1195
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> أرازموس الرائد -> تربية عالم بالإنساني
الفصل الخامس عشر
أرازموس الرائد
1469 - 1517
1- تربية عالم بالإنسانيات
ولد أعظم عالم بالإنسانيات عام 1466 أو عام 1469 في روتردام أو بالقرب منها وهو الابن الثاني غير الشرعي لجيرارد وهو كاتب في أدنى الدرجات. وأمه مرجريت ابنة طبيبة وأرملة. ويبدو أن الأب رسم قسيساً عقب هذه الكارثة ولا ندري كيف سمي الصبي بالاسم السخيف ديزيدريوس أرازموس ومعناه الحبيب المرغوب فيه. ولقد علمه مدرسوه الأوائل القراءة والكتابة باللغة الهولندية ولكنه عندما ذهب ليدرس مع أخوة الحياة المشتركة في ديفنتر غرم لأنه كان يتحدث بلغته الوطنية فقد كانت اللغة اللاتينية هناك "الزاد الرئيسي للتعليم" وكانت التقوى تراعى بحزم كوسيلة من وسائل التربية والتهذيب- ومع ذلك فإن الأخوة كانوا يشجعون على دراسة كلاسيكيات وثنية مختارة وبدأ أرازموس في ديفنتر يمسك بزمام اللغة اللاتينية والأدب بصورة مذهلة.
ومات والده حوالي عام 1484 وخلف الوالد ضيعة متواضعة لولديه ولكن الأوصياء عليهما بددوا معظمها ووجهوا الشابين اليافعين للانخراط في سلك الرهبنة لأنها لا تحتاج إلى امتلاك شئ على الإطلاق فاحتجا إذ كانا يرغبان في الالتحاق بالجامعة، وأخيراً أمكن إغراؤهما- بوعد أرازموس بالحصول على كثير من الكتب كما قيل لنا. أما الابن الأكبر فقد رضى بمصيره وارتفع شأنه فأصبح "سكيراً مدمنا وأن لم يكن فاجراً سافلا". وأخذ ديزيدريوس على نفسه العهود كأي راهب أوغسطيني في ديراماوس في
ستين. وحاول أن يحب حياة الدير جهد استطاعته بل إنه كتب مقالا بعنوان: De contemptu mundi "تأملات في الوجود"، ليقنع نفسه بأن الدير هو المكان المناسب لصبي له روح متعطشة ومعدة منهوكة ولكن معدته أرهقها الصيام وأصابها الغثيان حينما كانت تُشَم رائحة السمك. ومع ذلك فإن العهد الذي قطعه على نفسه بالخضوع أثبت أنه أشد قساوة من نذره العفة، ومن يدري؟ لعل مكتبة الدير كانت تعوزها الكلاسيات. وأشفق عليه رئيس الدير وأعاره ليعمل كاتب سر لهنري البرجيني أسقف كمبراي. وقبل أرازموس عندئذ (1492) أن يرسم قساً ولكنه أينما اتجه نازعته نفسه إلى أن يضع قدمه على مكان آخر. كان يحسد الذين التحقوا بالجامعة بعد إنهاء تعليمهم المحلي. وكانت باريس تفوح بشذا العلم والهوى الذي قد يسمم الحواس المرهفة عبر مسافات بعيدة. وأغرى ديزيديريوس الأسقف على إرساله إلى جامعة باريس بعد أن خدمه بكفاءة بضع سنوات وانطلق وليس معه إلا ما يقوم بأوده. وكان ينصت في صبر نافذ إلى المحاضرات ولكنه كان يلتهم الكتب. وكان يشهد المسرحيات والحفلات وينقب بين الفينة والفينة عن المفاتن الأنثوية، ويقول في إحدى محاوراته أن ألطف طريقة لتعلم الفرنسية هي أن تتلقاها عن بنات الليل ومع ذلك فقد أغرم بالأدب.. أغرم بتلك الكلمات الموسيقية السحرية التي تفتح بابا يلج منه المرء إلى عالم الخيال والبهجة. وعلم نفسه اليونانية وأصبحت أثينا أفلاطون ويوروبيدس وزينون وأبيقوروس مألوفة لدية مثل روما سيشرون وهوراس وسينيكا فكلا المدينتين كانتا حقيقتين بالنسبة له مثلهما في ذلك مثل شاطئ السين الأيسر. وكان سينيكا في نظره مسيحياً صالحاً مثل سانت بول ونمطياً أحسن منه (وهي وجهة نظر لعله لم يكن فيها سليم الذوق تماما) ورحل باختياره في غمرات الماضي واكتشف لورنزو فالا، فولتير نابولي واستطاب طعم اللاتينية الأنيقة والجرأة المتهوسة اللتين تسم تكفله بهما بكشف زيف قصة "هبة قسطنطين" وقد لاحظ
أخطاء جد خطيرة في النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس وتساءل أليست الأبيقورية أحكم وسيلة للعيش. وقد أفزع أرازموس علماء اللاهوت فيما بعد وخفف عن بعض الكرادلة بسعيه في التوفيق بين أبيقور والمسيح. وكانت أصداء أصوات دونس سكوتس وأوكهام لا تزال تتردد في باريس والمذهب الأسمي يعلو نجمه ويهدد العقائد الأساسية مثل التجسيد والثالوث. وقوضت هذه السقطات الفكرية أرثوذكسية القس الشاب ولم يترك له إلا الإعجاب العميق بأخلاقيات المسيح.
وأكب على قراءة الكتب وغالي في ذلك إلى درجة غير محمودة. وقام بإعطاء دروس خصوصية لبعض الفتيان من الطلبة لزيادة موارده وذهب ليعيش مع أحدهم ومع ذلك لم يكن لديه ما يوفر له حياة هانئة. وألح على أسقف كامبراي قائلا: "إن كلا من جلدي وكيسي في حاجة إلى أن يملأ: الأول باللحم والثاني بالعملات. اعمل وفق ما يمليه عليك كرمك". واستجاب له الأسقف بلطفه المعهود ودعاه طالب يدعى لوردأف فيرVere إلى قصره في تورنيهيم في الفلاندرز وسر أرازموس عندما وجد في ليدي آن أف فير نصيره للعبقرية وتعرفت فيه على هذه المزية وعانته بمنحة سرعان ما استنفدها. وأخذه طالب غنى آخر هو ماونتجوي إلى إنجلترا (1499) وهناك في البيوت الأرستقراطية الواسعة في الريف وجد العالم المكدود دنيا رحبة تحفل باللذة الرفيعة وانقلب ماضيه في الدير إلى ذكرى يقشعر لها بدنه. وأبلغ صديقاً له في باريس عن تقدمه في خطاب من خطاباته التي لا تحصى ولا تقلد وهي الأثر الباقي له الآن: "إننا نتقدم. ولو كنت عاقلاً لسارعت بالمجيء إلى هنا... آه لو عرفت ما ننعم به في بريطانيا... ولأذكر لك إحدى المباهج الكثيرة: هنا حوريات لهن تقاطيع ملائكية في غاية الرقة والرأفة... وعلاوة على ذلك فثمة أسلوب للحياة لا يمكن الثناء عليه تماماً فحيثما تذهب يستقبلونك بالقبلات على يديك وعندما ترحل
يشبعونك بالقبلات وإذا عدت فإن تحياتك ترد إليك... وأينما يتم اجتماع فهناك تحيات وافرة وحيثما تلتفت تجدها تلاحقك. أواه يا فاوستوس! لو ذقت مرة عذوبة هذه الشفاه وشذاها لتمنيت أن تكون سائحاً لا لمدة عشر سنوات مثل سولون بل طوال حياتك في إنجلترا".
والتقى أرازموس في بيت ماونتجوى في جرينوتش بتوماس مور، وكان حينئذاك لا تتجاوز سنة الثانية بعد العشرين ولكنه مع ذلك كان له من المكانة ما استطاع به أن يقدم العالم إلى قدر له بعد ذلك أن يكون هنري الثامن. وسره في أكسفورد على الأغلب عدم الكلفة في صحبة الطلبة وفي الكلية كما سرته أحضان ربات البيوت الريفية. وهناك تعلم كيف يحب جون كوليت الذي أذهل عصره باعتناقه المسيحية على الرغم من أنه كان محققا وعلامة في علم الأديان القديمة وتأثر أرازموس بتقدم علم الإنسانيات في إنجلترا: "عندما أسمع عزيزي كوليت يخيل إلي أني أستمع لأفلاطون نفسه. من لا يعجب في جروسين يرى عالما كاملا للمعرفة مثل هذا؟ ماذا يمكن أن يكون أذكى وأعمق من حكم ليناكر؟ وماذا أبدعت الطبيعة أكثر رقة وحلاوة وسعادة من عبقرية توماس مور؟".
لقد اثر هؤلاء الرجال تأثيراً عميقاً في إصلاح حال أرازموس فتحول من شاب مغرور طائش، أسكرته خمر الكلاسيات وفتنة النساء، إلى عالم جاد مدقق تواق لا إلى المال والشهرة فحسب ولكن إلى تحقيق عمل مفيد دائم. وعندما غادر إنجلترا (يناير عام 1500) كان قد استقر عومه على أن يدرس وينشر النص اليوناني للعهد الجديد لأن الجوهر الخالص لتلك المسيحية الحقة في نظر المصلحين وعلماء الإنسانيات على السواء، قد أخفته وموهت عليه العقائد وتكاثرها على مر القرون.
وأظلمت ذكرياته الجميلة عن هذه الزيارة الأولى لإنجلترا بما حدث في الساعة الأخيرة. فبينما كان يجتاز الجمارك في دوفر صادرت السلطات
المبلغ الذي منحه له أصدقاؤه وكان يقدر بنحو عشرين جنيهاً (2000 دولار) لأن القانون الإنجليزي يحرم تصدير الذهب أو الفضة. وزاد الطين بلة أن أحدهم، وإن لم يكن محاميا كبيراً، أشار عليه خطأ بأن التحريم لا يسري إلا بالنسبة للعملة الإنجليزية، فغيرها أرازموس ولم تجد إنجليزيته المتعثرة ولا لاتينيته المختلة في الانحراف بصرامة القانون التي لا ترحم واستقل أرازموس سفينة إلى فرنسا وهو خالي الوفاض بالفعل. قال: "لقد عانيت من الغرق قبل أن أذهب إلى البحر".
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق