إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 28 أبريل 2014

1210 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني -> تكوين لوثر 2- تكوين لوثر





1210


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر والإصلاح الديني -> تكوين لوثر

2- تكوين لوثر


ترى ما هي ظروف الوراثة والبيئة التي صاغت من راهب مغمور، في مدينة لا يتعدى سكانها ثلاثة آلاف نسمة داود الثورة الدينية؟ كان أبوه هانز رجلاً صارماً فظاً يستثار بسهولة، ومناهضاً لرجال الدين، وكانت أمه امرأة خجولاً متواضعة تكرس كثيراً من أوقاتها للصلاة، وكان كلاهما مقتصداً. وعمل هانز فلاحاً في موهرا ثم اشتغل بالتعدين في مانسفيلد، إلا أن

مارتن ولد في أيسليبين في اليوم العاشر من نوفمبر عام 1483، وأعقب والده بعده ستة أطفال. وكان هانز وجريتا يؤمنان بالعصا كوسيلة سحرية لتقويم الأخلاق، ويقول مارتن إن أباه ثابر على ضربه يوماً حتى إنهما ظلا زمناً طويلاً يناصب كل منهما الآخر العداء، وفي مناسبة أخرى جلدته أمه حتى سال دمه لأنه سرق جوزة. وقال مارتن مفكراً فيما بعد: "إن الحياة الخشنة القاسية التي عشتها معهما هي التي دفعتني إلى أن ألجأ فيما بعد إلى الدير وأصبح راهباً"(10). وليس من شك في أن صورة الرب التي نقلها له والداه عكست مزاجهما الخاص. أب قاسٍ وقاضٍ صارم يطالب بفضيلة عبوس ويطلب استرضاءه دائماً ويلعن أخيراً الجانب الأكبر من البشر ويدعو عليهم بأن يخلدوا في النار. وكان والداه كلاهما يؤمنان بوجود سحرة وعفاريت وملائكة وشياطين من فصائل متعددة وتخصصات متنوعة، وحمل مارتن معه حتى النهاية معظم هذه الخرافات. وهكذا أسهم دين قام على الفزع في بيت يحتفل بالتأديب الصارم في تكوين شباب لوثر وعقيدته الدينية.
والتحق بمدرسة في مانسفيلد كان الطلبة يتلقون فيها مزيداً من العصي وكثيراً من الوعظ وجُلد فيها مارتن خمس عشرة مرة في يوم واحد لأنه أخطأ في اعراب اسم. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره نقل إلى مدرسة ثانوية تديرها جمعية دينية في ماجدنبرج، وفي سن الرابعة عشرة حول إلى مدرسة سانت جورج في أيزيناخ، وأمضى ثلاث سنوات سعيدة نسبياً اقام فيها بمنزل السيدة كوتا المريح. ولم ينسَ لوثر قد قولها إنه ليس على ظهر الأرض ما هو أثمن للرجل من حب إمرأة فاضلة. وكانت هذه نعمة لم يظفر بها إلا بعد اثنين وأربعين عاماً، وفي هذا الجو الصحي استكمل السحر الطبيعي للشباب، إذ كان سليماً معافى صريحاً ومنشرحاً من الناحية الاجتماعية. وكان يحسن الغناء والعزف على العود.
وأرسله والده الميسور الحال عام 1501 إلى الجامعة في أرفورت، وكان

برنامج الدرس يركز على اللاهوت والفلسفة، وكانت لا تزال كلامية ولكن المذهب الاسمي لأوكهام كان قد انتصر هناك، ولعا لوثر قد فطن إلى رأي أوكهام الذي يذهب إلى أن البابوات والمجالس الدينية يمكن أن تخطئ، وكان من رأيه أن فلسفة الكلام في أية صورة من صورها غير مستحبة حتى انه امتدح لصديق له "إلا يتعلم الروث الذي يقدم باعتباره فلسفة"(11).
وكان في أرفورت بعض علماء الانسانيات المعتدلين، وتأثر بهم قليلاً ولكنهم لم يهتموا به عندما وجدوه يحتفل بالعالم الآخر. وتعلم قليلاً من اليونانية والنزر اليسير من العبرية ولكنه قرأ أمهات الكتب الكلاسيكية باللاتينية، وحصل على 1505 على درجة الماجستير في الآداب، فأرسل له أبوه المزهو به نسخة غالية من مجموعة قوانين البلد هدية بمناسبة تخرجه. واغتبط عندما بدأ ابنه في دراسة القانون. وفجأة بعد شهرين من هذه الدراسة قرر الشاب أن يصبح راهباً، الأمر الذي أفزع والده.
وهذا القرار يعبر عن التناقض في خلقه، فقد كان قوياً يفيض بالحيوية إلى حد الانغماس في الشهوات، وكان من الواضح أنه خلق لحياة يرضي فيها الغرائز الطبيعية، ومع أنه لقن في البيت والمدرسة عن اقتناع أن الإنسان آثم بطبعه، وأن الاثم معصية لإله قادر على كل شيء شديد العقاب، فإنه لم يوفق قط، في الفكر أو في السلوك، بين غرائزه الطبيعية وبين معتقداته المكتسبة. ويبدو أنه عندما كان يمر بالتجارب الغرامية العادية ونزوات المراهقة لم يستطع أن ينظر إلى هذه التجارب على أنها مراحل من التطور، بل رأى أنها من أعمال شيطان نذر نفسه للإيقاع بالارواح في لعنة أبدية لا فكاك منها. وكان مفهومه الذي لقن له عن الله لا يكاد يشمل أي عنصر من الحنان، ولم يكن لصورة مريم المواسية موضع كبير في هذا اللاهوت القائم على الخوف، ولم يكن يسوع هذا هو الابن المحب الذي لا يستطيع أن يرفض طلباً لأمه، بل كان عيسى في يوم الدينونة الذي كثيراً ما صوّر في

الكنائس، المسيح الذي هدد الخاطئين بعذاب جهنم الأبدي. وليس من شك في أن الفكرة المتواترة عن الجحيم وضعت غشاوة على عقل كان شديد التمسك بتعاليم الدين بحيث نسيها وهو ينتهب لذة الحياة كل يوم. وبينما كان عائداً يوماً من بيت أبيه في أرفورت (يوليو سنة 1505) واجهته عاصفة رهيبة، ولمع البرق حوله، وأصابت الصاعقة شجرة قريبة منه؛ وخيل للوثر أن هذا انذار من الله وأنه ما لم يكرس أفكاره للخلاص فسوف يفاجئه الموت ويلقى حتفه دون أن يسمع اعترافه وتطارده اللعنة. ترى اين يستطيع أن يحيا حياة ينصرف فيها إلى التعبد؟ إن هذا لا يتيسر إلا حيث يقيم حاجزاً بينه وبين العالم والشهوة والشيطان، بين أربعة جدران، أو يقهر النفس بالانصراف إلى التقشف، ونذر عهداً للقديسة آن أنه لو نجا من هذه العاصفة فسوف يصبح راهباً.
وكان هناك عشرون ديراً في أرفورت فاختار واحداً عرف بالإخلاص في مراعاة قواعد الأديرة، وهو دير الرهبان الأوغسطينيين، ودعا أصدقاءه جميعاً وشرب وغنى معهم في حفل قال لهم إنه يقوم به لآخر مرة وفي اليوم التالي استقبل في خلوة بدير كمبتدئ في الرهبنة، وقام بأحقر الأعمال في تواضع لا يخلو من الاعتزاز بالنفس، وتلا الصلوات مراراً وتكراراً كمن نوّم نفسه تنويماً مغناطيسياً، وتجمد جسده في مضجع بارد وصام وعذب نفسه، أملاً في أن يطرد من جسده الشياطين وقال: "كنت راهباً ورعاً أراعي أحكام الطائفة التي أنتمي إليها بشدة إلى حد أنه... إذ قد قدر لراهب أن يدخل الجنة عن طريق الرهبنة فإني أدخلها لا محالة... ولو أن هذا الأمر طال أكثر من هذا لكنت عذبت نفسي حتى الموت بالسهر والصلاة والقراءة وغيرها من الأعمال"(12). وفي إحدى المناسبات عندما اختفى عن الاعين بضعة أيام اقتحم اصدقاؤه عليه خلوته فوجدوه يرقد على الأرض غائب الوعي، وكانوا قد أحضروا معهم عوداً وعزف عليه واحد منهم فاسترد قواه وشكرهم. وفي سبتمبر عام 1506 أقسم قسماً مغلظاً بأن يلتزم

الخصاصة والعفة والطاعة، وفي مايو عام 1507 رُسم قساً ومحضه زملاؤه الرهبان نصيحة ودية وأكد له أحدهم أن عذاب المسيح إنما هو تكفير عن طبيعة الإنسان الخاطئة وأنه فتح للتائب أبواب الجنة.
وما قرأه لوثر عن الصوفيين الألمان وبخاصة عن تاولر أعطاه أملاً في أن يجتاز الثغرة الرهيبة بين روح تنزع بطبيعتها إلى الخطيئة وبين إله مقسط قادر على كل شيء. ثم وقعت في يديه رسالة بقلم جون هس فساورته شكوك عقائدية زادت من اضطرابه الروحي. وتساءل قائلاً: "ترى لماذا أحرق رجل استطاع أن يكتب بمثل هذه الروح المسيحية وبهذه القوة؟ لقد أغلقت الكتاب وأشحت بوجهي وقلبي جريح"(13). وأولى جوهان فون شتاوبتز، وهو قسيس اقليمي من الرهبان الأوغسطينيين، الراهب القلق، اهتماماً أبوياً، وأمره أن يستبدل بالتقشف قراءة الكتاب المقدس وتعاليم القدّيس أوغسطين بكل عناية. وأعرب الرهبان عن جزعهم لم أصابه فأعطوه كتاباً مقدساً باللاتينية - وكان وقتذاك من المقتنيات النادرة - بالنسبة لأي فرد.
وفي أحد أيام عام 1508 أو عام 1509 استرعت انتباهه عبارة وردت في رسالة القدّيس بولس إلى الرومان (1 : 17) "إن الحق يحيا بالإيمان" وقادته هذه الكلمات في بطئ إلى العقيدة التي تذهب إلى أن الإنسان يمكن أن يزكى - أي يرجع إلى الصواب وينجو من النار - لا بالأعمال الطيبة التي لا يمكن أن تكفي أبداً للتكفير عن معصيته لإله لا حد لقدرته، بل بالإيمان المطلق بالمسيح وبتكفيره عن خطايا البشر. ووجد لوثر في تعاليم أوغسطين فكرة أخرى لعلها جددت من مخاوفه - تلك هي القدر - أن الله قدر حتى قبل الخليقة أن تحظى بعض الأرواح بالخلاص وأن يزج بالباقي في جهنم، وأن الاختيار تم بمشيئة الله أن يكون الخلاص بالتضحية بالمسيح. ومن هذا المجال الصريح فر مرة أخرى إلى أمله الأساسي في الخلاص عن طريق الأيمان.
وحول عام 1508 نقل إلى دير أوغسطين في فيتنبرج بناء على توصية من
شتاوبيتز، وعين في وظيفة معلم للمنطق والفيزياء، ثم عين أستاذاً للاهوت في الجامعة. وكانت فيتنبرج عاصمة الشمال - وقلما كانت محل إقامة - لفردريك الحكيم وقال أحد المعاصرين عنها: "مدينة فقيرة لا أهمية لها بيوتها خشبية صغيرة، قديمة قبيحة الشكل" ووصف لوثر السكان بقوله: "إنهم سكارى يفتقرون إلى التهذيب منغمسون في العربدة إلى حد يجاوز الاعتدال، وقد اشتهروا بأنهم أشد الناس إدماناً على الشراب في ساكسونيا التي كانت تعد أعظم مقاطعة في ألمانيا يغرم أهلها بالشراب". وقال لوثر إن الحضارة انتهت على بعد ميل من الشرق وبدأت الهمجية وظل هناك الجانب الأكبر من حياته إلى نهاية أيامه.
ولا بد أنه قد أصبح راهباً مثالياً وقتذاك لأنه أرسل في اكتوبر من عام 1510 مع زميل له من الرهبان، إلى روما في مهمة غامضة للرهبان الأوغسطينيين، وكان أول رد فعل عنده لدى مشاهدته المدينة رهبة مشوبة بالورع، فسجد ورفع يديه وهتف يقول: "سلاماً عليكِ يا روما المقدسة!" وقام بكل الشعائر شأنه شأن أي حاج، وانحنى في إجلال أمام مخلفات القديسين وصعد على السلم المقدس Scala Santa وهو يسير على ركبتيه، وزار عشرين كنيسة وظفر بكثير من صكوك الغفران، حتى انه تمنى أو كاد لو كان والداه ميتين حتى يستطيع أن ينقذهما من المطهر. وارتاد المنتدى الروماني ولكن كان من الواضح أنه لم يتأثر بفن عصر النهضة، وكان رافائيل ومايكل أنجيلو ومئات غيرهما قد بدءوا في تزيين العاصمة. وظل سنوات عديدة بعد القيام بهذه الرحلة دون أن يقوم بتعليق واضح جلي على تعلق رجال الدين الرومان بالدنيا، أو على الانحلال الخلقي الذي كان شائعاً وقتذاك في المدينة المقدسة. ومهما يكن من أمر فإنه بعد عشر سنوات رصف روما عام 1510 بأنها "تدعو للمقت" ولا يزال من هذا المزيد في ذكرياته التي تبتسم بالخيال المتوقد، والتي تخطر له أحياناً في أحاديثه حول مائدة الطعام في سن الشيخوخة،

وقال إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت العشاء"(14). ومن المحتمل أنه لا يتيسر له الدخول في أوساط رجال الكهنوت الكبار ولم تكن له معرفة مباشرة بأخلاقهم المنحلة التي لا شك فيها.
وارتقى بسرعة في المناصب التعليمية بعد عودته إلى فيتنبرج "فبراير عام 1511" ونصب نائباً للأسقف في طائفته. وألقى محاضرات في الكتاب المقدس، وقام بالوعظ بانتظام في كنيسة الأبرشية ونهض بعبء العمل في وظيفته بجد وولاء، ويقول عالم كاثوليكي مشهور: "إن خطاباته الرسمية تنم على اهتمام شديد بالذين ساورتهم الشكوك وتفيض بعطف رقرق على الآثم وتفصح عن لمسات عميقة من الشعور الديني والرأي العملي النادر وإن كانت لم تخلُ من تشويه نصائح لها اتجاهات مخالفة للعقيدة، وعندما اجتاح الطاعون فيتنبرج عام 1516 لزم مكانه بشجاعة، ورفض أن يتخلى عنه على الرغم مما أبداه أصدقاؤه من قلق"(15). وخلال هذه السنوات (1512-1517) تحولت آراؤه الدينية ببطء عن المذاهب الرسمية للكنيسة، وبدأ يتحدث عن "لاهوتنا" مقابل ما كان يدرس في ارفورت. وفي عام 1515 عزا ما أصاب العالم من فساد إلى رجال الكهنوت الذين قالوا للناس كثيراً جداً من أمثال وحكايات خرافية من إبداع البشر وليست من الكتب المنزلة. واكتشف عام 1516 مخطوطة ألمانية مجهولة المؤلف أيد ما بها من التقوى الصوفية رأيه في اعتماد الروح الكلي في الخلاص على رحمة الله إلى حد أنه أعدها للنشر وطبعها باسم "لاهوت ألماني Theologia Germanica". ووجه اللوم إلى المبشرين بصكوك الغفران لاستغلالهم سذاجة الفقراء، وبدأ في مراسلاته الخاصة يبرهن على أن "ضد المسيح" الوارد في الرسالة الأولى ليوحنا شبيه بالبابا(16). ودعاه الدوق جورج صاحب ألبرتين سكسونيا عام

1517 إلى الوعظ في برسدن، فأثبت بالدليل أن مجرد قبول فضائل المسيح يحقق الخلاص للمؤمن. وشكا الدوق من أن مثل هذا التشدد في الإيمان أكثر من الفضيلة "سوف يجعل الناس مغرورين ومتمردين فحسب"(17)، وبعد ثلاثة شهور تحدى الراهب المشهور العالم إلى مناظرته في الرسائل الخمس والتسعين التي علها في كنيسة فيتنبرج.



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق