224
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
الفصل الخامس والخمسون
في صناعة الشعر ووجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات؛ إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفضل قطعاً قطعاً، متساويةً في الوزن، متحدةً في الحرف الأخير من كل قطعة. وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً؛ ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه روياً وقافيةً؛ ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدةً وكلمةً. وينفرد كل بيتٍ منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبلة وما بعده. وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدحٍ تشبيتٍ أو رثاءٍ؛ فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك، ويسترد للخروج من فنٍ إلى فنٍ ومن مقصودٍ إلى مقصودٍ، بأن يوطيّء المقصود الأول ومعانيه، إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التسشبيت إلى المدح؛ ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو
الطيف؛ ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره؛ ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك.ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزنٍ الى وزنٍ يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزنٍ يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه؛ فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه. ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت آخر، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعضٍ بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محّكا للقرائح في استجادة أساليبه، وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها وباستعمالها فيه.ولنذكر هنا مدلول لفظة
الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب؛ ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان؛ ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية؛ وإنما ترجع إلى صورة ذهنيا للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان؛ فيرضها فيه رصاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على انحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:"يا دار مية بالعليا فالسند".ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:"قفا نسأل الدار التي خف أهلها".أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ".أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:"ألم تسأل فتخبرك الرسوم ".ومثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:"حي الديار بجانب الغزل ".أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
# أسقي طلولهم أجش هذيــــم وغدت عليهم نضرة ونعيـــــــــــم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
# يا برق طالع منزلاً بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينــــــــــق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
# كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:"أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي "أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
# منابت العشب لا حامٍ ولا راعٍٍ مضى الردى بطويل الرمحِ والباعِ
أو بالإنكارِ على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
# أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريفِ
أو بتهنئة فريقهِ بالراحة من ثقل وطأتهِ كقوله:
# ألقى الرماح ربيعةُ بن نزارِ أودى الردى بقريعك المغوارِ
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التراكيب فيه بالجمل
وغير الجمل، إنشائيةً وخبريةً، إسميةً أو فعليةً، متفقةً وغير متفقة، مفصولةً وموصولةً؛ على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في مكان كل كلمةٍ من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناءِ أو النساجِ، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالبِ الذي يبني فيه أو المنوالِ الذي ينسج عليهِ. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على
المنوالِ في نسجهِ كان فاسداً. ولا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول: قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية وقياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس. وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية. وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شئ إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها؛ فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه. وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه. وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية، التي تصير كالقوالب، كان نظراً في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاءوا به مفصلاً في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل قطعة، وفي المنثور، يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً، وقد يقيدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية، قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناءُ على القالب، والنساج على المنوال. فلهذا كان من تأليف الكلام منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي. نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر، لطيفِ في هذه
القوالب، التي يسفونها أساليب. ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً. وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو، فلنذكر بعده حداً أو رسماً للشعر يفهمنا حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنا لم نقف عليه لأحدٍ من المتقدمين فيما رأيناه.وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى، ليس بحدٍ لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسمٍ له. وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي، ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. وذلك نظر في وزنٍ مجدد عن الألفاظ ودلالتها؛ فناسب أن يكون حّدا عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريفٍ يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل؛ وقولنا مستقل كل جزءٍ منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة، لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به، فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة؛ فإنه حينئذٍ لا يكون شعراً إنما هو كلائم منظوم، لان الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى شعراً. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية
يرون أن نظم المتنبي والمعرفي ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم. ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك، ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: إعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها؛ ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر ردئ ، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقشت أسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورةً. ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا من المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه.قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند
الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر، وفي هواء الجمام. وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة، وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه الى وقت آخر، ولا يكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرةً قلقةً، وإذا سمح الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به؛ فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها ما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره، إذ هو نبات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة.وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعةٍ منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واستعمل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبيء والمعري
بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماع فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده؛ فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. وهذه نبذةٌ كافيةٌ والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
# لعن الله صنعة الشعر مـــــــــاذا من صنوف الجهال فيها لقينا
# يؤثرون الغريب منه على مـــــا كان سهلاً للسامعين مبينـــــــا
# ويرون المحال معنى صحيحــــاً وخسيس الكلام شيئاً ثمينــــــاً
# يجهلون الصواب منه ولا يـــــد رون للجهل أنهم يجهلونــــــــا
# فهم عند من سوانا يلامـــــــــــو ن وفي الحق عندنا يعذرونـــا
# إنما الشعر ما يناسب في النظم وإن كان في الصفات فنونـــا
# فأتى بعضهُ يشاكلُ بعضــــــــــــــــــاً وأقامت له الصدور المتونــــا
# كل معنى أتاك منه على مـــــــــــــــا تتمنى لو لم يكن أو يكونــــــا
# فتناهى من البيان إلـــــــــــــــــــى أن كاد حسنا يبين للناظرينـــــــــا
# فكان الألفاظ منه وجــــــــــــــــــــوه والمعاني ركبن فيه عيونــــــا
# قائماً في المرام حسب الأمانـــــــــي يتحلى بحسنه المنشدونـــــــــا
# فإذا ما مدحت بالشعر حــــــــــــــّرا رمت فيه مذاهب المشتهينــــا
# فجعلت النسيب سهلاً قريبـــــــــــــاً وجعلت المديح صدقاً مبيـــــنا
# وتنكبت ما تهجن في السمــــــــــــع وإن كان لفظه موزونـــــــــــا
# وإذا ما قرضته بهجــــــــــــــــــــاء عبت فيه مذاهب المرقبينــــــا
# فجعلت التصريح منـــــــــــــه دواء وجعلت التعريض داء دفينـــا
# وإذا ما بكيت فيه على الغـــــــــــــا دين يوماً للبين والظاعنينــــــا
# حلت دون الأسى وذللت ما كــــان من الدمع في العيون مصونــا
# ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعـــــــد وعيداً وبالصعوبة لينـــــــــــــا
# فتركت الذي عتبت عليـــــــــــــــه حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينـــــــا
# وأصح القريض ما فات في النظم وإن كان واضحاً مستبينـــــــــا
# فإذا قيل أطمع الناس طـــــــــــــرا وإذا ريم اعجز المعجزينــــــــا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
# الشعر ما قومت ربع صـــــدوره وشددت بالتهذيب أس متونــه
# ورأيت بالإطناب شعب صدوعه وفتحت بالإيجاز عور عيونه
# وجمعت بين قريبه وبعيــــــــــده وجمعت بين مجمه ومعينــــــــه
# وعمدت منه سحد أمر يقتضـــى شبها به فقرينه بقرينـــــــــــــــه
# وإذا مدحت به جواداً ماجــــــــداً وقضيته بالشكر حق ديونــــــــه
# أصفيته بنفيسه ورصينــــــــــــه وخصصته بخطيره وثمينـــــــه
# فيكون جزلاً في مساق صنوفـه ويكون سهلاً في اتفاق فنونـــه
# وإذا بكيت به الديار وأهلهـــــــا أجريت للمحزون ماء شئونـــه
# وإذا أردت كناية عن ريبــــــــة باينت بين ظهوره وبطونــــــه
# فجعلت سامعه يشوب شكوكـــه بثنائه وظنونه بيقينــــــــــــــــه
# وإذا عتبت علم أخٍ في زلـــــــةٍ أدمجت شدته له في لينــــــــــه
# فتركته مستأنساً بدماثـــــــــــــة مستأمناً لوعوته وحزونـــــــــه
# وإذا نبذت إلى الذي علقتهــــــا إذ صارمتك بفاتنات شؤونـــه
# تيمتها بلطيفه ورقيقـــــــــــــــه وشغفتها بخبيه وكمينــــــــــــه
# وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها وأشكت بين مخيله ومبينــــــه
# فيحول ذنبك عند من يعتــــده عتباً عليه مطالباً بيمينــــــــــه
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق