1028
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
تاريخ ابن خلدون
المجلد الرابع
صفحة 56 - 267
القسم الثاني المجلد الرابع
من تاريخ العلامة ابن خلدون
وفاة الحكم وولاية ابنه عبد الرحمن الأوسط:
ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته، وهو أول من جند بالأندلس الأجناد والمرتزقة وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه، واتّخذ المماليك، وكان يسميّهم الخرس لعجمتهم وبلغت عدّتهم خمسة آلاف، وكان يباشر الأمور بنفسه، وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس. وكان يقرب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الذي وطأ المٌلْكَ لعقبه بالأندلس. ولما مات قام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن فخرج عليه لأول إمارته عبد الله البلنسي عم أبيه، وسار إلى تدمير يريد قرطبة فتجهّز له عبد الرحمن فخام عن اللقاء، ورجع إلى بلنسية ومات أثر ذلك فنمل عبد الرحمن ولده وأهله إلى قرطبة. ثم غزا لأوّل ولايته إلى جليقة فأبعد وأطال الغيبة، وأثخن في أمم
النصرانية هنالك ورجع. وقدم عليه سنة ست ومائتين من العراق زرآب المغنّي مولى المهدي، ومعلم إبراهيم الموصلّي، وإسمه علي بن نافع فركب لتلقيه وبالغ في إكرامه، وأقام عنده بخير حال. وأورث صناعة الغناء بالأندلس، وخلف ولده مخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته. وفي سنة سبع كانت وقعة بالثغر، كان الحكم قد قبض على عاملها ربيع، وصلبه حيّاً لما بلغه من ظلمه. وهلك الحكم أثر ذلك فتوافى المتظلمون من ربيع إلى قرطبة يطلبون ظلاماتهم، ومعظمهم جند إلبيرة ووقفوا بباب القصر، وشغبوا، وبعث عبد الرحمن من يسكتهم فلم يقبلوا فركبت العساكر إليهم وأوقعوا بهم. ونجا الفل منهم إلى البيرة وبالشر، وتتبعهم عبد الرحمن.
وفي هذه السنة نشأت الفتنة بين المضرية واليمانّية واقتتلوا، فهلك منهم نحو من ثلاثة آلاف. وبعث عبد الرحمن إليهم يحيى بن عبد الله بن خالد في جيش كثيف، ليكفهم عن الفتنة فكفّوا عن القتال لما أحسوا بوصوله. ثم عاودوا الحرب عند مغيبه، وأقاموا على ذلك سبع سنين.
وفي سنة ثمان أغزا حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى ألبة والقلاع فخرب كثيراّ من البلاد وانتسفها، وفتح كثيراً من حصونهم، وصالح بعضا على الجزية واطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافراً. وفي سنة ثلاث عشرة انتقض عليه أهل ماردة وقتلوا عامله فبعث إليهم العساكر فافتتحوها، وعاودوا الطاعة، وأخذوا رهائنهم وخرّبوا سورها، ورجعوا عنهم. ثم أمر عبد الرحمن بنقل حجارة السور إلى النهر فعاودوا الخلاف، وأسروا العامل، وأصلحوا سورهم فسار إليهم عبد الرحمن سنة أربع عشرة، وحاصرهم فامتنعوا عليه. ثم بعث العساكر سنة سبع عشرة فحاصرها فامتنعوا، ثم حاصرها سنة عشرين وافتتحها، ونجا فلهم مع محمود بن عبد الجبار منهم إلى ملت شلوط فاعتصم بها سنة عشرين ومائتين، فبعث عبد الرحمن العساكر لحصاره فلحق بدار الحرب، واستولى على حصن من حصونهم، أقام به خمسة أعوام حتى حاصره أدفونش ملك الجلالقة وافتتح الحصن وقتل محمودا وجميع أصحابه سنة خمس وعشرين.
وفي سنة خمس عشرة خرج بمدينة طليطلة هاشم الضراب من أهل واقعة الربض، واشتدّت شوكته واجتمعت له الخلق، وأوقع بأهل شنت بريّة، فبعث عبد الرحمن العساكر لقتاله فلم يصيبوا منه. ثم بعث عساكر أخرى فقاتلوه بنواحي دورقة فهزموه، وقتل هو وكثير من أصحابه. واستمر أهل طليطلة على الخلاف. وبعث عبد الرحمن ابنه أمية لحصارها فحاصرها مدة، ثم أفرج عنها ونزل قلعة رياح، وبعث معسكراً للاغارة عليها. وكان أهل طليطلة قد خرجوا في أتباعه إلى قلعة رياح فكمن لهم فأوقعوا به فاغتم لذلك،
وهلك لأيام قليلة. وبعث عبد الرحمن العساكر لحصارها ثانيا فلم يظفروا وكمن المغيرون عليها بقلعة رياح يعاودونها بالحصار كل حين.
ثم بعث عبد الرحمن أخاه الوليد في العساكر سنة إثنتين وعشرين لحصارها، وقد أشرفوا على الهلكة، وضعفوا عن المدافعة فاقتحمها عنوة وسكن أهلها، وأقام إلى آخر ثلاث وعشرين، ورجع. وفي سنة أربع وعشرين بعث عبد الرحمن قريبه عبيد الله بن البلنسي لي العساكر لغزو بلاد ألبة والقلاع، ولقي العدّو فهزمهم، وكثر السبي والقتل، ثم خرج لزريق ملك الجلالقة، وأغار على مدينة سالم بالثغر، فسار إليه فرنون بن موسى وقاتله فهزمه، وأكثر القتل في العدو والأسر. ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل البة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه. ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقة فدوخّها وافتتح عدة حصون منها، وجال في أرضهم، ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم. وفي سنة ست وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض سرطانية، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تَطِيلَة، ولقيهم العدو فصبروا حتى هزم الله عدوهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود، ووقعت بينه وببن بعض قواد عبد الرحمن ملاحاة، وأغلظ له القائد فكان ذلك سبباً لانتقاضه فعصى على عبد الرحمن، وبعث إليه الجيوش مع الحارث بن بزيغ فقاتله موسى، وانهزم وقتل ابن عمه. ورجع الحارث إلى سرقسطة. ثم زحف إلى تطيلة، وحاصر بها موسى حتى نزل عنها على الصلح إلى أربط وأقام الحارث بتطيلة أياماً. ثم سار لحصار موسى في أربط فاستنصر موسى بغرسية من ملوك الكفر فجاءه، وزحف الحارث وأكمنوا له فلقيهم على نهر بَلْبَة، فخرجت عليه الكمائن بعد أن أجاز النهر، وأوقعوا به وأسروه، وقد فقئت عينه. واستشاط عبد الرحمن لهذه الواقعة، وبعث ابنه محمداً في العساكر سنة تسع وعشرين. وحاصر موسى بتطيلة حتى صالحه، وتقدم إلى يَنْبَلٌونَة فأوقع بالمشركين عندها، وقتل غرسية صاحبها الذي أنجد موسى على الحارث. ثم عاود موسى الخلاف فزحفت إليه العساكر فرجع إلى المسالمة، ورهن ابنه عند كبد الرحمن على الطاعة، وقبله عبد الرحمن وولاّه تطيلة فسار إليها، واستقّرت في عمالته. ثم كان في هذه السنة خروج المجوس في أطراف بلاد الأندلس، ظهروا سنة ست وعشرين بساحل أشبونة ،
فكانت بينهم وين أهلها الحرب ثلاثة عشر يوماً. ثم تقدموا إلى قادس، ثم إلى أشدونة، فكانت بينهم وبين المسلمين بها وقعة. ثم قصدوا إشبيلية ونزلوا لريبا منها، وقاتلوا أهلها منتصف المحّرم من سنة ثمان وعشرين فهزمهم المسلمون وغنموا. ثم مضوا إلى باجة، ثم إلى مدينة أشبونة. ثم أقلعوا من هنالك، وانقطع خبرهم وسكنت البلاد، وذلك سنة ثلاثين. وتقدم عبد الرحمن الأوسط بإصلاح ما خربوه من البلاد، وأكثف الحامية بها. وذكر بعض المؤرخين حادثة المجوس هذه سنة ست وأربعين، ولعلّها غيرها والله أعلم.وفي سنة إحدى وثلاثين بعث عبد الرحمن العساكر إلى جليقة فدوخوها وحاصروا مدينة ليون، ورموا سورها فلم يقدروا عليه، لأنّ عرضه سبعة عشر ذراعاً فثلموا فيه ثلمة ورجعوا. ثم اغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم بن مغيث في العساكر إلى بلاد برشلونة فجاز في نواحيها، وأجاز الدروب التي تسمى السرب إلى بلاد الفرنجة فدوخها قتلا واسراً وسبياً، وحاصر مدينتهم العٌظْمَى وعاث في نواحيها وقفل. وقد كان ملك القسطنطينية توفلس بن نوفلس بن نوفيل بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية، ويطلب مواصلته فكافأه عبد الرحمن عن هديته، وبعث إليه يحيى العزال من كبار الدولة. وكان مشهورا في الشعر والحكمة فأحكم بينهما المواصلة، وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس. وفي سنة ست وثلاثين هلك نصر الحفي القائم بدولة الأمير عبد الرحمن، وكان يضغن على مولاه، ويمالىء ابنه عبد الرحمن على ابنه الآخر وليّ عهده، بما كانت أم عبد الله قد اصطنعته وكانت حظية عند السلطان، ومنحرفة عن ابنه محمد ولي العهد فداخلت نصراً هذا في أمرها، وداخل هو طبيب الدار في أن يسم محمداً ولي العهد. ودس الطبيب بذلك إلى الأمير مع قهرمانة داره، وأن نصراً أكرهه على إذابة السمّ فيه، وباكر نصر القصر ودخل على السلطان يستفهمه عن شراب الدواء فوجده بين يديه، وقال له أن نفسي قد بشعته فاشربه أنت فوجم، فأقسم عليه فلم يسمه خلافه فشربه، وركب مسرعاً إلى داره فهلك لحينه، وحسم السلطان علّة ابنه عبد الله، وكان من بعدها مهلكه.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق