا تماماً أن قادة الجيش المملوكي كانوا يطبقون هذه المبادئ إلى أبعد الحدود ولا سيما الظاهر بيبرس الذي إشترك في هذه المعركة بالذات وفي المعارك التي شهدها بنفسه فيما بعد:
أ ـ الاقتصاد في القوى: لم يشأ قطز القائد الأعلى للجيش أن يشرك القوى جميعها في معركة عين جالوت، ولكنه كان يقود القوى الرئيسية للجيش، وبيبرس كان يقود الطليعة، وقد إشتبكت الطليعة ـ وهي جزء من الجيش ـ مع حامية غزة[49]، كما إشتبكت القوة الرئيسية هذه مع الجيش المغولي، كما إشتبكت الميمنة مع ما يقابلها وكذلك الميسرة بأعداد تناسب القوة التي كانت تجاهها[50]، وكان قطز حريصاً كل الحرص على أن يوزع قواته بصورة تتناسب مع القوات التي تقاتل ضده من الجيش المغولي، فقد أفرز قوة للمجنبات وأخرى للالتفاف القريب، وثالثة للبعيد، ورابعة للكمين، وخامسة لإعاقة وجذب قوى العدو[51]، وأما بيبرس فقد أظهر براعة حربية في الاقتصاد في القوى في هذه المعركة عندما قاد الطليعة وقاتل وهو في طريقه إلى عين جالوت، ثم في الكمين الذي نصبه للعدو[52]، ثم في المطاردة التي كان فيها هذا المبدأ واضحاً كل الوضوح، إذ أرسل القوى المناسبة على كل محور من المحاور وعلى كل إتجاه سلكته القوات المهزومة من الجيش المغولي[53].
ب ـ تجميع وحشد الجيوش على الإتجاهات الرئيسية: لما أراد الجيش المملوكي مقابلة الجيش المغولي في معركة عين جالوت جمع سيف الدين قطز الجيش المصري وأرسل إلى الجيش الشامي وحشد الإمكانات المتاحة، وأرسل في القرى والمدن والبادية يحث الميليشيات الشعبية والتفت هذه التشكيلات جميعاً في أمر المعركة وركزت الجهود الرئيسية نحو تجميع الجيش المملوكي الذي كان يتحرك بإتجاه مرج بن عامر، وسار بإتجاه الساحل بكتلة واحدة، فوحدة الجيش وقتاله ككتلة واحدة متماسكة يساعد الجيش على تحقيق النصر[54] وهو ما قد تم في عين جالوت.
جـ ـ الضغط على الأعداء: كان ذلك واضحاً في معركة عين جالوت عندما تصدى قادة الجيش لقادة الجيش المغولي وثبتوا ثبوت الرواسي أمامه، وأمام كل عنجهيتهم وإنذارهم، ولما تقابلا لم يصمد الجيش المغولي وخرقت جبهته، وتعقبه الجيش المملوكي، ولم ينفصل عنه أبداً حتى إذا أدركه وضع فيه السيف ولحقه إلى أطراف الشام والبادية[55]، وبدأ الضغط واضحاً في عدة أمور، أهمها رفض الإنذار وقتل الرسل[56]، والتفوق العددي الذي أوجس منه خيفة قائد الجيش المغولي وتردد كثيراً في طلب المدد ليكون هناك توازن بين الجيشين[57]، وإجبار الجيش المغولي أن يفتح وأن يقاتل في مكان غير مناسب والسرعة في التحرك وحسم الأعمال القتالية[58]، والصمود القوي أثناء القتال، فما كانت تفتح ثغرة حتى يبادر قطز إلى صدها، وأهم المواقف الصمودية هو الموقف الذي صمدت فيه الجبهة وبخاصة الميسرة الذي كاد أن يتداعى[59]، والهجوم الصاعق الذي أدى إلى قائد الجيش المغولي وقتله[60]، والمطاردة التي ظل فيها الجيش المملوكي على تماس وضغط على الجيش المغولي الذي هرب وظن بهروبه النجاة، ولكنه كان ملاحقاً كيف إتجه ومطارداً أينما سار[61].
ح ـ تحقيق المفاجأة: أن المفاجأة قد تمت في هذه المعركة بالإخفاء والتمويه وبظهور أعداد قليلة من الجيش أمام القوات المغولية في الأراضي السهلية، إنما قوة الجيش الرئيسية فقد بقيت إلى الخلف وراء التلال والمساتر في مرج ابن عامر، وبصمود الجيش المملوكي وقتاله الذي وضع كتبغا في حيرة وتشكيلة القتال الجديدة/، وبنصب الكمائن، وبث الدوريات أمام تقدم القوات المغولية، وبالتطويق الكامل، وبالصمود أمام هجمات المغوليين المتتالية، بقيت المطاردة التي لم تنته إلا بقتل وتشريد المنهزمين وإبادتهم، وبالشدة والتنكيل والقسوة والحزم والبطش الذي لم يكن يتوقعه المغول أبداً، هذه المفاجأة مكنت الجيش المملوكي من تحقيق النصر[62].
س ـ وضوح الهدف: كان قطز القائد الأعلى للجيش واضح الهدف، إذ أعلن القضاء على الجيش المغولي وتدميره والانتصار عليه منذ أن أعلن الحرب وقتل الرسل[63]، هذا هو الهدف النهائي الذي سبقه أهداف مرحلية كالتخطيط لهذا القتال، وإستخدام الرجال والأسلحة التي تستطيع أن تقضي على العدو وجمع الأموال[64] والاتفاق مع الصليبيين في عكا على الإلتزام جانب الحياد[65].
ش ـ المناورة بالقوى والوسائط: وزع قائد الجيش المملوكي القوي الوسائط قبل بدء القتال، وأثناؤه ظهرت ضعف الميسرة، فنقل القوى والوسائط إليها وقواها، وهنا ظهرت عبقرية هذا القائد عندما نقل بعض المجموعات القتالية وسد الثغرة التي أحدثها الجيش المغولي، كما إستطاع أن يقود الإحتياطي الموضوع تحت تصرفه ويناور به ليصل إلى قبالة هذا الخرق فيتصدى للقوات المغولية فيوقفها[66]، كما قام بدور مهم عند نقل بعض القطعات من المجنبات لتقوم مع النسق الثاني بالهجوم المعاكس، وفعلاً كانت السرعة مذهلة في المناورة عندما تحرك هؤلاء الجنود وقاموا جميعاً بهجوم مضاد وقضى على الوحدات والقطعات المغولية التي تسربت خارقة دفاع الجيش المملوكي، وقد ظهرت هذه البراعة أيضاً عندما تلقى قائد الجيش المملوكي معلومات عن قوة العدو وضعفه وأماكن تمركز قوته، فناور بقواته وأعاد تشكيلها، بما يتلاءم مع هذه المعلومات الجديدة[67].
ع ـ السرعة في الأعمال القتالية: تجاوب القائد الأعلى للجيش المملوكي بمجرد سماعه التهديد المغولي وأعلن التعبئة وعقد مجلس الحرب وإتخذ إجراءات تحضيرية سريعة، فتحركت القوات مستجيبة لهذا النداء الجهادي لملاقاة العدو وسبقه إلى أرض المعركة المناسبة قبل أن يتحرك الجيش المغولي فيهاجم الديار المصرية، ويغزو المماليك في عقر دارهم، ومن الأهمية بمكان أن نذكر دور قائد الطليعة وسرعته، والتفويت على قائد * الجيش المغولي بيدرا * كل مبادرة مما أتاح لبيبرس أن يقضي على حامية كبيرة متقدمة قرب غزة من جراء السرعة التي قام بها رئيس أركان الجيش المملوكي[68].
ص ـ المخابرات العسكرية: بث قطز العيون واعتمد على الأهالي الذين كانوا يتجاوبون مع طلبات الجيش على حقد من المغول وتصرفاتهم، ولهذا فإن المعلومات كانت تصل تباعاً إلى هيئة أركان الجيش المملوكي، في حين أن الجيش المغولي لم يعتمد كثيراً على الاستطلاع، بل إعتمد على قواته وشدته في الحروب ولم يأبه لما يجري حوله، ولم يقم بإجراءات كشف العملاء والجواسيس الذين كانوا يدخلون معسكراته، ويأخذون منها الأخبار ويوصلونها إلى المماليك[69]، وبالإضافة إلى ذلك فإن بيبرس عندما اصطدم بحامية غزة المغولية استطاع أن يتلقى أخباراً صحيحة عن قوة الجيش المغولي وتحركاته واسلحته وقادته[70]، وكذلك فإن قادة الجيش المملوكي ارسلوا حراسات متقدمة عبارة عن مخافر، تصنت وإنذار من مهامها نقل المعلومات عن الانساق وعن تحركات الجيش المغولي[71]، وكان من مصادر الاستخبارات المملوكية، عمال البريد الذين كانوا يكلفون بمهام مخابراتية بالاضافة إلى نقل البريد الحربي، إن هذا الجهاز كان يتحرى أحوال العدو وإمكاناته ومعرفة البؤر والجهات الخطرة من الداخل والتحري من الاعمال الهدامة، أو الاشخاص الذين يقومون بدور العمالة والتجسس على القوات الصديقة وكان يطلق على رئيس هذا الجهاز* صاحب الخبر والتحري * الذي كان له خبرة واختصاص[72]، إن للاستخبارات دوراً كبيراً في الحروب الماضية والحاضرة في إحراز النصر، ولقد كانت الاسباب الصحيحة التي تلقاها قادة الجيش المملوكي وبنوا قرارهم على هذه معلومات صحيحة فكان القرار سليماً والنصر محققاً[73].
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق