إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 11 ديسمبر 2014

206 تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون ) الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته


206

تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )

الفصل السابع والثلاثون

في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته

إعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً، إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم؛ إلا أنها جزئية وضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية؛ فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفى الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله؛ فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار



 ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصواباً فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها؛ فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً، بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب الى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد؛ ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم. والله يهدي من يشاء.وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانية للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطاً وأقرب صبغة؛ لان الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه. والله علمكم ما لم تكونوا



 تعلمون.ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم

علمان معاً؛ فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الاخر؛ فيستغلقان معا ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرع الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

الفكر الإنساني:

واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة، ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة. وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها، وذلك ان الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة، فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو [ وجدان حركة للنفس]، في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدءا للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب؛ وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوخه إلى المطلوب. وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما، أسرع من لمح البصر إن كان واحداً. وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً، ويصير إلى الظفر بمطلوبه. هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات.ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية، تصفه ليعلم سداده من خطئه. لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً، إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج، فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق، إذا، أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها، ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر. ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق، ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى، فإن



 ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها؛ فتفضي بهم بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه.ثم من دون هذا الأمر الصناعي، الذي هو المنطق، مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ؛ ودلالتها علي المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أنها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.فأولاً: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها؛ ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة؛ ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق؛ ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة بما، ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة؛ بل  ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، فقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله.فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الامر الصناعي جملة واخلص الى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه، واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك، متعرضا للفتح من الله، كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك ، وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه. وحينئذ فارجع



 به إلى قوالب الأدلة وصورها، فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي؛ ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها، وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح، فلا تتميز جهة الحق منها؛ إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع، فيستمر ما حصل من الشك والارتياب، وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين، سيما من سبقت له عجمة في لسانه، فربطت على ذهنه، أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له، فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع، فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها، ولا يكاد يخلص منها. والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه، إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى. وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر، فيساوقه لذلك في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى، متى أعوزك فهم المسائل، تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب. والله الهادي إلى رحمته، وما العلم إلا من عند الله.




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق