1176
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> أسبانيا -> الشهيد الأسباني
الفصل الثاني عشر
أسبانيا
1300 - 1517
1- الشهيد الأسباني
1300 - 1469
لقد وجدت أسبانيا في جبالها وقايتها ومأساتها في وقت واحد: فقد منحتها أمناً نسبياً من الغزو الخارجي، ولكنها عوقت تقدمها الاقتصادي ووحدتها السياسية وإسهامها في الفكر الأوربي. ولقد عاش في ركن صغير من الشمال الغربي شعب نصف بدوي من الباسك وكانوا ينتقلون بأغنامهم من السهول إلى التلال ثم يهبطون إلى السهول مرة أخرى تبعاً لتقلبات الفصول. ومع أن كثيرين من الباسك كانوا رقيق أرض، إلا أنهم جميعاً زعموا نبل المحتد، وحكمت ولايتهم الثلاث نفسها تحت السيادة الواهية لقشتالة أو نافار. وظلت نافار مملكة قائمة برأسها، حتى ضم فرديناند الكاثوليكي قسمها الجنوبي إلى قشتالة (1555) بينما أصبحت البقية الباقية منها إقطاعاً ملكياً تابعاً لفرنسا. وتملكت أراجون سردينيا منذ عام 1326 وتبعتها جزر البليار عام 1354. وصقلية عام 4409. وزادت ثروة أراجون نفسها بفضل صناعة وتجارة بلنسية وطركونة وسراقسطة وبرشلونة- وهي عاصمة ولاية قطلونية ضمن مملكة أراجون. وكانت قشتالة أقوى الممالك الأسبانية وأوسعها رقعة، وقد حكمت المدن الآهلة أفيدو وليون وبرجس وبلد الوليد وسلامنكا وقرطبة وأشبيلية وطليطلة،
وهي عاصمتها، ولعب ملوكها أدوارهم أمام أكبر عدد من النظارة وفي سبيل أعظم المخاطر في أسبانيا.
وأصلح ألفونسو الحادي عشر (1312-50) قوانين قشتالة ومحاكمها وحول منافسات النبلاء إلى حروب تشن على المسلمين، وشجع الأدب والفن، وكافأ نفسه بخليلة نجيبة. ولقد حملت له زوجته ابناً شرعياً واحداً، نشأ في ظروف غامضة وإهمال وحقد وأصبح فيما بعد بدرو الغشوم ومن الواضح أن اعتلاءه على العرش ولما يناهز الخامسة عشرة (1350) جلب اليأس لأبناء الفونسو التسعة غير الشرعيين، فقد أقصوا جميعاً عن البلاد، وأعدمت أمهم ليونورا ده جزمان، ولما جاءت عروسه الملكية بلانش البوربونية من فرنسا من تلقاء نفسها، تزوجها وأنفق ليلتين معها ثم أمر أن يدس لها السم متهماً إياها بالتآمر (1361) وتزوج عشيقته ماريا ده باديلا، التي تؤكد الأسطورة أن جمالها بلغ من الخلابة حداً، جعل فرسان البلاط يشربون بنشوة ماء اغتسالها. وكان بدرو محبوباً في الطبقات الدنيا التي أيدته إلى النهاية المريرة، ولكن المحاولات المتكررة من اخوته غير الأشقاء لإقصائه عن العرش، قد دفعته إلى مجموعة من الدسائس والقتل وانتهاك الحرمات، تقف في وجه كل حكاية وتلطخها بالدم. واستطاع هنري التراستاماري، أكبر أبناء ليونورا أن ينظم ثورة موفقة ويقتل بدرو بيديه ويصبح هنري الثاني ملك قشتالة (1369).
ولكننا نظلم الأمم إذا حكمنا عليها من ملوكها، لأنهم اتفقوا مع مكيافلي في أن الأخلاق لم تجعل للملوك. وبينا نجد الحكام يتلهون بالقتل الفردي أو المتخذ صفة القومية، فإن الشعب الذي بلغ عدده ملايين عام 1450، هو الذي أنشأ حضارة أسبانيا، ومع أنهم كانوا يعتزون بنقاء أرومتهم إلا أنهم كانوا مزيجاً غير ثابت من الكلت والفينيقيين والقرطاجنيين والرومان والقوط الغربيين والوندال والعرب والبربر واليهود، وعند سفح الكيان
الاجتماعي قليل من العبيد، وطبقة من الفلاحين ظلوا رقيق لأرض إلى عام 1471، وفوقهم العمال اليدويون والصناع وتجار المدن، وفوق أولئك وهؤلاء الفرسان (caballeros) في طبقات رفيعة من الشرف، والنبلاء الذين يعتمدون على الملك(أبناء الأسر العريقةbidalgos والنبلاء المستقلون (proceres) وإلى جانب هؤلاء المدنيين طبقات الكهنوت تبدأ من قساوسة الأبرشيات فالأساقفة ورؤساء الأديرة وتنتهي برؤساء الأساقفة والكرادلة. ولكل مدينة مجلسها البلدي (conseijo) وهي ترسل مندوبين عنها، ينضمون إلى النبلاء والمطاردة في المجالس الإقليمية والقومية، والأصل النظري أن مراسيل الملوك تتطلب موافقة هذه المجالس لتصبح قوانين. ونظمت الأجور وشروط العمل والأسعار ومعدل الفائدة على الأموال، المجالس البلدية أو النقابات. وتعثرت التجارة بسبب الاحتكارات الملكية والمكوس الحكومية التي تفرضها الدولة أو الأقاليم على الواردات والصادرات وتنوع الموازين والمقاييس وبالعملات المتدهورة وقطاع الطرق وقرصان البحر الأبيض المتوسط ورفض رجال الدين للحساب واضطهاد المسلمين- الذين غذوا معظم الصناعة والتجارة بالقوة البشرية- واليهود، الذين كانوا يدبرون شئون المال. وافتتح مصرف حكومي في برشلونة (1401) يضمان لودائع المصرف، وصدرت صكوك للتعامل، وأنشئ تأمين بحري قرابة عام 1435.
ولما كان الأسبان يجمعون في أرومتهم بين الأصول السامية والأصول المناهضة للسامية، لذلك احتفظوا بحرارة إفريقيا في دمائهم، وكانوا يميلون مثلهم في ذلك البربر، إلى الوداعة والعنف في القول والعمل فيهم سورة وفي عقولهم تطلع وفضول، وهم أغرار ويؤمنون بالخرافة إلى حد مخيف واحتفظوا باستقلال للروح وكرامة للشجاعة حتى في النكبات والفقر. كانوا يحبون اقتناء المال ولقد فطروا على ذلك، ولكنهم لم يحتقروا الفقراء ولم
يلعقوا نعال الأغنياء. واحتقروا العمل وتقاعسوا عنه، بيد أنهم احتملوا الشدائد برباطة جأش، كانوا كسالى ومع ذلك غزوا نصف العالم الجديد. وظمئوا إلى المغامرة والعظمة والفروسية، وكانوا يستمتعون بالمخاطر ولو كانت بالتفويض فحسب، فإن مصارعة الثيران، وهي من لآثار كريت وروما كانت قد أصبحت لعبة قومية تقليدية رسمية زاخرة بالألوان محكمة، تعلم الشجاعة والبراعة الفتية وسرعة الخاطر. ولكن الإسبان تناولوا مباهجهم بشيء من الكآبة، وهم يشبهون الإنجليز المحدثين (وعلى خلاف إنجليز عصر إليزابث) ولقد أضفى جدب التربة وظلال المنحدرات الجبلية على نفوسهم كآبة جارفة، وكانت أخلاقهم جادة مستقيمة كاملة وهي أحسن كثيراً من المحافظة على صحة أبدانهم، وكان كل إسباني مهذباً، بيد أن القليلين منهم، كانوا مفتولي الأجسام، وازدهرت صور ألعاب من الفروسية وسط القاذورات التي اكتنفت الجماهير. وأصبحت مسألة الشرف عقيدة، وكانت النساء في إسبانيا ربات وسجينات أما زي الطبقات العليا فكان بسيطا في أيام الأسبوع ويتحول إلى الأبهة أيام الآحاد والأعياد بالحرير الزاهي والقباء المكشكش والملون المحزم والذهب. وكلف الرجال بالعطور والكعوب العالية، ولم يقنع النساء بفتنتهن الطبيعية فخلبن ألباب الرجال بالبنيقة والمخرمات والخمار يخفي وجوههن واتخذت المطاردة الجنسية آلاف الأشكال وتنكرت في آلاف الصور، وجاهدت صنوف الإرهاب الديني والقوانين الصارمة ومسائل الشرف، في الحد من تلك المطاردة ولكن فينوس انتصرت على الجميع، وزادت خصوبة النساء على غلة الأرض.
وكانت الكنيسة في إسبانيا حليفاً لا ينفصل عن الدولة، ولم تدخل بابا روما في حسابها إلا قليلاً، وتقدمت بمطالب كثيرة لإصلاح البابوية حتى عندما أعطتها إسكندر السادس الذي لا يعترف بالإصلاح، وفي سنة 1513 حرم الكاردينال اكزيمينس نشر صكوك الغفران التي قدمها
يوليوس الثاني في إسبانيا لإعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ونتج ذلك أن الملك عد رئيساً للكنيسة الإسبانية، ولم ينتظر فرديناند في هذا الشأن، هنري الثامن ليعلمه، ولم تكن إسبانيا في حاجة إلى إصلاح ديني يجعل الكنيسة والدولة أو الدين والقومية شيئا واحداً، وحصلت الكنيسة على امتيازات مادية كجزء من هذا الاتفاق غير المكتوب في ظل دولة تعتمد عليها اعتماداً واعياً في توطيد النظام الأخلاقي والاستقرار الاجتماعي والعمل على قياد الشعب لها. ولم يكن موظفوها، حتى الطبقات الدنيا منهم، يخضعون إلا للمحاكم الكهنوتية. وامتلكت مساحات كبيرة من الأرض، يفلحها مستأجرون لها، وكانت تتسلم عشر غلة العقارات الأخرى، ولكنها كانت تدفع ثلث هذا العشر للخزانة، ولقد أعفيت من الضرائب علاوة على إيطاليا. ومن الواضح أن أخلاق الأكليروس ونظام الأديرة، كانت فوق مستوى القرون الوسطى، بيد أن اتخاذ الحظايا قد شاع وسمح به كما حدث في غير إسبانيا واستمر الزهد في إسبانيا بينما أخذ يفترض شمالي جبال البرانس، بل إن العشاق كانوا يجلدون أنفسهم ليذيبوا مقاومة ما في السيدات من حنان وخفر أو ليحصلوا على شيء من الوجد الماسوشي .
وكان الناس على ولاء شديد للكنيسة والملك، لأن عليهم أن ينتظموا لمحاربة أعدائهم الألداء المسلمين ونجاح، ولقد عرض الصراع لتخليص غرناطة على أنه حرب في سبيل العقيدة المقدسة، فسارت مواكب حاشدة من الرجال والنساء والأطفال ، الأغنياء منهم والفقراء، أيام الأعياد في الطرقات صامتين في حزن أو مرددين الأناشيد، وأمامهم تماثيل كبيرة تجسم العذراء أو أحد القديسين. واعتقدوا اعتقاداً راسخاً بأن العالم الروحي هو بيئتهم الحقيقية وموطنهم الأبدي. والحياة الدنيا إلى جانبه
إنما هو شر وحلم مؤقت. وكرهوا الهراطقة باعتبارهم خائنين للوحدة والمبدأ القوميين، ولا اعتراض لهم على إحراقهم، وهذا هو أقل ما يستطيعون أن يبذلوه من اجل إلههم الذي انتهكت حرمته ولم تنعم الطبقات الدنيا بشيء من التعليم المدرسي إلا قليلاً وهو ديني فحسب. ولما وجد كورتز القوي بين المكسيكيين الوثنيين، شعيرة تشبه القربان المسيحي- شك بأن الشيطان هو الذي علمهم إياها لكي يضلل الفاتحين.
وشجع على قوة انتشار الكاثوليكية في أسبانيا تلك المنافسة الاقتصادية بين الأسبان وبين المسلمين واليهود، الذين كانوا يؤلفون عشر عدد السكان في أسبانيا المسيحية. ومن الأمور السيئة في نظرهم أن يحتل المسلمون غرناطة الخصيبة، وأكثر من هذا مضايقة لهم أولئك المدجنون- أي المسلمين الذين لم ينتصروا، الذين عاشوا بين الأسبان المسيحيين والذين أدت براعتهم في التجارة والحرف إلى حسد شعب تستعبده الأرض استعباداً بدائياً. أما الأسبان اليهود فلم يصفح عنهم قط. ولقد اضطهدتهم أسبانيا المسيحية مدى ألف سنة: فقد أخضعوهم لضرائب مهنية وقرون مغتصبة ولمصادرة الأموال والاغتيال والتعميد الإجباري، وأرغموهم على الاستماع إلى العظات المسيحية، وحرضوهم حتى في معابدهم أحياناً على التنصر، بينما جعل القانون تهود المسيحي جريمة عقوبتها الإعدام، ودعوا أو ألزموا على الاشتراك في مناظرات مع علماء الدين المسيحي، وهم فيها بين اثنتين إما أن تحيق بهم هزيمة فاضحة أو يحصلون على انتصار محفوف بالمكاره. وأمروا هم والموديجار عدة مرات أن يرتدوا شارة مميزة، وكانت في العادة دائرة حمراء توضع على الكتف في أرديتهم وحرم على اليهود أن يستأجروا خادماً مسيحياً، ولم يسمح لأطبائهم أن يعالجوا المرضى المسيحيين، ورجالهم الذين يعاشرون امرأة مسيحية يقتلون.
ولقد حرض راهب فرنسسكاني عام 1328 في عظاته بمدينة ستلا من
أعمال نافار، المسيحيين أن يعملوا القتل في خمسة لآلاف يهودي وأن يحرقوا منازلهم، وفي عام 1391 أثارت عظات فرنان مارتينيز الجماهير في كل مركز كبير بأسبانيا، أن يقتلوا كل من يجدونه من اليهود الذين يرفضون التحول إلى المسيحية. وفي سنة 1410 تحركت بلد الوليد وغيرها من المدن ببلاغة فيسنت فرر الذي يشبه القديس المتعصب، فأمرت أن يحصر اليهود والمسلمون أنفسهم في أحياء معينة- جوديريا أو ألباما- تغلق أبوابها من غروب الشمس إلى شروقها وربما كانت هذه العزلة من أجل حمايتهم.
واستغل اليهود كل فرصة للتطور بما أتسموا به من الصبر والعمل والذكاء فتكاثروا وازدهرت أحوالهم حتى تحت وطأة هذه العوائق. وأحب بعض ملوك قشتالة، أمثال الفونسو الحادي عشر وبدرو الغشوم، اليهود وعينوا الناهبين منهم في المناصب الرفيعة. وجعل الفونسو دون يوسف الأسيجي وزيراً لماليته، واختار يهودياً آخر هو يوسف ابن وقار طبيباً خاصاً له، فأساءا استعمال منصبيهما، واتهما بالتآمر فسجنا وماتا في السجن. وتكررت الحادثة مع صمويل يوسف أبي لافيسه فقد عين قواماً على خزانة الدولة في عهد بدرو، فجمع ثروة طائلة، فحكم الملك بقتله. وكان صمويل قد شيد قبل ذلك بثلاث أعوام (1357) في مدينة طليطلة معبداً يهودياً جميلاً على بساطته، على الطراز التقليدي، وهو الذي حوله فرديناند إلى الكنيسة المسيحية "الترنسيتو" وتحافظ الحكومة عليها اليوم باعتبارها أثراً من الآثار العبرية- الإسلامية في أسبانيا وكانت حماية بدرو لليهود من سوء طالعهم، ذلك لأن هنري أمير تراستامارا- عندما عزله من الملك، أعمل الجنود المنتصرون السيف في ألف ومائتي يهودي (طليطلة 1353)، وتبعت ذلك مذابح أسوأ، عندما أحضر هنري
إلى أسبانيا "الصحاب الأحرار" الذين جمعهم دي جيكلان من أوشاب فرنسا..
وآثر آلاف من اليهود الأسبان التعميد على الفزع من النهب والقتل، فلما أصبحوا مسيحيين من الناحية الشرعية استطاع هؤلاء المنتصرون أن يرقوا سلم الحياة الاقتصادية والسياسية، وفي المهن بل وفي الكنيسة ذاتها وأصبح بعضهم من كبار رجال الكهنوت والآخرون من مستشاري الملوك. وأكسبتهم مواهبهم المالية نجاحاً يثير الحسد، في جمع الدخل القومي وتدبيره. وأحاط بعضهم نفسه بمظاهر الشرف الأستقراطي، وجعل بعضهم نجاحه عدوانياً واضحاً، ووصم الكاثوليك الغضاب، هؤلاء المنتصرين بهذا الاسم الفظيع "حلوف العرب المورسكو"(marranos) ومع ذلك فإن الأسر المسيحية التي كانت عراقة نسبها أكثر من مالها، أو التي كانت تحترم القدرة من الناحية العملية، قبلت الإصهار إليهم. وبهذه الطريقة ساط الشعب الأسباني وبخاصة طبقاته العليا، الدم اليهودي بصورة مادية ملموسة. وكان لفرديناند الكاثوليكي وتوركيمادا قاضي محكمة التفتيش أسلاف من اليهود. وأطلق البابا بول الرابع على خصمه الذي يحاربه فيليب الثاني، وعلى الأسبان "أنهم بذرة لا قيمة لها من اليهود والمسلمين".
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق