1198
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> أرازموس الرائد -> العلامة
4- العلامة
وغادر إنجلترا في يوليو سنة 1514 وشق طريقه خلال الضباب والعادات إلى كاليه وهناك تلقى من رئيس ديره الذي نسبه في ستين، خطابا يشير فيه إلى أجازته انتهت منذ مدة طويلة وأنه يحسن به أن يعود ليقضي ما بقي من عمره تائباً مستغفراً فانزعج لأن رئيس الدير يستطيع، طبقاً للقانون الكنسي، أن يدعو السلطة الزمنية إلى الزج به مرة أخرى في السجن. والتمس أرازموس لنفسه عذراً ولم يتعجل رئيس الدير الأمر ولكن، لكي
يتحاشى العلامة تكرار الحيرة، وطلب من أصدقائه الإنجليز ذوي النفوذ أن يكفلوا له من ليو العاشر إعفاءه من التزاماته كراهب.
وبينما كانت تجرى هذه المفاوضات اتخذ أرازموس طريقه أعلا الراين إلى بازيل وعرض على الناشر فروين مخطوط أهم مؤلف له، وهو مراجعة نقدية للنص اليوناني للعهد الجديد مرفقا بترجمة لاتينية وتفسير.
كان عملا أملاه الحب والاعتزاز بالنفس يتعرض مؤلفه وناشره للخطر على السواء: فقد استغرق الإعداد سنوات وسوف يكون الطبع والنشر من الأعمال الشاقة الكثيرة النفقات. والزعم بتفوق الترجمة، على نسخة جيروم اللاتينية، التي ظلت مقدسة مدة طويلة باعتبارها نسخة لاتينية للكتاب المقدس، قد تدينه الكنيسة، ومن المحتمل ألا تغطى المبيعات النفقات. وخفف أرازموس المخاطرة بإهداء العمل إلى ليو العاشر. وأخيراً نشر فروين في فبراير سنة 1516 "الأداة الجديدة الكاملة التي حققها ونقحها بمنتهى الدقة أرازموس الروتردامي Instrumentum omme, diligenenter ab Erasmo Rat, recognitum et emendatum. وصدرت بعدها طبعة تغيرت فيها كلمة الأداة بالوصيةInstrumentum to Testamentum وقدم أرازموس في أعمدة متقابلة النص اليوناني كما راجعه بنفسه مع ترجمته اللاتينية ويبدو أن معرفته باللغة اليونانية كانت غير كاملة ومن ثم فهو يشترك مع جماعي الحروف في المسئولية عن أخطاء كثيرة. ومن وجهة النظر العلمية كانت الطبعة الأولى من العهد الجديد باليونانية المعدة للنشر بعد الطبع أقل من مثيلها التي أتمها وطبعها جماعة من العلماء لحساب الكاردينال أكسيمينيس عام 1514 وإن كانت لم تقدم للجمهور إلا عام 1522. وقد دل هذان العملان على تطبيق التعليم الإنساني لأدب- المسيحية الأولى وعلى بداية هذا النقد الإنجيلي الذي استعاد الكتاب المقدس في القرن التاسع عشر إلى مجال التأليف الإنساني وما يتعرض له من زلل.
ونشرت مذكرات أرازموس في مجلد منفصل وقد كتبت بلغة لاتينية اصطلاحية واضحة مفهومة لكل خريجي الكليات في هذا العهد وكانت لها قاعدة عريضة من القراء وعلى الرغم من أنها كانت متفقة مع الإجماع فإنها سبقت كثيرا من التفسيرات التي ابتدعت في البحث التالي. وقد حذف في طبعته الأولى Comma Johanneum "الوصل اليوحني" (إصحاح يوحنا 7:5) الذي أكد الثالوث ولكن الذي تلفظه اليوم النسخة المنقحة الصحيحة باعتباره مما دس في القرن الرابع.
ونشرت قصة المرأة التي اتهمت بالزنى وإن كان قد أشار إلى أن من المحتمل أن تكون كاذبة (إصحاح يوحنا 53:7 و 11:8) كما نشر الأثنتي عشرة آية الأخيرة من إنجيل مرقس وأشار في أكثر من موضع إلى الفرق بين المسيحية الأولى والحالية. وعلق على إصحاح متى 227:23: "ترى ماذا يقول جيروم لو رأى لبن العذراء يعرض للبيع بالمال، ويضفي عليه من التكريم ما يضفي على حسد المسيح المقدس، والزيوت الإعجازية وأجزاء الصليب الحقيقي التي تكفي إذا جمعت لشحن سفينة كبيرة؟ هنا قلنسوة سانت فرانسيس وهناك تنورة العذراء أو مشط سانت آن... لا تقدم كأشياء بريئة معاونة للدين ولكن كجوهر للدين نفسه وكلها تعبث ببساطة الناس من خلال شح القسس وهرطقة الرهبان"
ولوحظ أن إصحاح متى 12:19 ينص على "لقد خصى بعضهم نفسه من أجل مملكة السماء" وقيل هذا للنصح بالعزوبة في الدير وكتب أرازموس "أننا ندرج بين هذه الطائفة هؤلاء الذين دفعوا إلى حياة العزوبة بالغش أو بالإرهاب حيث يسمح لهم بالزنى ويحظر عليهم الزواج وهكذا يعدون قسسا مسيحيين إذا احتفظوا علنا بخليلة ويحرقون إذا اتخذوا زوجة. وفي رأيي أن الآباء الذين يعتزمون نذر أولادهم للكهنوت الذي يقتضي العزوبة
يكونون أرق قلباً لو خصوهم في طفولتهم بدلا من تعرضهم كلية لهذا الإغراء والخضوع للشهوة".
وفي رسالة تيموثاوس 2:3: هناك الآن أعداد ضخمة وحشود هائلة من القسس علمانيين ونظاميين. ومن الشائع أن قلة منهم تتمسك بالعفة وأن الجانب الأكبر منهم يسقطون في حمأة الشهوة والزنى بالمحارم والفجور. وليس من شك في أنه من الأفضل أن يسمح لهؤلاء الذين لا يستطيعون التمسك بالعفة بزوجات شرعيات وبهذا ينجون من هذا الدنس البذئ التعس.
وأخيراً عزف أرازموس اللحن الأساسي للمصلحين في تعليق عام على إصحاح متى 30:11-ألا وهو العودة من الكنيسة إلى المسيح: "حقا إن قيد المسيح يكون لطيفاً وحمله خفيفاً إذا لم تضف الشرائع الإنسانية التافهة شيئاً لما عرضه هو نفسه. إنه لم يأمرنا إلا بأن يحب بعضنا بعضا وليس ثمة ما يصعب على المودة أن تلطف من حدته وتخفف من مرارته. فكل شئ من السهل تحمله طبقا للطبيعة، ولا شئ يتفق مع طبيعة الإنسان أحسن من فلسفة المسيح التي لا هدف لها إلا إعادة البراءة والتكامل للطبيعة الهاوية... وقد أضافت الكنيسة لها أشياء كثيرة يمكن الاستغناء عن بعضها دون الإضرار بالإيمان... مثل كل تلك العقائد الفلسفية عن طبيعة الإنسان وتمييز الأشخاص. وما أكثر القواعد والأوهام التي تعرفها عن الثياب... وما أكثر أيام الصيام التي استنت... وماذا نقول عن العهود.. وعن سلطة البابا وإساءة استخدام صُكوك الغفران والتحلل؟.. هل يرضى الناس أن يدعوا المسيح يحكم بمقتضى شرائع الإنجيل وألا يبحثوا بعد ذلك عن دعم طغيانهم الجامح بقوانين من صنع البشر؟".
ولعل التفسيرات هي التي أتاحت للكتاب نجاحاً لا بد أنه أذهل المؤلف والناشر على السواء. وقد وزعت الطبعة الأولى في ثلاث سنوات ثم صدرت
للكتاب طبعات جديدة ومنقحة بلغت تسعة وستين قبل وفاة أرازموس. ووجه للعمل نقد عنيف وأشير إلى ما تضمنه من أخطاء كثيرة. ولقد دمغ الدكتور جوهان أيك، الأستاذ بجامعة انجولشتادت وأول خصيم للوثر، بالعار بيان أرازموس المتضمن أن اللغة اليونانية التي كتب بها العهد الجديد أقل شأنا من اللغة اليونانية التي كان يتكلم بها ديموستين. ومهما يكن من أمر فإن ليو العاشر وافق على العمل. وطلب البابا أدريان السادس من أرازموس أن يعمل للعهد القديم ما قام به نحو العهد الجديد ولكن مجلس ترنت أدان ترجمة أرازموس وأعلن أن النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس لجيروم هي النسخة اللاتينية الأصلية من الكتاب المقدس. وسرعان ما عد العهد الجديد لأرازموس عملاً متخلفاً من الناحية الدراسية العلمية وإن كان أثره عظيما باعتباره حدثا في تاريخ الفكر، فقد يسر ورحب بالترجمات الوطنية التي ظهرت في أعقابه. ونقول فقرة متحمسة في المقدمة: "بودي لو قرأت أضعف امرأة الأناجيل ورسائل القديس بولص. بودي لو ترجمت هذه الكلمات إلى جميع اللغات لا ليقرأها الاسكتلنديون والايرلنديون فحسب بل ليقرأها أيضاً الأتراك والمشارقة.
وإني لأود أن ينشد الحارث لنفسه وهو يسير وراء المحراث ويترنم بها النساج على أنغام الماكوك يهون بها المسافر من مشقة رحلته... قد نأسف على دراسات أخرى أخذناها على عاتقنا ولكن ما أسعد المرء الذي يفاجئه الموت وهو مشغول بها.
إن هذه الكلمات المقدسة تعطيك نفس صورة المسيح وهو يتكلم ويبرئ المرضى، وهو يموت ثم يرفع مرة أخرى، وتجعله حاضراً بحيث لو مثل أمام عينيك لما رأيته حقا أوضح من هذا".
واغتبط أرازموس لكفاية مطبعة فروبن والعاملين بها فأصدر (في نوفمبر سنة 1516) طبعة نقد فيها ترجمة جيروم وأعقبها بنصوص مماثلة
منقحة وكلاسية لآباء الكنيسة وصحح 4.000 خطأ في النص الذي تلقاه من سينيكا وكانت خدمات هذه خدمات جوهرية للدارسين.
وروى ثانية قصة العهد الجديد بتفسيرات (1517) تطلبت هذه المهام الإقامة من مرة في بازيل وان حدد ارتباط جديد إقامته قرب البلاط الملكي في بروكسل. وكان شارل آنذاك ملكا على قشتالة وحاكماً للأراضي المنخفضة ولم يكن عندئذ قد أصبح الإمبراطور شارل الخامس، وكان لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ومع ذلك فإن عقله المرهف كان يهيم حول اهتمامات مختلفة، واقتنع فعلا بأن بلاطه يمكن أن يزداد تألقاً إذا كان بين مستشاريه العالمين ببواطن الأمور الكاتب البارز في عصره. وأصدر أمراً بهذا وقبل أرازموس - لدى عودته من بازبل (1516)- المنصب الفخري بمرتب متواضع. وعرض عليه منصب ديني كورتراي مع وعد بأسقفية فرفضه وكتب لأحد أصدقائه يقول: "هاك حلم يسليك". وتلقى وأعرض عن دعوات بالتدريس في جامعات ليبزج وأنجولشتادت.
وحاول فرانسس الأول أن يفرق بينه وبين شارل بطلب ينطوي على التملق وهو أن ينظم إلى بلاط فرنسا فرفض أرازموس العرض بلطف ورقة.
وفي الوقت نفسه كان ليو العاشر قد أرسل إلى لندن التحليلات المطلوبة، وفي مارس من عام 1517 سافر أرازموس إلى لندن وتسلم رسائل البابا التي تحله من التزاماته نحو الدير ومن وصمة اللقاطة. وأضاف ليو إلى الوثائق الرسمية مذكرة شخصية: "ابني الحبيب: تمنياتنا لك بالصحة مع بركاتنا الرسولية. إن ما من الله به عليك من حياة طيبة وخلق قويم، ولوذعيتك النادرة وأفضالك الرفيعة لا تشهد عليها آثار دراساتك التي اشتهرت في كل مكان فحسب بل يشهد عليها أيضا إجماع آراء معظم المتعلمين. وقد أننت عليك رسائل أميرين ذائعي الصيت هما ملك إنجلترا، وملك فرنسا الكاثوليكي وهذه هيأت لنا سبباً لكي نخصك بمنة فريدة وفضل خاص.
ومن ثم أجبنا التماسك ونحن راضون ومستعدون لكي نعلن محبتنا الشديدة لك عندما تهيئ الفرصة إما بنفسك أو عندما تسنح بطريق الصدفة. ونظن بحق أن جهدك المقدس الذي يبذل باستمرار للصالح العام سوف يلقى تشجيعاً وقدراً عظيماً من الاهتمام بمكافآت مناسبة".
ولعلها كانت رشوة حكيمة لسلوك حسن، ولعلها كانت لفتة صادقة من بلاط متسامح إنساني، وفي أية حالة فإن أرازموس لم ينس قط هذه المجاملة البابوية وسوف يجد دائماً من الصعب أن يتحلل من كنيسة تحملت في صبر لذع نقده.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق