1049
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
تاريخ ابن خلدون
المجلد الرابع
صفحة 56 - 267
القسم الثاني المجلد الرابع
من تاريخ العلامة ابن خلدون
وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم المستنصر:
ثم توفي الناصر سنة خمسين وثلثمائة أعظم ما كان سلطانه، وأعز ما كان الإسلام بملكه. وكان له قضاة أربعة: مسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن بقى بن مخلد، ومحمد بن عبد الله بن أبي عيسى، ومنذر بن سعيد البلوطي. ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقّب المستنصر بالله، وولّى على حجابته جعفر المصحفي، وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأنصاف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة، كاملو الشيكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندويّة، وثلاثمائة ونّيف وعشرون درعاً مختلفة الأجانس، وثلثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هندية، وخمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي يسمّونها الطاشانية، وثلثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية الجنس، وعشرة جواشن نقية مذهبة، وخمسة وعشرون قرناً مذهبة من قرون الجاموس. ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم بنفسه، واستباحها، وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه. ثم أغزى غالباً مولاه بلاد جلّيقة، وسار إلى مدينة سالم قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة، ولقيهم على أشتة فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلاد فردلند
القومس، ودوّخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكم يحمى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، وامتنعوا في حصونها. وعاث في نواحيها، وأغزى الهذيل بن هاشم، ومولاه غالباً فعاثا فيها وقفلا. وعظمت فتوحات الحَكَم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب فعمّرها الحكم واعتنى بها. ثم فتح قَطْريبة على يد قائد وَشْقَة، وغنم ما فيها من الأموال والسلاح والآلات والأقوات. وغنم ما في بسيطة من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى. وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فأخذ حصن غرماج، ودوّخ بلادهم وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأنّ العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل. ثم كانت وفادة اردون بن أذفونش ملك الجلالقة. وذلك أنّ الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير، وهو ابن عمّه، وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلية(1). ثم توقع مظاهرة الحَكَم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر بالوفادة علم الحَكَم مستجيراً به فاحتفل لقدومه، وكان يوماً مشهوداً وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله. ووصل إلى الحَكَم وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه، وخلع عليه لما جاء ملقياً بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس، واعطى على ذلك صفقة يمينه، ورهن وَلَدَه غرسية، ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابِه. وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة بقرطبة ولبد بن مغيث القاضي، وأصْبَغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق، وعبد الله بن قاسم مطران طٌليطلة ليوطؤا له الطاعة عند رسميته، ويقبضوا رهنه، وذلك سنة إحدى وخمسين. وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قَوْلب من أهل جلّيقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله، ويبقي بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط
شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين. ثم بعث قومس الفرنجة برسل ومسيرة أثناء سيرملك برشلونة وطركونة وغيرها يسألان تجديد العهد، وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية وهي عشرون صبياً من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطاراً من الصوف السمور، وخمسة قناطير من الفرصدس(1)، وعشرة أذراع صقلية ومائتا سيف إفرنجية فقبل هديتهم، وعقد لهم على أن يهدموا الحصون التي بقرب الثغور، وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف فعقد لهم الحَكَم، ورجعوا. وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وردت أمّ لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من جلّيقة، وهو القومس الأكبر فأخرج الحَكَم لتلقّيها، واحتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها وأسعفها، وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت، ودفع لها مالاً تقسّمه بين وفدها، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج. ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت. ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك زناتة من مَغْراوة ومِكْنَاسة فبثوها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم. ووفد عليه ملوكهم من آل خزر، وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم أجلاهم إلى الإسكندريّة حسبما نشير إلى ذلك كله بعد. وكانم محباً للعلوم مكرماً لأهلها جَمَّاعَةً للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. قال ابن حزم: أخبرني بٌكيَّة الخِصِيّ وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان- أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلاّ ذكر أسماء الدواوين لا غير. فأقام للعلم والعلماء سلطاناً نفقت فيها بضائعه من كل قطر. ووفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه، وحسنت منزلته عنده وأورث أهل الأندلس علمه. واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه، وكان يبعث في الكتب
إلى الأقطار رجالاً من التجّار، ويسرّب إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه، قبل أن يخرجه بالعراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الابهريّ المالكيّ في شرحه لمختصر ابن عبد الحَكَم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النَسْخ، والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من تبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العبّاسي بن المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، أمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر. ونٌهِبَ ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة، واقتحامهم إيّاها عنوة كما نشير إليه بعد. واتصلت أيام الحَكَم المٌستنصر، وأوطأ العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته هلوك زناتة ومغراوة ومكناسة فبثّها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق