1217
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني -> الثورة
9- الثورة
عندما سعى بعض الأساقفة إلى اسكات لوثر وأتباعه أطلق صرخة مدوية غاضبة كانت بمثابة الناقوس المنذر بالثورة تقريباً، ففي كتيب "ضد
النظام الذي يطلق عليه بهتاناً اسم النظام الروحي للبابا والأساقفة" (يوليو 1522) دمغ البطاركة ووصفهم بأنهم "أكبر الذئاب" جميعاً وناشد كل الألمان الصالحين أن يطردوهم بالقوة.
"كان من الخير أن يُقتل كل أسقف وأن تُقتلع جذور كل مؤسسة أو دير، فهذا أفضل من أن تُزهق روح واحدة فما بالك بفقد كل الارواح من أجل بهرجهم التافه وعبادة الأوثان. ما فائدة هؤلاء الذين يعيشون غارقين في الشهوات ويتغذون بعرق الآخرين وكدحهم؟... إنه إذا رضوا بكلمة الله وسعوا إلى حياة الروح فإن الله يكون معهم... أما إذا لم يستمعوا إلى كلمة الله وثاروا غضباً وتوعدوا بالحرمان والحرق والقتل وبكل شر مستطير، فماذا يستحقون غير ثورة عارمة تكتسحهم من فوق ظهر الأرض؟ ولسوف تبتسم إذا حدث هذا. إن كل مَن يتبرع بالجسد أو بالمتاع أو الشرف للقضاء على حكم الأساقفة هم أطفال الله الأعزاء ومسيحيون صادقون"(146).
وفي هذا الوقت انتقد لوثر الدولة انتقاده للكنيسة، فقد آلمه تحريم بيع عهده الجديد أو حيازته في المناطق التي تخضع لحكام من المحافظين فكتب في خريف عام 1522 رسالة عنوانها "عن السلطة الزمنية: إلى أي حد يجب أن تطاع". وبدأها بأسلوب ودي للغاية فأقر عقيدة القدّيس بولس عن الخضوع المدني والأصل الإلهي للدولة. ومن الواضح أن هذا كان يتناقض مع تعاليمه الخاصة التي تقول بالحرية الكاملة للمسيحي. وأوضح لوثر أنه على الرغم من أن المسيحيين المخلصين ليسوا في حاجة إلى قانون... ومع أن أحداً منهم لن يواجه الآخر بالقانون أو القوة فإنهم يدب أن يطيعوا القانون وأن يكونوا قدوة لغالبية الناس من غير المسيحيين المخلصين لأن فطرة الإنسان التي تجنح للإثم في غيبة القانون سوف تمزق المجتمع إرباً. ومع ذلك فإن سلطة الدولة يجب أن تنتهي حيث يبدأ ملكوت الروح. مَن
هم هؤلاء الأمراء الذين يأخذون على عواتقهم أن يفرضوا على الناس ما يقرأونه أو ما يعتقدونه؟
"لابد أن تعرفوا أن الأمير الحكيم يندر وجوده حقاً منذ بداية الخليقة مثله في ذلك مثل الأمير الورع. فالأمراء في العادة أكبر الحمقى أو أسوأ الأفاقين على ظهر الأرض. إنهم السجانون والجلادون الذين يسلطهم الله على عباده، وهم أدوات الله التي تحقق غضبه تعالى بعقاب الأشرار وللمحافظة على السلام بين الناس... ومهما يكن من أمر فإني بكل إخلاص أنصح هؤلاء الناس الذين طمس الله على ابصارهم أن ينتبهوا إلى القول الموجز في المزمور 107: (27) "إن الله تعالى ينزل سخطه على الأمراء" وإني أقسم لكم بالله أن هذه العبارة الموجزة لو أصبحت سيفاً مسّلطاً على أعناقكم بسبب خطئكم فلا تلوموا إلا أنفسكم، وذلك على الرغم من أن كل واحد منكم متين البنيان كالتركي ولن يجديكم فتيلاً تميزكم غضباً وتحمسكم للكلام فقد تحقق فعلاً جانب كبير منه، لأن... الرجل العادي يتعلم كيف يفكر... ثم إن الجماهير وعامة الناس تستجمع نقمتها على الأمراء وعلى الناس بعد هذا الا يعانوا من طغيانهم وغرورهم فهذا ما لا يستطيعونه ولن يسمحوا به. فيا أيها الأمراء والسادة الاعزاء تمسكوا بأهداف الحكمة واهتدوا بهديها. إن الله لن يتسامح معكم بعد هذا ولم يعد العالم ذلك الذي كنتم فيه تطاردون الناس وتسوقونهم كالأنعام"(147).
واتهمه رئيس وزراء بافارى بأن هذه دعوة للثورة تتسم بالخيانة، وندد بهذه الرسالة الدوق جورج ووصفها بأنها إفك وحث الأمير المختار فردريك على أن يصادرها. ولكنه على العكس من ذلك سمح بتوزيعها بما عهد فيه من اتزان. ترى ماذا كان يقول الأمراء لو أنهم قرأوا رسالة لوثر إلى فنتسل لينك Wanzel Link، (19 مارس 1522)؟ "إننا ننتصر على الطغيان البابوي الذي طالما سحق ملوكاً وأمراء فكيف لا يسهل علينا إذن أن نتغلب
على الأمراء أنفسهم نطأهم بنعالنا"(148). أو ماذا هم قائلون إذا أطلعوا على تعريفة للكنيسة؟ "أعتقد أنه لا توجد على ظهر الأرض إلا كنيسة مسيحية عامة، حكيمة كالعالم ولكنها كنيسة مقدسة وهي ليست إلا جماعة القديسين... وأعتقد أن كل الأشياء على المشاع في هذه الجماعة أو في هذا العالم المسيحي، وكل ما يملكه الإنسان من متاع ملك للآخر ولا يوجد شيء ملك لأحد فحسب"(149).
كانت هذه سورة عارضة يجب ألا تؤخذ بمعناها الحرفي؛ فالواقع أن لوثر محافظاً بل ورجعياً في السياسة والدين بمعنى أنه كان يريد أن يعود بالناس إلى المعتقدات والرسائل الأولى في القرون الوسطى، وكان يعد نفسه ممن يردون الأشياء إلى أصولها وأنه ليس مبتدعاً. وكان يمكن أن يقنع بالحفاظ على المجتمع الزراعي الذي عرفه في طفولته واستمراره مع إدخال بعض وجوه التحسين التي تتسم بالبر. واتفق في الرأي مع الكنيسة في القرون الوسطى في إدانة الربا إلا أنه أضاف بطريقته المرحة أن الربا بدعة من عمل الشيطان وأسف لنمو التجارة الخارجية ووصف التجارة بأنها: "مهنة مرذولة"(150) واحتقر هؤلاء الذين يكسبون معاشهم بشراء السلعة بثمن رخيص وبيعها بثمن غالٍ. وندد بالمحتكرين الذين كانوا يتآمرون لرفع الأسعار لأنهم "لصوص ظاهرون للعيان"، وقال: "لَكَم تحسن السلطات صنعاً لو أخذت من هؤلاء الناس كل ما يملكون وطردتهم من البلاد"(151) ورأى أن الوقت قد حان لوضع "شكيمة في فم آل فوجر"(152)، وانتهى إلى راي ينذر بالويل في رسالة عاصفة عنوانها: "عن التجارة والربا" (1524):
"ينبغي أن ينظر الملوك والأمراء إلى هذه الأشياء وأن يحرموها بمقتضى قوانين صارمة، ولكني أسمع أن لهم مصلحة فيها وهكذا يتحقق قول إشعيا: "لقد أصبح الأمراء رفاقاً للصوص" وأنهم ليشنقون اللصوص الذين سرقوا جولدن أو نصف جولدن ولكنهم يتاجرون مع مَن يسلبون العالم بأسره...
وهكذا يشنق اللصوص الكبار صغارهم؛ وكما قال كاتو عضو الشيوخ الروماني: "الأغرار من اللصوص يزج بهم في السجن ويطرحون لآلات التعذيب بينما يسير اللصوص المعروفون للناس في الخارج يرفلون في الحرير ويتحلون بالذهب". ولكن ما هو حكم الله على هذا في آخر الأمر؟ إنه سوف يفعل ما يقوله لحزقيال: أمراء وتجار، لص مع آخر لسوف يصهرهم الله معاً كما يصهر الرصاص والنحاس أو كما تحترق مدينة؛ فبالمثل لن يكون هناك أمراء ولا تجار بعد هذا. وفي هذه المرة أخشى أن يكون هذا على الباب"(153).
وقد كان.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق