1186
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> نمو المعرفة -> المعلمون
2- المعلمون
إن نهضة التجارة والصناعة قد أضيفت أهمية جديدة على التعليم. وإذا كانت معرفة القراء والكتابة تعد ترفا غالي الثمن في نظام زراعي فإنها تعتبر ضرورة لا غنى عنها في عالم المدينة الذي تغلب التجارة عليه. وقد أقر القانون أخيراً هذا التحول، ذلك أن ملاك الأرض الإقطاعيين في إنجلترا التمسوا عام 1391 من رتشارد الثاني تأييد القانون القديم الذي يحرم على رقيق الأرض أن يرسل ابنه إلى مدرسة دون أن يحصل على موافقة سيده ويقضى بتعويض المالك عن العجز في الأيدي العاملة بالمزرعة. ورفض رتشارد هذا الالتماس، أما في عهد خلفه فقد صدر قانون يسمح لأي رجل بأن يرسل من يشاء من أولاده إلى المدرسة. وفي ظل هذا القانون الذي أطلق حرية التعليم تضاعف عدد المدارس الأولية في حين بقيت في الريف المدارس التي يشرف عليها الرهبان. أما في المدن فإن الكنائس والمستشفيات والبيع والطوائف الحرفية كانت تمول المدارس الكبيرة وكان الالتحاق بها اختياريا بعد أنه شاع حتى في القرى.
وكان المعلمون في العادة من القسس ولكن نسبة المعلمين من غير رجال الدين ارتفعت في القرن الرابع عشر. وكان برنامج الدراسة يركز على الوعظ، والعقيدة الدينية والصلوات الأساسية والقراءة والكتابة والحساب والغناء والجلد بالسياط، ولقد كان الجلد بالسياط عماد التعليم حتى في المدارس الثانوية وفسر أحد رجال الدين ذلك بقوله: "يجب قمع أرواح الأولاد". وسلم معه الآباء بذلك وربما كان الأمر على هذا النحو. ولقد حثّت أجنس باستون مربي ابنها الخامل قائلة: "اجلده، إذا لم ينصلح حاله، فأنا أوثر أن يدفن حياً على أن أراه يضيع بسبب الإهمال".
تابعت المدارس الثانوية سياسة التربية الدينية وأضافت غليها قواعد اللغة وكانت لا تشمل النحو والصرف والإنشاء فحسب، بل كانت تشمل اللغة أيضاً كما أنها هذبت أدب روما الكلاسيكي وتعلم الطلبة من أبناء الطبقة المتوسطة قراءة اللاتينية وكتابتها وإن كان هذا قد حدث بلا اكتراث وذلك باعتبارها من الضروريات للاشتغال بالتجارة الخارجية والعمل بالكنيسة. وكانت أحسن المدارس الثانوية أبان ذلك العهد تلك التي أنشأها في هولندا وألمانيا إخوان "الحياة المشتركة" وكان بمدرسة ديفنتر ألفا طالب. وكان لويليام الأوكهامي، أسقف ونشستر الثري المقدام فضل السبق في إنشاء أولى المدارس العامة في إنجلترا وهي معاهد تعتمد على الإعانات التي تتلقاها من الأفراد والهيئات العامة لتزود عدداً محدوداً من الأولاد بالمعلومات وتعدهم للالتحاق بالكلية. وحذا هنري السادس حذوه فأسس عام 1440 مدرسة ايتون ومُنحت الكثير من المال لإعداد الكبار وللالتحاق بكلية الملك بكمبردج.
وكان تعليم النساء، اللهم إلا بعض كريمات العقائل، مقصوراً على البيت بعد المرحلة الابتدائية. وتعلم كثير من نساء الطبقة الوسطى مثل مارجريت باستون كتابة الإنجليزية السليمة وألم بضع نفر من النساء بالأدب والفلسفة. أما أبناء الطبقة الأرستقراطية فقد تلقوا تعليما يختلف عما يلقن في المدارس إذ كانوا حتى سن السابعة يدرسون على يد نساء البيت ثم يرسلون للعمل كوصفاء عند نبيل من الأقرباء أو الجيران وهناك بعيداً عن التأثر بالإفراط في المحبة يتعلمون القراءة والكتابة والدين وقواعد السلوك من السيدات والقس المحلي وفي سن الرابعة عشر يصبحون تابعين أي خدما كبارا لسيدهم. وفي ذلك الوقت يكونون قد تعلموا ركوب الخيل والرماية والصيد والمقارعة والقتال. أما سعة الاطلاع فقد تركوها لأتباعهم.
وفي غضون ذلك كانت هذه تطورا تراثا من أعظم ما ورثوه من العصور الوسطى وهو-الجامعات-وفي الوقت الذي خمد فيه أوار الحماسة
للعمارة الكنسية اشتدت حدة الحماسة لإنشاء الكليات وفي هذه الفترة شهدت أكسفورد إنشاء كليتي أكستر وأورييل وكلية الملك والكلية الجديدة وكليات لنكولن وأول سولز وماجدالين وبراسينوز وكليات الجسد الطاهر ومدرسة اللاهوت. ولم تكن عندئذ كليات بالمعنى الحديث للكلمة بل كانت قاعات، أو أماكن يقيم فيها مختار من الطلبة وكان يعيش فيها أو يكاد عشر الطلبة في أكسفورد وكان رجال الدين يدرسون معظم المواد بالجامعة في فصول دراسية أو في قاعات للمحاضرات متناثرة في أنحاء المدينة. وتمسك الرهبان البندكتيون والفرنشسكان والدومينيكان وغيرهم من طوائف الرهبان بكلياتهم المعهودة في أكسفورد وتخرج من هذه الكليات الملحقة بالأديرة نفر من ألمع الرجال في القرن الرابع عشر، من بينهم دونز سكوتوس وويليام الأوكهامي وكلاهما ألحق بعض الضرر بدراسة اللاهوت الأرثوذكسي وكان الدارسون للقانون يتلقون تدريبهم في لندن، في خانات المحاكم وفي أكسفورد لم يكن هناك تعاطف بين سكان المدينة وبين الطلبة في الكليات-أي بين المواطنين وطلاب العلم، فقد حدث في عام 1355 أن اندفع المعسكران المتعاديان إلى حرب مكشوفة وقتل كثير من الأبطال حتى عرف هذا العام باسم عام "المذبحة الكبرى".
وعلى الرغم من إدخال عقوبة الجلد بالسياط في جامعات إنجلترا (عام 1350) فإن الطلبة كانوا فئة مشاغبة وإذا كان قد حرم عليهم ممارسة الألعاب الرياضية داخل جدران كلياتهم فإنهم عددوا نشاطهم في المجون واحتساء الخمر والصيد والقنص وكانت الحانات والمواخير تلقى رواجا بفضل رعايتهم. وانخفض عدد الملتحقين بأكسفورد من ذروته في القرن الثالث عشر إلى نحو ألف وبعد طرد ويكليف تقاصت الحرية الأكاديمية بشدة الرقابة الأسقفية.
ولقد أفادت كمبرج من الخلاف مع ويكليف ومن الفزع من اللولارد
فمنع المحافظون المتزمتون أولادهم من الالتحاق بأكسفورد وبعثوا بهم إلى الجامعة الصغرى، وعلى هذا فإنه ما أن أشرف القرن الخامس عشر على الانتهاء حتى كان عدد الطلبة المقيدين بالجامعتين المتنافستين متساويا. وأنشئت قاعات جديدة في كامبردج: مايكل هاوس ويونيفرسيتي أوكلير وجبروك وجونفيل وكايوس وترينيتي وكوريس كرسيتي وكمجز وكويدة سانت كاترين وجيزوس وكريست وسانت جون. وقد أصبحت هذه كليات بالمعنى المفهوم عندنا- مثل قاعات الإقامة في أكسفورد إبان القرن الخامس عشر لأن عدداً متزايداً من المعلمين آثروها ورأوا أنها أصلح الأماكن التي تجتذب محاضراتهم فيها أكبر عدد من المستمعين وكانت الفصول تبدأ في الساعة السادسة صباحاً وتستمر حتى الساعة الخامسة بعد الظهر.
وفي غضون ذلك أنشأت اسكتلندا وأيرلندة بدافع من فقرهما جامعات سانت اندروز وجلاسجو وابردين وكلية ترينتي والمعاهد الأربعة في دبلن التي شاءت الأقدار أن تصب العبقرية، جيلا بعد جيل، في الحياة الفكرية في الجزر البريطانية، أما في فرنسا فقد عانى التعليم-مثل أي شئ آخر من حرب المائة عام ومع ذلك فإن الإقبال المتزايد على المحامين والأطباء بالإضافة إلى ما يحبب الناس في الوظيفة الدينية قد شجع إنشاء جامعات جديدة في افنيون Aviignon وأورليانز وكاهور وجرينوبل وأورانج واكس آن بروفانس وبواتييه وكان وبوردو وفالنس نانت وبورج. وأصبحت جامعة باريس في القرن الرابع عشر قوة تتحدى البرلمان وتزجى النصح للملك وتعمل كمحكمة استئناف في شرح علم اللاهوت الفرنسي واعترف معظم المشتغلين بالتعليم في القارة الأوربية بأنها جامعة "كون الأكوان" Universitas universit atis، ولعل هذا يرجع إلى أن الملكية كانت توشك على الانهيار. وأدى ارتفاع شأن الجامعات الإقليمية والأجنبية إلى قلة عدد الطلبة المقيدين في جامعة باريس بل إن كلية الآداب وحدها اشتهرت بأنها
تضم ألف مدرس وعشرة آلاف طالب في عام 1406، وكان بالجامعة كلها عام 1490 ما يقرب من عشرين ألفاً. عاونت على إيوائهم نحو خمسين كلية. وكان النظام هناك أقل صرامة عما هم عليه في أكسفورد والأخلاق التي تمتدح في الطلبة قد آثرت رجولتهم لا دينهم وأضيفت إلى المنهج الدراسي برامج في اللغات الإغريقية والكلدية والعبرية.
وأنشأت أسبانيا جامعاتها الرائدة في القرن الثالث عشر في بالانسيا وسلمنقة ولاردة وارتفع شأن جامعات أخرى في برايبجنان ووشقة وبلد الوليد وبرشلونة وسرقسطة وبالما وسيجونرا وبلنسية القلعة وإشبيلية. وخضعت هذه المعاهد لرقابة دينية صارمة وكان لعلم اللاهوت المقام الأول فيها. ومهما يكن من أمر، فقد خصص في جامعة القلعة أربعة عشر كرسيا (أستاذية) لعلم النحور والصرف والأدب والبلاغة واثنا عشر كرسياً للاهوت والقانون الكنسي، وظلت جامعة القلعة فترة ما أعظم مركز تعليمي في أسبانيا، وفي عام 1525 كان عدد الطلبة المقيدين بها سبعة آلاف. وقدمت المنح للطلبة المعوزين وكان ويتحكم في مرتب الأستاذ عدد طلابه. وكان يطلب من كل أستاذ أن يستقبل كل أربع سنوات ولا يكون صالحاً للتعيين من جديد إلا إذا كان عمله مرضياً. وفي لشبونة وفي عام 1300 أنشأ الملك دينيز جامعة ولكن شغف الطلبة جعله ينقلها إلى كويمبرا ولا تزال هذه الجامعة من مفاخرها حتى اليوم.
وكانت الحركة الفكرية في هذه الفترة بأوربا الوسطى أقوى منها في فرنسا أ, أسبانيا، فقد أنشأ شارل الرابع عام 1347 جامعة براغ التي سرعان ما تزعمت الحركة الفكرية لشعب بوهيميا وغدت لسانها الناطق. وظهرت جامعات أخرى في كراكو وفيينا وبيكس وجنيف وارفورت وهايدلبرج وكولونيا وبودا، وفورتسبرج وليبتسيج وروستوك ولوفين وترين وفرايبورج - أم- برايسجاو وجريفسفالد وبازيل وانجو لشتادت وبرسبورج وماينز
وتوبنجن وكوبنهاجن وأوبسالا وفرانكفورت-آن- أودر وفيتنبرج. وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر كانت هذه المعاهد تعج بأفواج الطلاب والمناظرات. وكان في كراكو وحدها 18338 تلميذاً في آن واحد وكانت الكنيسة تقدم معظم المال ومن الطبيعي أن يطلق عليها لحن الفكر، ولكن الأمراء والنبلاء والمدن ورجال الأعمال أسهموا في التبرع للكليات وتقديم المنح الدراسية. فقد زود الأمير فرديريك صاحب ساكسونيا جامعة فيتنبرج جزئياً بالمال المحصل من بيع صكوك الغفران والذي رفض أن يرسله إلى روما. وأنشئت لفلسفة الكلام كراسي أستاذية في الفلسفة بينما ارتقى شأن العلوم الإنسانية خارج أسوار الجامعة ولذلك انضمت معظم جامعات ألمانيا إلى الكنيسة إبان عهد الإصلاح الديني باستثناء جامعتين مهمتين: ارفورت التي درس فيها لوثر وفيتنبرج التي كان يدرس بها.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق