1191
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> غزو البحر -> كولمبس
الفصل الرابع عشر
غزو البحر
1492 - 1517
1- كولمبس
لقد كان "قدراً ظاهراً" أن يجرؤ امرؤ في هذا العصر على اقتحام مخاطر الأطلنطي ليكتشف الهند أو "كاثي" إذ تحدثنا الأسطورة عن وجود "أطلانتس" عبر البحر بل إن الأساطير المتأخرة ذهبت إلى وجود نبع وراء الأطلنطي تنمح مياهه الشباب الدائم. وأدى فشل الحملات الصليبية إلى ضرورة كشف أمريكا وكانت لسيطرة الأتراك على شرقي البحر الأبيض المتوسط وما اقترفه العثمانيون في القسطنطينية والأسر الملكية المناهضة للمسيحية في فارس وتركستان من إغلاق الطرق البرية ومنع المرور فيها سببا في جعل الطرق القديمة للتجارة بين الشرق والغرب باهظة التكاليف ومحفوظة بالمخاطر. وتشبثت إيطاليا وفرنسا ببقايا تلك التجارة على الرغم من كل عوامل التثبيط من ضرائب الطرق والحرب ولكن البرتغال وإسبانيا كانتا بعيدتين جدا في الغرب وكان من الصعب عليهما الاستفادة من مثل الاتفاقات وكانت مشكلتهما لا تحل إلا بالعثور على طريق آخر وقد وجدت البرتغال طريقا حول أفريقيا ولم يعد أمام إسبانيا إلا أن تجرب حظها في المرور غرباً.
وقد أدى تقدم المعرفة إلى إثبات كروية الأرض منذ عهد بعيد وشجعت أخطاء العلم ذاتها على الأقدام وذلك بإساءة تقدير عرض المحيط الأطلنطي وبتصوير آسيا على أنها أرض سهلة للغزو والاستثمار في الطرف الأقصى.
ولقد وصل البحارة الاسكنديناويون عامي 986 و 1000 إلى لبرادور وعادوا يحملون نبأ العثور على قارة جديدة فسيحة، وزار كرستوفر كولمبس أيسلندا عام 1477، إذا صدقنا القصة التي رواها بلسانه، ومن المسلم به أنه سمع الروايات المأثورة التي تردد في فخر رحلة لايف اريكسونى إلى فنلنده Vindland.
كان المال هو كل ما تحتاجه المغامرة الكبرى وقتذاك أما الشجاعة فكانت متوفرة. وقد سجل كولمبس نفسه في المايورازو mayorazzo أو الوصية التي حررها قبل أن يقوم برحلته الثالثة عبر الأطلنطي أنه من مواليد جنوا. حقا أنه كان في محرراته الموجودة لدينا يتسمى بالاسم الأسباني كريستوبال كولون ولم يستخدم قط اسمه الإيطالي كريستوفورو كولومبو ولكن المعتقد أن هذا كان بسبب كتابته بالأسبانية لأنه عاش في إسبانيا أو لأنه كان يقوم برحلاته البحرية لحساب ملك إسبانيا لا لأنه ولد في إسبانيا. ومن المحتمل أن يكون أجداده أسبانيين من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية وهاجروا إلى إيطاليا، والدليل قوي على أن الدم العبري يسري في عروق كولمبس وعلى ميله لليهود. وكان والده نساجا ويبدو أن كريستوفورو امتهن هذه المهنة بعض الوقت في جنوا وسافونا، وقد ورد في الترجمة الذاتية التي كتبها ابنه فرديناند أنه درس التنجيم والهندسة وعلم الكون (الكوزموجرافيا) في جامعة بافيا وإن لم يدرج اسمه في سجلات الجامعة، وها هو يقول لنا بنفسه إنه أصبح بحارا في الرابعة عشرة من عمره لأن كل طريق في جنوا يؤدي إلى البحر.
وهاجم القراصنة عام 1476 سفينة كان كولمبس بها نحو لشبونة وأغرقت هذه السفينة. ويروى أنه سبح ستة أميال حتى وصل إلى الشاطئ مستعيناً ببعض الحطام ولكن يبدو أن أمير البحر العظيم أطلق
لخياله العنان إذ يقول إنه سافر بعد بضعة شهور إلى إنجلترا بحارا أو قبطانا ثم سافر إلى آيسلنده فلشبونة وهناك تزوج واستقر واشتغل برسم الخرائط الجغرافية، وكان حموه بحارا خدم الأمير هنري الملاح، وليس من شك أن كولومبوس سمع بعض الحكايات الممتعة عن شاطئ غينيا، ولعله انضم عام 1482 كضابط إلى الأسطول البرتغالي الذي أبحر حذاء هذا الشاطئ إلى مينا، وقرأ باهتمام كتاب البابا بيوس الثاني Historia rerum gestarum "تاريخ الأجناس" وكثيراً من التعليقات مما أوحى إليه بفكرة الطواف بحرا حول إفريقيا.
ولكن دراساته مالت به شيئاً فشيئاً نحو الغرب وعرف أن سترابون روى في القرن الأول من عصرنا محاولة للطواف حول الكرة الأرضية وكان يعلم ما كتبه سينيكا: "بعد سنوات سيأتي عصر يطلق فيه المحيط قيود الأشياء وتظهر أرض فسيحة ويكشف فيه النبي تيفيس عوالم جديدة ولن تكون ثولي (أيسلندة؟) أقصى طرف للأرض"، وقد قرأ "كتاب سير ماركوبولو الذي امتدح ثروات الصين وحدد وضع اليابان على بعد 1500 ميل شرق قارة آسيا. وكتب أكثر من ألف ملاحظة في نسخته من كتاب بيير دالي (صورة العالم) Imago mundi وقبل التقدير الراجح لمحيط الأرض بأنه يبلغ من 18,000 إلى 10,000 ميل ويربط هذا بتحديد بولولمكان اليابان حسب أن أقرب الجزر الأسيوية على بعد 5,000 ميل غرب لشبونة وقد سمع عام 1474 عن خطاب كتبه الطبيب الفلورنسي باولو توسكانيلي لملك البرتغال ألفونسو الخامس عليه بأنه اكتشاف طريق أقصر للهند من الطريق حول أفريقيا وذلك بالسفر بحرا لمسافة 5000 ميل غربا. وكتب كولومبوس إلى توسكانيلي وتلقى منه ردا مشجعا ونضجت الفكرة في ذهنه.
وحوالي عام 1484 عرض على جون الثاني ملك البرتغال أن يجهز ثلاث سفن للقيام بحركة استكشافية لمدة عام عبر الأطلنطي والعودة منها على أن يعين كولومبس أمير بحر أعظم للمحيط وحاكما دائما لكل الراضي التي يكتشفها، وأن يحصل على عشر كل الإيراد والمعدن الثمين الذي تحصل عليه البرتغال من تلك الأراضي (ومن الواضح أن فكرة نشر المسيحية كانت ثانوية بالنسبة للاعتبارات المادية). وقدم الملك العرض إلى لجنة من العلماء فرفضوه على أساس أن تقدير كولومبوس للمسافة عبر الأطلنطي بأنها لا تعدو 2400 ميل أقل بكثير من الحقيقة (كان هذا التقدير صحيحاً تقريباً للمسافة من جزر كاناري إلى جزر الهند الغربية) وعرض ملاحان برتغاليان عام 1485 مشروعاً مماثلاً على الملك جون ولكنهما وافقا على تمويله بنفسيهما فمنحهما جون بركته وهذا أضعف الإيمان، وانطلقا عام 1487 متخذين طريقاً أقرب للشمال تحف به الرياح الغربية الشديدة ثم عادا بخفي حنين. وجدد كولومبوس طلبه عام 1488 فدعاه الملك لمقابلته وأقبل كولومبوس في الوقت المناسب ليشهد العودة الظافرة لبارثولوميودياس من رحلة ناجحة طاف فيها حول أفريقيا. ولما كانت الحكومة البرتغالية تطمع في اكتشاف طريق إلى الهند يمر بأفريقيا فإنها تخلت عن فكرة البحث عن طريق عبر الأطلنطي فتحول إلى جنوا والبندقية ولكنهما بدورهما لم يقدما له أي تشجيع لأن اهتمامهما كان موجهاً لاكتشاف طريق للشرق بالإتجاه شرقاً. وفوض كولمبس أخاه في جس نبض هنري السابع ملك إنجلترا فدعاه إلى مقابلته ولكن عندما وصلت الدعوة إلى كولومبس كان قد وضع نفسه في خدمة أسبانيا. وكان عندئذ (1488) في حوالي الثانية والأربعين من عمره. طويلاً نحيلاً له وجه مستطيل وبشرة حمراء قانية وأنف معقوف وعينان زرقاوان بوجه نمش وشعره أحمر فاتح بدأت تتخلله الشعرات البيضاء ويوشك أن يشتعل شيباً، وقد وصفه ابنه وأصدقاؤه
بأنه رجل متواضع، رزين، وديع، فطن، معتدل في طعامه وشرابه، تقي للغاية. وزعم آخرون أنه كان معجباً بنفسه، يعرض الألقاب التي منحت له ويبالغ فيها وأنه رفع أجداده إلى طبقة النبلاء في خياله وكتاباته وأنه ساوم بشدة للحصول على نصيب من ذهب العالم الجديد. ومهما يمن الأمر فإنه كان يستحق أكثر مما طلب. وكان بين الفينة والفينة ينحرف عن العمل بالوصايا العشر فقد حدث في قرطبة أن أنجبت منه بياتريس انكريكيز ولداً غير شرعي عام 1488 وذلك بعد وفاة زوجته. ولم يتزوج منها كولومبس وإن كان قد وفر لها كل شيء في حياته ولم ينسها في وصيته ولما كان معظم علية القوم في تلك الأيام النشيطة قد أنجبوا أبناء من علاقات عارضة فإنه يبدو أن أحداً لم يعر هذا الحادث اهتماماً.
وفي غضون ذلك كان قد قدم التماسه إلى إيزابيلا صاحبة قشتالة (أول مايو سنة 1486) فأحالتها إلى جماعة من المستشارين يرأسهم صاحب القداسة رئيس أساقفة طلبيرة. وبعد أن تشاوروا طويلاً قدموا تقريراً ذكروا فيه أن الخطة غير عملية واحتجوا بأن آسيا تقع على مسافة أبعد من ناحية الغرب مما ظن كولومبس ومع ذلك فإن فرديناند وإيزابيلا منحاه راتباً سنوياً قدره 000و12 مارافيدس (840 دولاراً؟) وزوداه عام 1489 بخطاب يأمران فيه كل البلديات الأسبانية بأن توفر له الطعام والمأوى ولعلهما كانا يريدان أن يحتفظا بحق الاختيار بالنسبة لمشروعه لئلا يمنح قارة لملك منافس بطريق المصادفة ولما رفضت لجنة طلبيرة المشروع مرة أخرى بعد أن تداولت بشأن الخطة قرر كولومبس أن يقدم المشروع إلى شارل الثامن ملك فرنسا غير أن فراي جوان بيريز رئيس رهبان دير لارابيدا أثناه عن عزمه ورتب له مقابلة مع إيزابيلا فأرسلت إليه 000و20 مارافيدس لمواجهة نفقات رحلته إلى مقر قيادتها في مدينة سانتافي المحاصرة
وذهب هناك واستمعت في رقة إلى حجته ولكن مستشاريها عارضوا الفكرة مرة أخرى فاستأنف استعداداته للذهاب إلى فرنسا (يناير سنة 1492).
وعند هذه المرحلة الحرجة حرك يهودي متنصر سير التاريخ فقد لام لويس دي سانتاندر، وزير مالية فرديناند، إيزابيلا لافتقارها إلى الخيال والعزيمة، وأغراها بأن لها لوح بالأمل في أن تحول آسيا إلى المسيحية وأقترح أن يمول الحملة بنفسه بمعاونة أصدقائه وأيده في فكرته يهود آخرون -دون إيزاك أبرابانل Abrabanel وخوان كابريرو وأبراهام سنيور، وتأثرت إيزابيلا بالفكرة وعرضت أن ترهن جواهرها لرفع قيمة المبلغ المطلوب ولكن سانتاندر رأى أن هذا الإجراء غير ضروري وأقترض مبلغ 000و400و1 مارافيدس من جماعة الرهبان التي كان أميناً لصندوقها وأضاف إليه مبلغ 000و350 من جيبه الخاص كما حصل كولومبس بطريقه ما على مبلغ 000و250 علاوة على ما سبق.
وفي السابع من أبريل عام 1492 وقع الملك الأوراق الضرورية ثم أعطى عندئذ أو بعد ذلك لكولومبس خطاباً إلى خان كاثاي، وكان هذا في الصين وليس في الهند التي كان يأمل كولومبس أن يصل إليها والتي ظن حتى لآخر لحظة في حياته أنه قد اكتشفها.
وفي الثالث من أغسطس أبحرت سانتاماريا (سفينة أمير البحر) وبنتا ونينيا Nina من بالوس وعلى ظهرها ثمانية وثمانون رجلاً ومؤن تكفيهم لمدة عام.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق