1199
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> أرازموس الرائد -> الفيلسوف
5- الفيلسوف
وعند عودته إلى بروكسل وجد نفسه فريسة الإغراء بالتمسك بالحرص نظراً لما استقبل به من ترحاب ودي في البلاط الملكي. وأخذ منصبه كمستشار خاص بجد، ونسي أن المؤلفين اللامعين قلما تتوفر فيهم صفة الحنكة السياسية. وألف في عجلة عام 1516 الحافل بالأعمال كتابه:"تربية أمير مسيحي" الذي يفيض بالتفاهات التي كانت سائدة قبل ظهور كتاب ميكافيلي عن السلوك الذي يجب أن يتبعه ملك. وكتب في إهدائه لشارل بصراحة تتسم بالجرأة :"إنك تدين للعناية الإلهية في الفوز بمملكتك دون الإضرار بأحد ولسوف تظهر حكمتك على الوجه الأكمل إذا استطعت أن تحافظ فيها على السلام والهدوء". وكان ارازموس، مثل معظم الفلاسفة، يعد الملكية أهون الأشكال الحكومية شراً، وكان يخشى الشعب ويعده "وحشاً متقلباً متعدد الرؤوس". وكان يستنكر مناقشة الشعب للقوانين والسياسة ويرى أن فوضى الثورة أسوأ من أي استبداد للملوك، بيد أنه أشار على أميره المسيحي أن يتقي شر تركيز الثروة، فالضرائب لا تفرض إلا على الكماليات، ويجب تقليل الأديرة وزيادة المدارس، وعلاوة على كل هذا يجب ألا ينشب قتال
بين الحكومات المسيحية- ولا حتى ضد الأتراك. "خير لنا أن نتغلب على الأتراك بالتقوى في حياتنا لا بالأسلحة. وهكذا يتم الدفاع عن الإمبراطورية المسيحية بنفس الوسائل التي أسست بها أصلا". "ماذا تولد الحرب ألا الحرب؟- ولكن الدماثة تدعو إلى الدماثة والعدالة تدعو إلى العدالة".
ولما كان شارل وفرانسس قد ثارت بينهما العداوة فإن أرازموس وجه الدعوة تلو الدعوة للسلام وامتدح الملك الفرنسي في حالة عابرة من المصالحة وتساءل كيف يمكن أن يفكر أحد في شهر الحرب على فرنسا "أطهر جزء في العالم المسيحي وأعظمه ازدهاراً". ووصل إلى ذروة الفصاحة المتحمسة في كتابه (الشكوى من السلام 1517).
"أمر في صمت على مآسي الحروب القديمة ولن أركز الحديث إلا على الحروب التي نشبت في خلال هذه السنوات الأخيرة. أين الأرض أو البحر الذي لم يحارب فيه الناس بطريقة من أقسى ما يمكن؟ وأين النهر الذي لم تصطبغ مياهه بدم الإنسان... بالدم المسيحي؟ يا للعار العظيم! إنهم يتصرفون بقسوة في المعركة تزيد على قسوة غير المسيحيين، وبوحشية تفوق وحشية حيوانات الغاب.. وكل (هذه الحروب) نشبت بسبب نزوات الأمراء على حساب الإضرار بالناس الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعارك... وليس بين الأساقفة والكرادلة والبابوات، وهم كهنة المسيح، من يخجل من بدء الحرب التي لعنها المسيح. ما هو الشيء المشترك بين الخوذة وتاج الأسقف؟ ويا أيها الأساقفة، يا من يحملون لواء الرسل، كيف تجرءون على أن تعلموا الناس أموراً كثيرة عن لحرب في نفس الوقت الذي تعلمونهم فيه تعاليم الرسل؟ إن السلام ولو كان جائراً أفضل من الحروب ولو كانت تمليها العدالة".
قد يفد الأمراء والقواد من الحرب ولكن الجماهير تتحمل المآسي والنفقات. وقد يكون من الضروري أحياناً شن حرب دفاعاً عن النفس
ولكن حتى في الحالات قد تكون رشوة العدو أشد حكمة من شرور الحرب. فليرفع الملوك منازعاتهم إلى البابا. وقد يكون هذا إجراء غير علمي في عهد يوليوس الثاني إذ كان هو نفسه رجلا محارباً، أما ليو العاشر وهو "حبر متعلم تقي أمين" فإنه سيحكم بالعدل ويرأس فعلا محكمة دولية. ووصم أرازموس القومية بأنها لعنة للبشرية وتحدي الساسة أن يبتدعوا حكومة عالمية. وقال: "إني أتمنى أن أكون مواطناً عالمياً" واغتفر لبودي حله لفرنسا ولكنه قال : "في رأيي أنه أقرب للحكمة أن تكون علاقاتنا مع الأشياء والناس أساساً مثل اعتبار العالم البلد المشترك بالنسبة لنا جميعاً".
كان أرازموس أضعف الناس حماساً للقومية في عهد الإصلاح الذي رفع من شأن القومية. وكتب يقول: "إن أسمى شئ هو أن يستحق المرء أن ينسب إلى الجنس البشري".
ويجب ألا نتوقع من أرازموس أن يقدم لنا أي مفهوم واقعي للطبيعة البشرية أو عن أسباب الحروب أو عن سلوك الحكومات فهو لم يواجه قط المشكلة التي كان يعالجها في مكيافيلي في تلك السنوات نفسها. وهل كان في وسع حكومة أن تبقى إذا مارست الأخلاق التي تحث المواطنين على اتباعها. كانت وظيفة أرازموس أن يبتر الأغصان من شجرة الحياة لا أن يبني فلسفة إيجابية متينة. بل إنه لم يكن واثقاً من أنه مسيحي، فكثيراً كتب: "إن الذين ينكرون وجود الله ليسوا ملحدين كهؤلاء الذين يصورونه تعالى متزمتاً". وكان لا يكاد يؤمن بأن العهد القديم من كلام الله لأنه أقر برغبته في "أن يرى العهد القديم كله يبطل" إذا كان يهدئ من الحنق على رويخلين. وسخر من الروايات المأثورة عن مينوس ونوما بأنهما كانا يغريان شعبيهما بالخضوع لتشريع غير لطيف بنسبته إلى الآلهة. ولعله راوده الشك في أن موسى كان يتبع نفس السياسة. وعبر عن دهشته لأن
"مور" رضى بالحجج التي تساق لإثبات خلود النفس ورأى أن العشاء رمز وليس معجزة، ومن الواضح أنه راوده الشك في الثالوث وفي تجسد الإقنوم الثاني وفي ولادة العذراء، وكان على مور أن يحميه من مراسل أعلن أن أرازموس قد اعترف في خلوة بعدم إيمانه. وطرح للنقاش واحداً بعد الآخر العادات التي درج عليها المسيحيون في عهده-صكوك الغفران والصيام والحج والاعتراف السري والرهبانية والعزوبة الأكليريكية وعبادة مخلفات القديسين والصلوات للقديسين وحرق الهراطقة. وقدم تفسيرات مجازية أو منطقية لكثير من فقرات الكتاب، المقدس، وقارن قصة آدم وحواء بقصة بروميثيوس، وأشار بتفسير الكتب المقدسة تفسيراً يلتزم أقل ما يمكن المعنى الحرفي، وحول عذاب الجحيم إلى الألم الدائم للعقل الذي يصحب الإثم المعتاد. ولم يذع شكوكه بين الناس لأنه لم يكن لديه أساطير مواسية أو رادعة يقدمها بدلا من الأساطير القديمة. وكتب يقول: "إن التقوى تستلزم منا أن نخفي الحقيقة أحيانا وأن نحرص على ألا نظهرها دائماً كما لو كان لا يهم متى وأين أو لمن نظهرها، ولعلنا نجد لزاماً علينا أن نتفق مع أفلاطون في أن الأكاذيب مفيدة للناس".
وعلى الرغم من هذا الميل الشديد للمذهب العقلي فقد ظل أرازموس ظاهريا متفقاً مع المحافظين ولم يعدم قط محبته للمسيح وللأناجيل وللطقوس الدينية الرمزية التي رفعت بها الكنيسة من شأن التقوى. وابتدع شخصية في محاورته تقول "إذا كان ثمة شئ شائع الاستعمال عند المسيحيين لا يتنافر مع الكتب المقدسة فإني أراعيه لهذا السبب بحيث لا أسئ إلى الناس الآخرين".
وكان يحلم بأن يستبدل باللاهوت: فلسفة المسيح، وسعى إلى التنسيق بين هذه الفكرة وبين رأى كبار الوثنيين. ووصف أفلاطون وشيشرون وسينكا بعبارة "ملهم من الله" ولم يقبل أن يحرم هؤلاء الرجال من الخلاص
وكان لا يكاد يستطيع أن يمتنع عن الصلاة على الروح القديس سقراط. وطلب من الكنيسة أن تختصر المذاهب الجوهرية للمسيحية "إلى أقل عدد ممكن وأن تترك للباقي حرية الرأي". ولم يدافع عن التسامح الكامل مع كل الآراء (ومن يفعل؟) ولكنه اتخذ موقفاً رفيقاً منحازاً نحو الهرطقة الدينية. وكان مثله الأعلى في الدين هو محاكاة المسيح ومهما يكن من أمر فإننا يجب أن نسلم بأن ممارسته للشعائر كانت أقل من أن توصف بأنها مطابقة لتعاليم الكنيسة الإنجيلية.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق