2495
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
من تاريخ العلامة ابن خلدون
المجلد الخامس
من صفحة 343- 412
فتح القدس
ولما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس، وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة ؛ وربيسة قريبة الملك، ومن نجا من زعمائهم من حطين، وأهل البلد المفتتحة عليهم، وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين. وبعد الصريخ وأكثروا الإستعداد ونصبوا المجانيق من داخله، وتقدّم إليه أمير من المسلمين فخرج إليها الإفرنج فأوقعوا
به وقتلوه في جماعة ممن معه، وفجع المسلمون بقتله. وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب، وهالهم كثرة حاميته، وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوّأ عليه للقتال، حتى إختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحوّل إليه. ونصب المجانيق عليها، واشتدّ القتال، وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق.وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران، وأبوه صاحب قلعة جعبر فأسف المسلمون لقتله، وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم بالبلد، وملكوا عليهم الخند ق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين فأبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أوّل الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فأستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة، وخرج إليه وشافهه بالاستئمان. واستعطفه فأصرّ على الامتناع فتهددّه بالإستماتة، وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة، واستلحام أسرى المسلمين، وكانوا خمسة آلاف أسير، واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره.فحينئذ استشار صلاح الدين أصحابه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودينارين للولد صبي أو صبية، وعلى أجل أربعين يوماً فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير، وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار. وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره، وكان يوماً مشهوداً. ورتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال، ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى، وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإنّ الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أنّ بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينارعلى ثمانية عشر ألفاً، وعجز منهم ستة عشر ألفاً، وأخرج جميع الأمراء خلقاً لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة. واستوهب آخرون جموعاً منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم. وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم. وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها، وكان محبوساً بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها، ولم يحصل من القطيعة على خراج. وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع، ولم يتعرض له. وجاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها، وكان أسيراً فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب. وتسلق جماعة من
المسلمين إليه واقتلعوه، وإرتجت الأرض بالتكبير والعويل. ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين بردّ مشاعره إلى أوضاعها القديمة، وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأوّل. وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الاقذار فطهرا. ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة، وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين، وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظمة الإسلام أقشعرت لها الجلود، وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالاً .ثم أقام صلاح الدين بالمسجد الصلوات الخمس إماماً وخطيباً، وأمر بعمل المنبر له فتحدّثّوا عنده بأنّ نور الدين محمود إتخذ له منبراً منذ عشرين سنة، وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى. ثم أمره بعمارة المسجد وإقتلاع الرخام الذي فوق الصخرة، لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتاً ويبعونها بالذهب وزناً بوزن. فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه. ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القرّاء، ووفر لهم الجرايات. وتقدّم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى. وإرتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن، واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا، والله تعالى أعلم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق