1215
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني -> أسس الإيمان
7- أسس الإيمان
استأنف لوثر طريقه العام غير المستقيم باعتباره قساً لطائفة واستاذاً في الجامعة - ودفع له الأمير المختار مرتباً قدره 200 جيلدر (5000 دولار) سنوياً وكان كل طالب يضيف إليه أتعاباً زهيدة مقابل حضور محاضرته.
وعاش لوثر صحبة راهب آخر، وكان كل منهما يرتدي ملابس عامة الناس في دير أوغسطيني مع طالب يقوم بخدمتها وقال: "كان فراشي لا يُرتب لمدة عام كامل حتى يصبح قذراً تفوح منه رائحة العرق، ومع ذلك كنت أواصل العمل طوال النهار فإذا جن الليل أكون منهوك القوى إلى حد أني أتهاوى في الفراش دون أن أدري أن هناك خطأ ما"(99). وكان العمل الشاق يغفر له شهيته المفتوحة وفي هذا يقول: "إني آكل كبوهيمي وأشرب كألماني والحمد لله آمين"(100).
وكان يعظ كثيراً ولكن في إيجاز يتسم بالاشفاق، وبلغة بسيطة أخاذة تستولي على ألباب مستمعيه الأجلاف. وكانت رياضته الوحيدة هي الشطرنج
والعزف على الناي، ويبدو أنه كان يجد متعة أكبر في الساعات التي يقضيها في مهاجمة "البابويين". كان أقوى مَن عرفه التاريخ في الجدل لا يصده عنه شيء. وكانت كل كتاباته تقريباً صراعاً ممتزجاً بعبارات لاذعة تفيض سخرية وطعناً. وترك خصومه يتأنقون في اللاتينية الرفيعة بحيث لا يقرأ لهم إلا قلة من الباحثين وكان هو أيضاً يكتب باللاتينية عندما يريد مخاطبة العالم المسيحي بأسره، بيد أن الجانب الأكبر من أهاجيه الّفه بالألمانية أو كان يترجم فوراً إلى الألمانية لأن ثورته كانت وطنية ولا يبزه مؤلف ألماني آخر في وضوح ألفاظه أو قوة أسلوبه وفي مباشرة عباراته وحدتها اللاذعة وفي تشبيهاته الموفقة والتي كانت أحياناً تبعث على الإبتهاج في ألفاظ تمتد جذورها في كلام الناس وتلائم العقلية القومية.
ووافقت الطباعة أغراضه باعتبارها بدعة أرسلتها العناية الإلهية فيما يبدو فاستخدمها ببراعة لا ينضب لها معين، وكان أول مَن جعل منها آلة للدعاية والحرب ولم تكن هناك وقتذاك جرائد ولا مجلات، وكانت المعارك تذكيها الكتب والعجالات والرسائل الخاصة التي دبجت للنشر. وارتفع عدد الكتب المطبوعة، في ألمانيا من 150 عام 1518 إلى 990 عام 1524، وذلك بحافز من ثورة لوثر، وكانت أربعة أخماس هذه الكتب تؤيد الإصلاح الديني أما الكتب التي كانت تدافع عن العقيدة المحافظة فقد كان من الصعب أن تجد مَن يشتريها، في حين كانت مؤلفات لوثر هي أكثر الكتب رواجاً في هذا العصر، وكانت لا تباع في المكتبات فحسب بل كانت تُباع عند الباعة الجائلين والطلبة المسافرين أيضاً، وقد أحضرت 1400 نسخة في سوق واحدة بفرانكفورت، بل إن ما بيع منها في باريس عام 1520 فاق ما بيع من أي كتاب آخر. وفي مطلع عام 1519 صدرت لفرنسا وايطاليا واسبانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترا. وكتب أرازموس عام 1521 يقول: "إن كتب لوثر في كل مكان وبكل لغة ولن يصدق أحد مدى تأثيره في الناس"(101).
ورجح الأثر الأدبي القوي للمصلحين كفة المطبوعات من جنوبي أوروبا إلى شمالها حيث ظلّت على هذا الوضع منذ ذلك. كانت الطباعة هي الاصلاح الديني، ولا شك أن جوتنبرج هو الذي جعل نجاح لوثر ممكناً.
وكان أعظم عمل قام به لوثر هو ترجمة الإنجيل إلى الألمانية كانت ثماني عشرة ترجمة مثلها قد تمت من قبل ولكنها اعتمدت على نسخة جيروم اللاتينية من الكتاب المقدس، وحفلت بالأخطاء وصيغت عباراتها بأسلوب سقيم، وكانت صعوبات الترجمة عن الأصل مروعة ولم تكن هناك بعد معاجم من العبرية أو اليونانية إلى الألمانية وكل صفحة من النص تثير مائة مسألة في التفسير، وكانت اللغة الألمانية ذاتها لا تزال تفتقر إلى الدقة والاحكام في التركيب، واستخدم لوثر في ترجمة العهد الجديد النص اليوناني الذي كان أرازموس قد نشره مع نسخة لاتينية عام 1516، وأكمل هذا الجزء عام 1521 ونشر عام 1522. وبعد عمل دائب استمر أكثر من اثني عشر عاماً، ووسط كفاح دائم في مجال علم اللاهوت نشر لوثر العهد القديم بالألمانية، ولكن بمساعدة ميلانكتون وعدد من الباحثين اليهود وبرغم عدم دقة الدراسة في هذه الترجمات فإنها كانت من الأحداث المهمة في هذا العهد، فقد افتتحت الأدب الألماني وأصلها اللغة الألمانية الجديدة الرفيعة في ساكسونيا العليا - باعتبارها اللغة الأدبية الألمانية. ومع ذلك فإن الترجمات كانت غير أدبية عن عمد، وعلى نهج اللغة الدارجة، وقد فسر لوثر منهجه بطريقته الواضحة المعهودة فقال: "ينبغي ألا نطلب، كما يفعل الحمير، من الحروف اللاتينية أن تعلمنا كيف نتحدث الألمانية بل يجب أن نسأل الأمهات في بيوتهن والأطفال في الشوارع وعامة الناس في السوق... يجب أن نسترشد بهم في الترجمة ولسوف يفهموننا ويعرفون أننا نخاطبهم بالألمانية)(102). ومن هنا كان لترجمته في ألمانيا نفس الأثر والجلال اللذين حظيت بهما نسخة الملك جيمس المترجمة بعد قرن: كان لها تأثير حميد لا حد له على لغة الحديث القومية ولا تزال أعظم عمل نثري في الأدب القومي.
وطبعت في فيتنبرج مائة ألف نسخة من عهد لوثر الجديد إبان حياته، وظهرت في أمكنة أخرى إثنتا عشرة طبعة لم يرخَّص بها وعلى الرغم من المنشورات التي تحرم تداولها في براندنبرج وبافاريا والنمسا فإنها أصبحت أكثر الكتب رواجاً في ألمانيا وظلت كذلك.
وأثمرت ترجمات الإنجيل كنتيجة وعامل مساعد معاً وأعانت على أن تستبدل باللاتينية اللغات الوطنية والآداب التي واكبت الحركة القومية والتي سايرت هزيمة الكنيسة العالمية في بلاد لم تكن قد تلقت اللغة اللاتينية وغيرتها.
ولما كان لوثر قد أكبّ طويلاً على الكتاب المقدس وورث وجهة نظر القرون الوسطى عن صدوره من الله فإنه جعله عن محبة خالصة المصدر الأوحد لعقيدته الدينية وشريعتها. ومع أنه قبل بعض الروايات المأثورة التي لا تقوم على ما جاء في الكتاب المقدس - مثل تعميد الطفل والراحة يوم الأحد - فإنه رفض أن يسلّم بحق الكنيسة في أن تضيف إلى المسيحية عناصر لا تعتمد على ما جاء في الكتاب المقدس وإنما تعتمد على عرفها وسلطتها مثل المطهر وصكوك الغفران وعبادة مريم والقديسين وكان كشف فالا عن "هبة قسطنطين" (هبة أوربا الغربية المزعومة للبابوات) باعتبارها أضحوكة عتيقة في التاريخ قد زعزع إيمان الآلاف من المسيحيين في الوثوق بروايات الكنيسة وشكك في الشرعية الملزمة لمراسيمها وفي عام 1537 ترجم لوثر نفسه رسالة فالا إلى الألمانية. فالرواية يقوم بها انسان عرضه للزلل أما الكتاب المقدس فقد قبلته أوربا بأسرها تقريباً وعدته كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ثم إن العقل أيضاً يبدو ضعيفاً بالقياس إلى الإيمان في وحي من لدن الله. وقال "نحن المساكين، الناس التعساء... نسعى في غرور إلى فهم الجلال الذي يدق على الفهم لنور عجائب الله التي لا تدرك... ونحن نتطلع بعيون مغمضة، مثل حيوان الخلد، إلى مجد الله"(103). وقال لوثر: "أنت
لا تستطيع أن تقبل كلاً من الإنجيل والعقل فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر".
"إن كل آيات عقيدتنا المسيحية التي كشف لنا الله عنها في كلمته أمام العقل مستحيلة تماماً منافية للمعقول وزائفة. فإذن كيف يعتقد ذلك الأحمق الصغير الماكر أن هناك شيئاً يمكن أن يكون أكثر مجافاة للعقل واستحالة من أن المسيح يعطينا جسده لنأكله ودمه لنشربه في العشاء الأخير؟... أو أن الموتى سيبعثون من جديد يوم القيامة؟... أو أن المسيح ابن الله حملت به مريم العذراء وولدته ثم غدا رجلاً يتعذب ثم يموت ميتة مخجلة على الصليب؟(105)... إن العقل هو أكبر عدو للإيمان... إنه أفجر صنائع للشيطان كبغي فتك بها الجرب والجذام، ويجب أن توطأ بالأقدام ويقضى عليها هي وحكمتها... فاقذفها بالروث في وجهها... وأغرقها في العماد"(106).
وأدان لوثر الفلاسفة الكلاميين لأنهم سلموا للعقل بكثير من الأمور ولأنهم حاولوا أن يثبتوا العقائد المسيحية بالخضوع لمقتضى العقل ولأنهم حاولوا أن يوفقوا بين المسيحية وبين فلسفة أرسطو ذلك الوثني الداهية المغرور اللعين(107).
ومع ذلك فإن لوثر خطا خطوتين في اتجاه العقل: جعل الموعظة، وليس الاحتفال مركز شعيرته الدينية وأعلن في الأيام الأولى لثورته بحق كل فرد في تفسير آيات الكتاب المقدس لنفسه. واستن قانونه الخاص بصحة أسفار الكتاب المقدس: إلى أي مدى تتفق مع تعاليم المسيح؟ وقال "إن كل ما لا يبشر بالمسيح ليس رسولياً حتى لو كتبه القدّيس بطرس أو القدّيس بولس... وكل ما يبشر بالمسيح يكون رسولياً حتى لو صدر من يهوذا وبيلاطس أو هيرودس"(108). ورفض التسليم برسالة جيمس وأطلق عليها اسم: "رسالة الهشيم" لأنه لم يستطع أن يوفق بينها وبين رأي بولس
في التبرير بوساطة الإيمان، واستراب في أن الرسالة من عمل العبريين إذ بدا أنها تنكر صحة التوبة بعد العماد (ولذلك فإنها تؤيد الذين ينكرون التعميد النصراني) وقدر أولاً أن سفر الرؤيا مزيج لا يدرك من ضروب الوعد والوعيد "لا هي رسولية ولا هي نبوية"(109).
"أما سفر عزرا الثالث فإني أقذف به في نهر ألبا"(110). وعلى الرغم من أنه يقوم على عقلية وثنية وأن معظم أحكامه التي تقوم على شريعة الكتاب المقدس قبلها النقاد الإنجيليون المتأخرون وقالوا إنها ذكية وسليمة. وقال: "إن أحاديث الأنبياء لم يدون منها شيء بانتظام في حينه بل جمعها مريدوهم وسامعوهم فيما بعد... ولم تكن أمثال سليمان من عمل سليمان". ولكن خصومه الكثالكة أكدوا أن الاختبارات التي وضعها للحكم على الصحة والوحي كانت ذاتية وتحكمية وتنبأوا أن نقاداً آخرين سيحذون حذوه ويرفضون الاعتراف بكتب مقدسة أخرى حسب أهوائهم وآرائهم حتى لا يبقى شيء من الكتاب المقدس يعتبر أساساً للعقيدة الدينية.
وباستبعاد الاستثناءات السالفة فإن لوثر دافع عن الكتاب المقدس باعتباره صحيحاً بحذافيره وحرفياً. وسلّم بأنه لو لم ترد قصة يونس في الحوت في الكتاب المقدس لسخر منها وعدها خرافة وبالمثل حكايتا عدن والحية، ويوشع والشمس ولكنه قال متّى قبلنا القول بقداسة الكتاب المقدس، فلابد أن هذه القصص بالإضافة إلى الباقي حقيقة من كل وجه. ورفض محاولات أرازموس والباقين للتوفيق بين الكتاب المقدس والعقل عن طريق التأويل المجازي(111) وعدّها من قبيل الإلحاد. ولما كان قد فاز بالطمأنينة الذهنية لا عن طريق الفلسفة ولكن عن طريق الإيمان بالمسيح كما صورته الأناجيل، فإنه اعتصم بالكتاب المقدس باعتباره الملاذ الأخير للروح، وعارض علماء الانسانيات وعبادتهم للكلاسيات الوثنية فعرض الكتاب المقدس لا باعتباره نتاج فكر بشري، بل باعتباره بركة من الله وعزاء للبشر.
وقال: "إنه يعلّمنا أن نرى ونشعر وندرك ونفهم معنى الإيمان والأمل
والبر بطريقة مغايرة لما يستطيع أن يفعله العقل البشري وعندما تضيق صدورنا بالشر فإنه يعلّمنا كيف تشع هذه الفضائل الضوء لكي يبدد الظلام وكيف أن هناك حياة أخرى خالدة بعد هذه الحياة الهزيلة التعسة التي نحياها على الأرض"(112).
وعندما سُئل عن الأساس الذي استند إليه في أن الكتاب المقدس من وحي الله أجاب ببساطة أنه استند إلى تعاليمه ولا يمكن غلا لأُناس ألهمهم الله أن يكوّنوا مثل هذا الإيمان العميق الذي هو عزاء للنفس.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق