1120
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
القسم الثاني المجلد الرابع
تاريخ ابن خلدون
من ص 268 حتى صفحة 435
الخبر عن بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين باليمن:
كان القاضي محمد بن علي الهمداني ثم الصليحي رئيس حران من بلاد همذان، وينتسب في بني يام، ونشأ له ولد إسمه علي، وكان صاحب الدعوة يومئذ عامر بن عبد الله الزوايي نسبة إلى زواية من قرى حران، ويقال إنه كان عنده كتاب لجفر من ذخائر أبيهم بزعمهم فزعموا أن علي ابن القاضي محمد مذكور فيه فقرأ على علي عامل
الداعي، وأخذ عنه. ولما توسم فيه الأهلية أراه مكان إسمه في الجفر وأوصافه. وقال لأبيه القاضي احتفظ بابنك فيملك جميع اليمن. ونشا فقيهاً صالحاً، وجعل يحج بالناس على طريق الطائف والسروات خمس عشرة سنة فطار ذكره، وعظمت شهرته، والقى على ألسنة الناس أنه سلطان اليمن. ومات الداعي عامر الزوايي فأوصى له بكتبه، وعهد إليه بالدعوة. ثم حج بالناس سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على عادته، واجتمع بجماعة من قومه همدان كانوا معه فدعاهم إلى النصرة والقيام معه فأجابوه وبايعوه، وكانوا ستين رجلاً من رجالات قومهم فلما عادوا قام في مسار وهو حصن بذروة جبل حمام، وحصن ذلك الحصن، ولم يزل أمره ينمى.
وكتب إلى المستنصر صاحب مصر يسأله الإذن في إظهار الدعوة فأذن له، وأظهرها وملك اليمن كله. ونزل صنعاء واختط بها القصور، وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم، وهزم بني طرف ملوك عثر وتهامة، وأعمل الحيلة في قتل نجاح مولى بني زياد ملك زبيد، حتى تم له ذلك على يد جارية أهداها إليه كما ذكرناه سنة إثنتين وخمسين. ثم سار إلى مكة بأمر المستنصر صاحب مصر ليمحو منها الدعوة العباسية والإمارة الحسنية. واستخلف على صنعاء ابنه المكرم أحمد، وحمل معه زوجته أسماء بنت شهاب، قد سباها سعيد بن نجاح ليلة البيات فكتبت إلى إبنها المكرم أني حبلى من العبد الاحول فأدركني قبل أن أضع، وإلا فهو العار الذي لا يمحوه الدهر فسار المكرم من صنعاء سنة خمس وسبعين في ثلاثة آلاف، ولقي الحبشة في عشرين ألفاً فهزمهم. ولحق سعيد بن نجاح بجزيرة دهلك. ودخل المكرم إلى أمه وهي جالسة بالطاق الذي عنده رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما ورفع السيف، وولى خاله أسعد بن شهاب على أعمال تهامة كما كان، وأنزله بزبيد منها، وارتحل بأمه إلى صنعاء وكانت تدبر ملكه.
ثم جمع أسعد بن شهاب أموال تهامة، وبعث بها مع وزيره أحمد بن سالم ففرقتها أسماء على وفود العرب. ثم هلكت أسماء سنة سبع وسبعين، وخرجت زبيد من يد المكرم، واستردها سعيد بن نجاح سنة تسع وسبعين. ثم انتقل المكرم إلى ذي جبلة سنة ثمانين واربعمائة، وولى على صنعاء عمران بن الفضل الهمداني فاستبدّ بها، وتوارثها عقبه، وتسمى ابنه أحمد باسم السلطان واشتهر به، وبعده ابنه حاتم بن أحمد، وليس بعده بصنعاء من له ذكر حتى ملكها بنو سليمان لما غلبهم الهواشم على مكة كما مر في أخبارهم. ولما
انتقل المكرم إلى ذي جبلة وهي مدينة اختطها عبد الله بن محمد الصليحي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان انتقاله بإشارة زوجه سيدة بنت أحمد التي صار إليها تدبير ملكه بعد أمه اسماء فنزلها، وبنى فيها دار العز، وتحيل على قتل سعيد بن نجاح فتم له كما نذكر في أخبار ابن نجاح. وكان مشغولاً بلذاته محجوباً بزوجته. ولما حضرته الوفاة سنة أربع وثمانين عهد إلى ابن عمه المنصور بن أحمد المظفر بن علي الصليحي صاحب معقل أشيح، وأقام بمعقله وسيدة بنت أحمد بذي جبلة، وخطبها المنصور سبا وامتنعت منه فحاصرها بذي جبلة، وجاءها أخوها لأمها سليمان بن عامر وأخبرها أن المستنصر زوجك منه، وأبلغها أمره بذلك، وتلا عليها: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً ان تكون لهم الخيرة من امرهم " وأن أمير المؤمنين زوجك من الداعي المنصور أبي حمير سبا بن أحمد بن المظفر، على مائة الف دينار، وخمسين ألفاً من أصناف التحف واللطائف فانعقد النكاح، وسار إليها من معقل أشيح إلى ذي جبلة. ودخل إليها بدار العز، وبقال إنها شبهت بجارية من جواريها فقامت على رأسه ليلها كله، وهو لا يرفع الطرف إليها حتى أصبح فرجع إلى معقله. وأقامت هي بذي جبلة، وكان المتولي عليها المفضل بن أبي البركات من بني تام رهط الصليحي، واستدعى عشيرته جنيا. وأنزلهم عنده بذي جبلة فكان يسطو بهم وكانت سيدة تأتي التعكر في الصيف، وبه ذخائرها وخزائنها فإذا جاء الشتاء رجعت إلى ذي جبلة. ثم انفرد المفضل لقتال نجاح، فرتب في حصن التعكر فقيهاً يلقب بالجمل، مع جماعة من الفقهاء احدهم إبراهيم بن زيد بن عمر عمارة الشاعر فبايعوا الجمل، على أن يمحو الدعوة الإمامية فرجع المفضل من طريقه، وحاصرهم، وجاءت خولان لنصرتهم، وضايقهم المفضل، وهلك في حصارهم سنة أربع وخمسمائة، فجاءت بعده الحرة سيدة وأنزلتهم على عهد فنزلوا، ووف لهم به وكفلت عقب المفضل وولده، وصار معقل التعكر في يد عمران بن الذر الخولاني، وأخيه سليمان.
واستولى عمران على الحرة سيدة مكان المفضل. ولما ماتت استبد عمران وأخوه بحصن التعكر، واستولى منصور بن المفضل بن أبي البركات على ذي جبلة، حتى باعه من الداعي الذريعي صاحب عدن كما يأتي واعتصم بمعقل أشيح الذي كان للداعي المنصور سبا بن أحمد. وذلك أن المنصور توفي سنة ست وثمانين وأربعمائة، واختلف أولاده من بعده. وغلب ابنه علي منهم على المعقل، وكان ينازع
المفضل بن أبي البركات، والحرة سيدة، وأعياهما أمره فتحيل المفضل بسم أودعه سفرجلاً أهداه إليه فمات منه، واستولى بنو أبي البركات علي بني المظفر في أشيح وحصونه. ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار. ولم يزل يبيع معاقله حصناً حصناً حتى لم يبق له غير معقل تعز، أخذه منه علي بن مهدي بعد أن ملك ثمانين سنة، وبلغ من العمر مائة سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق