إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 28 أبريل 2014

1213 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني -> المجلس النيابي في ور 5- المجلس النيابي في ورمس





1213


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني -> المجلس النيابي في ور

5- المجلس النيابي في ورمس


ولقد ظهر على المسرح وقتذاك ممثل ثالث قام منذ تلك اللحظة بطور كبير واستمر ثلاثين عاماً وذلك في الصراع بين اللاهوت والحكومات. ولسوف يفرض نفسه على سردنا التاريخي في اثني عشر فصلاً أو يزيد.
واستهل الرجل، الذي قُدّر له أن يصبح الإمبراطور شارل الخامس، سيرته بميراث ملكي وإن يكن مدنساً، فجده من جهة أبيه الإمبراطور ماكسمليان وجدته ماري البورغندية ابنة شارل الجسور، وجده من جهة أمه فرديناند وجدته إليزابلا، أما أبوه فهو فيلب المجيل ملك قشتالة الذي ارتقى العرش في السادسة والعشري ومات وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأمه هي جوانا لالوكا التي جنت عندما بلغ شارل السادسة، وعاشت حتى بلغ الخامسة والخمسين من عمره. ولقد ولد في غنت (24 فبراير سنة 1500) ونشأ في بروكسل وظل فلمنكي اللسان والطبع إلى أن اعتزل الحكم نهائياً في إسبانيا. ولم تغفر له هذا إسبانيا ولا ألمانيا ولكنه بمرور الوقت تعلم الحديث بالالمانية والأسبانية والإيطالية والفرنسية، وكان يستطيع أن يلتزم الصمت في اللغات الخمس. وحاول أدريان الأوترختي أن يعلمه الفلسفة ولكنه لم يصب نجاحاً يذكر، وتلقى على يدي هذا الأسقف الصالح تأديباً صارماً، يتفق مع عقيدة المستمسكين بأهداب الدين، وربما تشرب مع ذلك في منتصف العمر نزعة شك خفية من مستشاريه ورجال بلاطه الفلمنكيين الذين شاع بينهم قدر يكتنفه الرضا من عدم المبالاة بالعقيدة على طريقة أرازموس.
ولكم شكا بعض القساوسة من اطلاق حرية الرأي الديني بين حاشية شارل(61). واعتصم بالتقوى ولكنه عكف على دراسة فن الحرب. وقرأ كومينيس وتعلم في مرحلة الطفولة حيل الدبلوماسية وعدم تمسك الدول بالأخلاق.
وعند وفاة أبيه (1506) ورث ألفراندرز وهولندة وكونتيه فرانش وادعاء الحق في حكم برغنديا. ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره نهض
بمسئولية الحكم ووقف نفسه على الادارة، وفي السادسة عشرة أصبح شارل الأول ملك أسبانيا وصقلية وساردينيا ونابلي وأمريكا الاسبانية، وفي التاسعة عشرة طمح إلى أن يصبح امبراطوراً، وكان فرانسيس الأول ملك فرنسا يصبوا إلى الشرف نفسه في ذلك الوقت أيضاً، وسر الأمراء المختارون الإمبراطوريون بدماثة أخلاقه إلا أن شارل أنفق 850000 فلورين ليكسب هذه المباراة واستطاع أن يفوز بها (1519). واضطر في سبيل جمع هذا المبلغ الطائل إلى أن يقترض مبلغ 543000 فلورين من آل فوجر، وهكذا أصبح شارل(62) منذ ذاك صديقاً لآل فوجر، كما أصبح آل فوجر أوفياء له، ولكنه لما تأخر في سداد القرض أرسل له جاكوب فوجر الثاني مذكرة حادة اللهجة: من المعروف جيداً أن جلالتكم ما كنتم تستطيعون الحصول إلى الشرف الإمبراطوري لولا مساعدتي وفي وسعي أن أثبت ذلك بالبيانات المسجلة من جميع المندوبين ولم أنشد في هذا منفعتي الخاصة... واني أطلب بكل احترام أن تتفضلوا... باصدار الأمر بإعادة المبلغ الذي كنت قد دفعته هو والفائدة دون تأخير(63).
وواجه شارل جانباً من التزامه بمنح آل فوجر حق الاستيلاء على رسوم الجمارك في ميناء أنتورب(64)، وعندما أوشك آل فوجر على الخراب نتيجة لغزوات الأتراك لهنغاريا هب لنجدتهم بمنحهم حق الاشراف على المناجم الاسبانية(65)، ومنذ ذلك الوقت صار مفتاح كثير من التاريخ السياسي "فتش عن المصرفي".
وهذا الفتى الذي وجد نفسه في التاسعة عشرة من عمره زعيماً بالاسم لكل وسط أوربا وغربها ما عدا إنجلترا وفرنسا والبرتغال والولايات البابوية قد يميز بالصحة الضعيفة التي ضاعفت من تقلباته... كان شاحب الوجه قصير القامة، تبدو عليه البساطة، له أنف حاد أقنى، وذقن ينم على التحدي، خافت الصوت رصين السمات، وكان رقيق القلب لطيف المعشر بطبعه، ولكنه سرعان ما تعلّم أن الحاكم يجب أن يحافظ

على المسافة والاتجاه وأن السكوت نصف الدبلوماسية، وأن روح الفكاهة الصريحة تكدر عبير جلال الملك. وعندما التقى به ألياندر عام 1520 كتب إلى ليو العاشر يقول: "في رأيي أن هذا الأمير قد وهب... فطنة تفوق عمره وأنه يخفي في رأسه أكثر مما يبدو على وجهه"(66). ولم يكن متوقد الذكاء إلا في الحكم على الرجال - مما يكسبه نصف المعركة، وكان يرتفع إلى مستوى الأزمات التي تواجهه بالجهد الجهيد - بيد أن ذلك كان يتكلف الكثير حقاً. ثم إن استمرار وهنه في الجسم والعقل جعله يفتر إلى أن يتأزم الموقف ويضطره إلى اتخاذ قرار حاسم وعندئذ يواجهه بعزم مفاجئ واصرار يتسم بالدهاء. كانت الحكمة تواتيه لا بالسليقة ولكن بالتجارب.
وفي الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1520 انطلق شارل الخامس، ولم يكن أكبر سناً من القرن الذي وجد فيه، إلى مدينة آخن بلدة شارلمان ليتوج فيها، وانطلق الأمير المختار فردريك لحضور الحفل ولكنه اضطر إلى التوقف في كولونيا بسبب داء النقرس، وهناك قدم له ألياندر التماساً آخر للقبض على لوثر، فما كان من فردريك إلا أن استدعى أرازموس وطلب منه النصيحة، فدافع أرازموس عن لوثر وأشار إلى أن هناك عيوباً صارخة في الكنيسة، وقال إن الجهود التي تُبذل لإصلاحها يجب ألا تُقمع، وعندما سأله فردريك ما هي الأخطاء الرئيسية التي ارتكبها لوثر: "خطأين: هاجم البابا في تاجه، والرهبان في بطونهم"(67). وناقض صحة النشرة البابوية وقال إنه يرى أنها لا تتفق مع ما عرف به ليو العاشر من رقة الحاشية(68) وأبلغ فردريك القاصد الرسولي أن لوثر قدم التماساً وأن لوثر يجب أن يظل طليقاً إلى أن يبت في هذا الالتماس.
وردّ الإمبراطور بالجواب نفسه... كان قد وعد الأمراء المختارين كشرط لانتخابه، ألا يُدان ألماني دون محاكمة عادلة في ألمانيا. ومهما يكن من أمر فإن مكانته جعلت - مذهب المحافظة على الدين لا مندوحة عنه.

وكانت أسبانيا تعترف به ملكاً عليها اسميا أكثر من اعتراف ألمانيا به إمبراطوراً عليها وهي بلد ينفر من نظام الحكم المركزي، ولم يعد رجال الدين في أسبانيا يحتملون طويلاً ملكاً يترفق بالهراطقة. يُضاف إلى ذلك أن الحرب مع فرنسا كانت تلوح في الأُفق ولسوف يدور القتال حول ميلان باعتبارها مغنماً، ومن هنا كان تأييد البابا يساوي جيشاً بأسره... كانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة مرتبطة بالبابوية بمائة وشيجة، وليس من شك في أن سقوط احداها سوف يلحق بالأخريات ضرراً بليغاً فكيف يستطيع الإمبراطور أن يحكم مملكته المتناثرة المتباينة دون أن يلقى العون من الكنيسة في النظام الأخلاقي والادارة السياسية؟ كان كبار وزرائه إلى ذلك الوقت من رجال الدين كما أنه كان في حاجة إلى أموال الكنيسة ونفوذها لحماية هنغاريا من الأتراك.
كان شارل يقلب في ذهنه هذه المشاكل على اختلافها، وكانت تشغله أكثر من مسألة راهب مشاكس، فدعا مجلساً نيابياً امبراطورياً لعقد اجتماع في ورنس، ولما اجتمع هناك كبار النبلاء ورجال الدين ممثلو المُدن الحرة (27 يناير عام 1521) إذا بلوثر هو الموضوع الرئيسي في المناقشة وليس من شك في أن القوى التي كانت تعد للاصلاح الديني خلال قرون بلغت أوجها في مسرح من أعظم المسارح الدرامية في التاريخ الأوروبي. ويقول مؤرخ كاثوليكي: لقد امتدحت الطائفة العظمى لنبلاء الألمان محاولات لوثر وأيدتها". بل إن إلياندر نفسه كتب تقريراً قال فيه: "إن ألمانيا بأسرها ترفع السلاح ضد روما والعالم كله يصرخ مطالباً بمجلس يجتمع على الأرض الألمانية. ولقد أصبحت النشرات البابوية التي تنص على الحرمان من غفران الكنيسة تثير السخرية وامتنع عدد كبير من الناس عن تناول القربان المقدس للتكفير... أما مارتن فإنه يصور وفوق رأسه هالة ويقبل الناس هذه الصورة. ولقد بيعت منها مقادير هائلة حتى أني عجزت عن الحصول على

صورة واحدة... وأنا لا أستطيع أن أخرج إلى الطرقات خشية أن يرفع الألمان سيوفهم في وجهي ويصرون بأسنانهم غضباً عن رؤيتي وإني لأرجو من البابا أن يمنحني صك غفران كامل وأن يرعى إخوتي وأخواتي إذا أصابني مكروه"(70).
وهبّت عاصفة من الكتيبات المناهضة للبابوية زادت من الإثارة وقال ألياندر في أسى أن عربة لا تسع كل هذه المقالات البذيئة. وأصدر هوتن، من قلعة سيكنجن في ابيرنبورج على بعد أميال قليلة من ورمس، نشرة تضمنت هجوماً محموماً ضد رجال الدين الألمان: "اذهبوا أيها الخنازير القذرة... ارحلوا عن الهيكل المقدس أيها التجار المبتذّلون ولا تلمسوا المذابح بايديكم الدنسة... كيف تجرءون على إنفاق المال المخصص لأغراض دينية في مظاهر الترف وفي التبذل والأبهة بينما الناس الشرفاء يتضورون جوعاً؟ لقد فاضت الكأس. ألا ترون أن نسمة الحرية قد بدأت تهب؟"(71) وكان تعاطف الناس مع لوثر قوياً إلى حد أن كاهن الاعتراف عند الإمبراطور الراهب الفرنشكاني جان جلابيون اختلى بجورج سبالاتان راعي كنيسة فردريك في محاولة للتوفيق بين الطرفين. وأعرب عن عطفه الكبير على كتابات لوثر الأولى، ولكن "الأسر البابلي جعله يشعر كما لو كان قد جُلد بالسياط وضُرب بمقبض السيف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه..." وأشار إلى أنه لا يمكن أن يقوم أساس سليم لعقيدة دينية تعتمد على الكتاب المقدس لأن "الانجيل يشبه شمعاً طرياً يستطيع كل انسان أن يفتله أو يمطه على هواه". وسلم بالحاجة الملحة إلى إصلاح كهنوتي. والحق أنه كان قد حذّر إمبراطوره التائب من أن "الله سوف يعاقبه هو وكل الأمراء إذا لم يحرروا الكنيسة من مثل هذه المساوئ التي تنطوي على الغرور". ووعد بأن شارل سوف ينجز الاصلاحات الكبرى خلال خمس سنوات. وحتى ذلك الوقت وبعد كل تلك الثورات اللوثرية المردعة كان يعتقد أن السلام ممكن إذا تراجع لوثر عما قاله(72). ولكن لوثر ابى عندما أخطر بذلك في فيتنبرج....

وفي الثالث من مارس قدم ألياندر إلى المجلس النيابي (الدايت) اقتراحاً بالادانة الفورية للوثر فاحتج المجلس بأن الراهب يجب ألا يدان دون سماع أقواله، وعلى ذلك وجه شارل دعوة إلى لوثر للحضور إلى ورمس ليؤدي الشهادة... عن تعاليمه وكتبه. وكتب له يقول: "لا حاجة بك إلى الخوف من التعرض لأي عنف أو ازعاج لأننا أعطيناك جواز الأمان"(73). وتوسل أصدقاء لوثر إليه ألا يذهب وذكروه بجواز الأمان الذي كان الإمبراطور سيجسموند قد أعطاه لهس وأرسل أدريان الأوترختي، وكان وقتذاك كاردينالاً لتورتوزا، ثم نصب بابا بعد قليل، التماساً إلى الإمبراطور تلميذه السابق طلب فيه أن يتجاهل جواز الأمان وأن يقبض على لوثر ويرسله إلى روما، وفي اليوم التالي من أبريل غادر لوثر مدينة فيتنبرج، وعندما وصل إلى أرفورت حياه حشد كبير من بينهم أربعون أستاذاً من الجامعة باعتباره بطلاً. وعندما اقترب من ورمس سارع سبالاتان وأرسل له تحذيراً ألا يدخل المدينة وأن يقفل راجعاً على جناح السرعة إلى فيتنبرج. فردّ عليه لوثر بقوله: "على الرغم من أن في ورمس كثيراً من الشياطين بقدر عدد طوب القرميد على الأسطح فسوف أذهب إلى هناك"(74). وانطلقت عصبة من الفرسان إلى لقائه ومرافقته إلى المدينة (16 أبريل). وانتشر نبأ وصوله في الطرقات فتجمع 2000 حول عربته، وقال ألياندر "يخيل إلي أن العالم بأسره أقبل لرؤيته بل وحتى شارل حجب في الظلال".
وفي يوم 17 ابريل مثل لوثر في رداء الرهبان أمام المجلس النيابي (الدايت) الإمبراطور وستة أمراء مختارون محكمة رهيبة من الأمراء والنبلاء والبطاركة وأوساط الناس وجيوم إلياندر مسلحاً بسلطة بابوية ووثائق رسمية وفصاحة قضائية ورصّت على منضدة قريبة من لوثر مجموعة من الكتب. وتصدى جوهان إيك - ولم يكن صاحب مناظرة ليبتسيج بل موظفاً عند كبير أساقفة ترير - وسأله هل هذه الكتب من تأليفه وهل هو
على استعداد لإنكار كل هذه الهرطقة التي تضمنها؟ ومرّت لحظة على لوثر وهو واقف أمام هذا الجمع الذي يمثل هيئة الإمبراطوريّة والسلطة النيابية وجلال الكنيسة، فخانته شجاعته وأجاب بصوت خافت حي أن الكتب من تأليفه وأما بالنسبة للسؤال الثاني فإنه التمس منحه مهلة للتفكير فأمهله شارل يوماً. وعندما عاد إلى مسكنه تلقى رسالة من هوتن يناشده فيها الثبات في موقفه، وأقبل كثير من أعضاء المجلس النيابي لزيارته زيارة خاصة لتشجيعه ويبدو أن الكثيرين كانوا يحسون بأن جوابه النهائي سوف يكون نقطة تحول في التاريخ.
وفي يوم 18 أبريل واجه المجلس النيابي بثقة كاملة، وكانت قاعة المجلس تموج بالحاضرين إلى حد أن الامراء المختارين وجدوا صعوبة بالغة في الوصول إلى مقاعدهم ووقف معظم الحضور. وسأله إيك عما إذا كان على استعداد لإنكار المؤلفات التي كان قد كتبها كلياً أو جزئياً، فأجاب بأن تلك الأجزاء التي تناولت المفاسد الكهنوتية صحيحة بإجماع الآراء فقاطعه الإمبراطور بصوت جهوري دوى في القاعة "لا". ولكن لوثر استأنف حديثه وهاجم شارل نفسه فقال: "إذا أنكرت ما قلت في هذا الوقت فإني أفتح الباب لمزيد من الطغيان والزندقة وسوف يصبح هذا كله أسوأ ما يكون إذا ظهر أني فعلت هذا بناء على طلب الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة". أما بالنسبة للفقرات العقائدية في كتبه فقد وافق على أن يسحب أي فقرة منها إذا ثبت أنها تخالف ما جاء في الكتاب المقدس، فأبدا إيك على هذا باللاتينية اعتراضاً عبّر على وجهة نظر الكنيسة: "يا مارتن إن التمسّك بسماع ما جاء في الكتاب المقدس هو نفس ما كان يتذرع به دائماً الهراطقة إنك لا تفعل شيئاً سوى أن تكرر الأخطاء التي ارتكبها ويكليف وهس... كيف تدعي أنك الوحيد الذي يفهم معنى آيات الكتاب المقدس؟ وهل تضع حكمك فوق حكم كتبه كثيرون من الرجال المشهورين وتزعم أنك تعرف أكثر مما يعرفون

جميعاً؟ ليس لك الحق في أن تدخل في المناقشة العقيدة الأرثودكسية المقدسة التي لقنها المسيح المشرّع الكامل والتي نشرها الرسل في أرجاء العالم، والتي ختمت بدماء الشهداء وأكدتها المجالس المقدسة وعرفتها الكنيسة... والتي يحرم علينا البابا والامبراطور مناقشتها خشية ألا ينتهي النقاش. إني أسألك يا مارتن. أجب بأمانة وصدق بغير مواربة - هل تنكر أو لا تنكر كتبك والأخطاء التي تحتويها؟"(75) فرد لوثر بجوابه التاريخي بالألمانية: مادام جلالتكم وسيادتكم تريدون جواباً بسيطاً فغني سأجيب بغير مواربة... ما لم تدينني آية في الكتاب المقدس أو الحجة الواضحة (وأنا لا أقبل سلطة البابوات والمجالس الدينية لأن كل منهم يناقض الآخر) فان ضميري أسير لكلمة الله. وأنا لا أستطيع أن أسحب شيئاً من أقوالي. ولن افعل هذا، لأن مخالفة ضميري ليس من الصواب والأمن في شيء. أسأل الله العظيم. آمين"(76) .
فواجهه إيك بأنه لا يمكن إثبات أي خطأ في المراسيم العقائدية التي أصدرتها المجالس، فرد عليه لوثر بأنه على استعداد لإثبات مثل هذه الأخطاء، ولكن الإمبراطور اعترض قائلاً بلهجة قاطعة: "هذا يكفي. ما دام أنه أنكر المجالس فإننا لا نود سماع كلمة أخرى"(78). وعاد لوثر إلى مسكنه وقد أنهكه الصراع ولكنه كان واثقاً من أنه قدّم شهادة طيبة فيما أسماه كارلايل "أعظم لحظة في التاريخ الحديث للإنسانية"(79).
كان الإمبراطور لا يقل رجفة عن الراهب. ولما كانت تجري في عروقه الدماء الملكية ولأنه ألف السلطة فإنه اعتقد أن من الأمور التي لا تحتاج إلى برهان أن حق كل فرد في تفسير الكتاب المقدس وقبول المراسيم المدنية أو الدينية أو رفضها طبقاً لهواه الشخصي وما يمليه عليه ضميره سوف

يعجل بتقويض أسس النظام الاجتماعي لأن هذا كما بدا له قائم على قانون أخلاقي يستمد بدوره قوته من الأحكام الخارقة للعقيدة الدينية.
وفي اليوم التاسع عشر من ابريل دعا كبار الأمراء إلى مؤتمر عقده في حجراته الخاصة وقدّم لهم بياناً عن الولاء والنية مكتوباً بالفرنسية ويبدو أنه كتبه بنفسه: "إني أنحدر من صلب سلسلة طويلة من الاباطرة المسيحيين لهذه الأمة الألمانية النبيلة ومن ملوك أسبانيا الكاثوليكيين ومن أرشيدوقات النمسا ودوقات برغنديا. وكانوا جميعاً اوفياء حتى الموت لكنيسة روما، ولقد دافعوا عن العقيدة الكاثوليكية ومجد الرب وقد عزمت على أن أحذو حذوهم. إن راهباً واحداً يسير ضد المسيحية بأسرها كما عرفت منذ ألف عام لابد أن يكون على خطأ مبين، ومن ثم فإني قررت أن أخاطر ببلادي واصدقائي وجسمي ودمي وحياتي وروحي... وبعد أن استمعت أمس إلى دفاع لوثر المتشبث برأيه فإني آسف لأني تأخرت طويلاً في اتخاذ الاجراءات ضده. وضد تعاليمه الزائفة. لن يكون لي معه شأن آخر. وفي وسعه أن يعود فقد منحته جواز الأمان ولكن عليه أن يمتنع عن الوعظ أو إحداث أية فتنه ولسوف أحاكمه على أنه هرطيق سيّئ السمعة وإني أطلب منكم أن تدلوا بآرائكم كما وعدتموني"(80).
فوافق أربعة من الأمراء المختارين على هذا الاجراء وامتنع فردريك صاحب سكسونيا ولودفيج صاحب بالاتينيت عن ابداء رأيهما - وفي تلك الليلة - 19 ابريل ثبت أشخاص مجهولون على باب قاعة المدينة وفي أماكن أخرى من ورمس إعلاناً كبيراً يحمل حذاء الفلاح رمز الثورة الاجتماعية. وأفزع هذا بعض رجال الدين والحوا شخصياً على لوثر بإحلال الوئام محل الخصام مع الكنيسة. ولكنه أيد تصريحه للمجلس النيابي. وفي السادس والعشرين من ابريل بدأ رحلة العودة إلى فيتنبج وأرسل ليو أوامر تقضي باحترام جواز الأمان(81)، ومع ذلك فإن الأمير المختار فردريك خشي أن يحاول رجال الشرطة الإمبراطوريّة القبض على لوثر بعد انتهاء مفعول جواز الأمان

يوم 6 مايو، فرتب - بعد أن رضي لوثر بهذا على مضض - كميناً له في طريق عودته إلى وطنه، كما لو كان من عمل قطاع الطرق واخذه خفية إلى قلعة فارتبورج.
وفي السادس من مايو قدم الإمبراطور للمجلس النيابي، وكان عدد أعضائه قد انخفض بسبب رحيل الكثيرين، المسودة التي أعدها ألياندر عن منشور ورمس وفيه يتهم لوثر بأنه "دنّس الزواج واستخف بالاعتراف وأنكر وجود جسد الرب ودمه. ثم إنه جعل القربان المقدس يتوقف على إيمان مَن يتناوله. إنه وثني في إنكاره للإرادة الحرة. إن هذا الشيطان الذي يرتدي مسوح راهب قد جمع الأخطاء القديمة في بركة آسنة منتنة، بل وابتدع أخطاء جديدة أنه ينكر سلطة الرؤساء، ويشجع العلمانيين على أن يغسلوا أيديهم من دم رجال الدين. وتعاليمه تدعو إلى العصيان والانقسام والحرب والقتل والسرقة والحرق عمداً وإلى انهيار العالم المسيحي وهو يحيا حياة بهيمية. لقد أحرق المراسيم البابوية، إنه يحتقر الحرمان من غفران الكنيسة والسيف على السواء. وهو يلحق بالسلطة المدنية من الأذى أكثر مما يلحق بالسلطة الكهنوتية للكتاب المقدس الذي يفسره على هواه. لقد أمهلناه واحداً وعشرين يوماً من 15 ابريل... وعندما تنقضي هذه المهلة فليس لأحد أن يؤويه ولسوف يدان أتباعه ايضاً. أما كتبه فيجب أن تمحى من ذاكرة الإنسان"(82).
وبعد يومين من تقديم هذا المنشور حول ليو العاشر تأييده السياسي من فرانسيس الأول إلى شارل الخامس. ووافق المجلس النيابي (الدايت) المجرد من السلطة على المنشور، وفي اليوم السادس والعشرين من مايو أصدره شارل رسمياً فحمد ألياندر الرب وامر بإحراق كتب لوثر أينما وجدت.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق