211
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
الفصل الثاني والأربعون
في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها
والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكر في والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أموراً كليةً عامةً؛ ليحكم عليها بأمر على العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها، بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة، وإنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك؛ كالأحكام الشرعية، فإنها فروع
عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية، التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم أمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها، فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها.ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، إذ كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور، فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الامور، بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة، أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم؛ فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم. ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران، لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم، إلى مثل شأن الفقهاء، من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة، فيقعون في الغلط. والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس، لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
# فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأموناً من النظر في سياسته، مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه؛ فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره، باستقامة نظره. وفوق كل ذي علم عليم. ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس؛ فإنها نظر في المعقولات الثواني. ولعل المواد فيها
ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. وأما النظر في المعقولات الأول، وهى التي تجريدها قريب، فليس كذلك؛ لأنها خيالية، وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق