717
كيف انحرف العالم ؟
متناقضات الحرّيّة:
الثالث عشر - الحرية في الحضارة الغربية
2 أوهام الديمقراطيّة
5 التسلّطُ الأمريكيّ
3 وجه أمريكي مسكوت عنه
فهمي هويدي
الذي رأيته في الولايات المتحدة هذه المرة آخر ما توقعته, بله ما خطر لي علي بال, ذلك أني طالعت هناك لأول مرة وجها بوليسيا شرسا وفظا, لا علاقة له بكل ما نقرأ ونعرف عن الليبرالية الأمريكية وعن قيم العالم الحر. وإذ صدمني هذا الوجه, فإن الصدمة تضاعفت حين قيل لي إن الاكتشاف الذي وقعت عليه ليس جديدا, لكنه قديم مسكوت عليه! من ثم فإذا كان هناك من عتب, فهو علي النظر لا أكثر!
***
لقد دعيت للمشاركة في مؤتمر الاتحاد الإسلامي لفلسطين الذي انعقد في آخر شهر نوفمبر الماضي بمدينة شيكاجو, وكما يحدث في كل مؤتمر تسلم كل واحد من المشاركين حافظة أوراق اعتدنا أن نجد فيها تفصيلات برنامج المؤتمر, ونسخا من المحاضرات التي سيتم إلقاؤها, وغير ذلك من الأمور التنظيمية التي تهم المدعوين. غير أني ما أن فتحت حافظتي حتي وقعت عيناي علي ورقة عنوانها: مكتب التحقيقات الفيدرالية وحقوقك الدستورية, لا تتحدث مع مكتب التحقيقات أو عملائه, وورقة أخري كان عنوانها: قواعد ضرورية لأمنك الشخصي, وثالثة حملت عنوانا كبيرا يقول: قد تكون أنت الضحية المقبلة!
كنت قد قلبت أوراق الحافظة في مستهل جلسة الافتتاح, وفوجئت بما رأيت, فلم أسمع شيئا مما قيل فيها, فقد انصرفت إلي قراءة الأوراق التحذيرية لكي استوعب مضمونها وأفهم حكايتها, بين الحين كنت أتلفت حولي لكي أتعرف علي انفعالات الآخرين وانطباعاتهم, فلاحظت أنهم جالسون في هدوء شديد, أبصارهم معلقة بالمنصة, وأيديهم تصفق بين الحين والآخر, ومنهم من وقف في ركن قصي يصافح ويعانق بحرارة الأصدقاء القادمين من الولايات البعيدة. استغربت السكينة المخيمة علي القاعة, بينما يتأبط كل واحد ملفا مسكونا بأسباب التوتر والقلق. بسرعة أرجعت ما رأيت إلي أن الفلسطينيين اعتادوا العيش في ظلال الخطر, لكثرة وشدة ما عانوا طوال نصف القرن الأخير. فالذين ذاقوا طعم الاحتلال وتقلبوا بين المخيمات والمنافي, لن يصدموا كثيرا إذا ما تعرض لهم مكتب التحقيقات الفيدرالية مثلا, ذلك أن رحلة حياة الواحد منهم ليست سوي انتقال من منفي إلي آخر, ومن سجن إلي آخر, ومن مظلومية إلي مظلومية. والمحقق الذي يستجوبه واحد, وإن اختلفت سحنته ولغته وتلون غطاء رأسه! ثم لا ننس أنه إن كان الأصل في الإنسان البراءة, فقد اعتبر الفلسطيني عند الأجهزة ـ في الولايات المتحدة خاصة ـ إنسانا من طينة أخري, الأصل فيه عدم البراءة!
بهدا المنطق فسرت عدم اكتراث الآخرين بالأوراق التي بين أيديهم, فلم أخطئهم وإنما حسدتهم علي ما حل بهم من هدوء وسكينة, كما أنني لم أستح من القلق الذي تلبسني. ومضيت أقرأ بدقة التحذيرات والتنبيهات التي نقلتني إلي عالم آخر.
***
في ورقة مكتب التحقيقات الفيدرالية وحقوقك الدستورية التي حملت توقيع التحالف الوطني لحماية الحريات السياسية قرأت التنبيهات والتحذيرات التالية:
* القانون يخولك الامتناع عن التحدث مع مكتب التحقيقات الفيدرالي أو أي ممثل للحكومة, ويفضل أن تمتنع عن الكلام, حتي وإن لم يكن لديك شيء تخفيه, لأن أية معلومات تدلي بها قد تستخدم لاحقا للتضييق أو التحقيق أو إبعاد أفراد الجالية, ولا تنسي أن عملاء مكتب التحقيقات مدربون علي الأساليب التي تمكنهم من استدراجك في الكلام, وإشعارك بأنك ترتكب خطأ إذا امتنعت عن التحدث إليهم.
* من حقك ألا تفتح باب بيتك لعملاء مكتب التحقيقات, والحالة الوحيدة التي يجب فيها أن تفتح بابك هو تلك التي تقدم إليك فيها ورقة تثبت حصولهم علي إذن بالتفتيش, وهذه الورقة يجب أن تكون موقعة من قاض فيدرالي, ومدون فيها اسمك وعنوانك.
* اطلب من مكتب التحقيقات الاتصال بمحاميك, ولا تتحدث إلا في حضوره, لأن أي معلومات تدلي بها قد تضربك أو بأسرتك أو بجاليتك, ولا تنس أن كثيرين ألقوا في السجون, لا لذنب ارتكبوه, ولكن لأن أصدقاءهم قدموا بحسن نية معلومات عنهم إلي مكتب التحقيقات.
* تذكر أن الكذب علي مكتب التحقيقات الفيدرالية جريمة يعاقب عليها القانون, وعملاء المكتب مدربون علي استدراجك للإدلاء بمعلومات غير كاملة أو غير دقيقة أو متناقضة, وذلك كله سوف يستخدم ضدك في المحاكم, لذلك فالتزام الصمت خير لك.
* تقديم مساعدات خيرية أو إنسانية لبعض المنظمات الأجنبية المعنية( أكثرها في الشرق الأوسط) أصبح الآن مخالفة قانونية, وقد يتسبب ذلك في التسفير والإبعاد لغير المواطنين, وفي السجن عشر سنوات للمواطنين الأمريكان, وعملاء مكتب التحقيقات ينظمون حملة واسعة لجمع المعلومات عن تلك التبرعات في أوساط الجالية العربية والإسلامية بوجه أخص.
ورقة قواعد الأمن الشخصي حملت اسم سيدة هي (شيللا اودونيل) التي فهمت أنها خبيرة في مجال الحريات المدنية, وأحد مؤسسي مجلة عين المجتمع (بابليك آي), وتقيم في ولاية ماريلاند, وفيها قرأت نصائح عديدة إليك نماذج منها:
* إذا أردت إجراء حوار خاص, اترك بيتك أو مكتبك, اخرج إلي الشارع, وامش بعيدا, ولاحظ جيدا الأشخاص الذين يجلسون قريبا منك, وإذا تكلمت فلا تكرر شيئا لا تحب سماعه إذا كان هناك من يسجل حديثك.
* إذا كان لديك أي مستند مهم, فلا تحتفظ بنسخة واحدة منه, وإنما يجب أن تستنسخ منه نسخة أخري واحتفظ بها في مكان آمن, وكذلك الحال بالنسبة لديسكات الكومبيوتر, ينبغي أن يظل لديك نسخ أخري منها, تحتفظ بها في مكان مغلق.
* عناوين الأشخاص الذين تراسلهم, ودفتر أرقام الهواتف, وقوائم المتبرعين: هذه كلها يجب أن تبقي بعيدا عن متناول أصحاب الأصابع الخفيفة, وحبذا لو احتفظت بنسخ أخري منها, لأنها تظل هدفا ثمينا للصائدين.
* إذا أردت أن تطبع شيئا بالكمبيوتر فينبغي أن تعرف جيدا من يطبع لك, ويجب ألا تختار للعمل في مشروعاتك الحساسة إلا الأشخاص الذين تثق فيهم, ولا تعين غريبا كمراسل لك, لا تعين في هذه المهمة من لا تعرف.
* لا تستخدم أي أسماء حركية في حديثك الهاتفي, لأنه إذا كان مراقبا فسوف تستخدم تلك الأسماء ضدك في المحكمة وقد تفتح الباب لتفسيرات تضرك, لا تقل شيئا في مكالمتك الهاتفية لا تريد أن تسمعه في محكمة عامة, ولا تتطرق إلي النميمة, لأن الكلام الفاضح مفيد جدا لمن يريد أن يصطاد, لأنه يجعل الجميع في موقف ضعيف.
* إذا لاحظت أنك مراقب, دون بسرعة رقم سيارة المراقب, وأوصاف من بداخلها, وصورها إذا استطعت أو اطلب من أحد أصدقائك القيام بهذه المهمة, ودون تفاصيل كل حادث تتعرض له أو أي موقف غير عادي تتعرض له, وحبذا لو احتفظت لنفسك بملف لكل الحوادث والأشياء الغريبة التي تصادفك, فذلك مرجع مهم يحصنك في المستقبل.
* لا تسكت علي أي شيء يختفي من مكتبك أو من بيتك, وإنما سارع بإبلاغ الشرطة بحقيقة ما تعرضت له, فتسجيل مثل هذه الحوادث قد يكون له أهمية قصوى في المستقبل.
***
الورقة الثالثة التي تصدرها عنوان كتب بأحرف حمراء يقول: قد تكون أنت الضحية المقبلة, حملت صورة شاب اسمه شريف علوان من البيانات المنشورة تحت الصورة عرفت أنه فلسطيني عمره32 عاما, متزوج وأب لطفلة عام واحد, اعتقلته إسرائيل لمدة عامين حينما ذهب إليها لزيارة أهله المقيمين هناك. في شيكاجو, حيث يعيش, استجوبه عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي, فامتنع عن الشهادة, لاعتقاده أن المطلوب هو استخدام أقواله لتجريم مجموعة من الأشخاص والمؤسسات الإسلامية والعربية بسبب آرائهم السياسية, حينذاك أصدرت هيئة المحلفين قرارا باحتجازه, وهو ما يجيزه القانون شريطة ألا تزيد مدة الاحتجاز علي18 شهرا, منذ99/7/13 وشريف علوان مسجون بسبب إصراره علي موقفه, ولأن المباحث الفيدرالية لا تملك أي دليل ضده في أية تهمة.
تقول الورقة أن كل عربي أو مسلم معرض للاستجواب والاحتجاز, وأن ما جري لشريف علوان هو نموذج للترويع الذي يلاحق أفراد الجالية, لذلك ينبغي أن يتحرك الجميع, وأن يستنفروا لإطلاقه بدءا بالدعاءإلي الله لفك أسره, ثم بالاتصال بممثلي الولاية في مجلسي الشيوخ والنواب لتخفيف معاناة الرجل وإطلاق سراحه, وبالتبرع للجنة المختصة التي شكلتها الجالية للدفاع عن حقوقها القانونية والمدنية.
في الورقة أيضا نبذة تقول منذ التفجيرات في مركز التجارة العالمي بنيويورك, وفي المبني الفيدرالي في أوكلاهوما, جري سن عدة قوانين سلبت المواطنين بعضا من حقوقهم الدستورية وحرياتهم المدنية, فقد صنف قانون الإرهاب الصادر في عام96 بعض التنظيمات الفلسطينية خارج القانون ووصفها بالإرهاب لانتقادها ومعارضتها عملية التسوية, ودأبت دوائر الهجرة علي التضييق علي الناشطين العرب والمسلمين مستخدمة ما بات يعرف بقانون الأدلة السرية, الذي يخول السلطات حبس المتهم دون إطلاع القاضي أو المحامي.. ولا المتهم بطبيعة الحال عن أسباب ذلك الحبس, حيث يكتفي فقط أن ينسب إلي الشخص أنه يهدد الأمن القومي, وبهذه التهمة الغامضة تم حتي الآن حبس30 شخصا كلهم من العرب والمسلمين, ولا يزالون وراء القضبان منذ عدة سنوات بغير تبرئة أو إدانة!.
في النهاية حملت الورقة نداء إلي أفراد الجالية يقول: هيا نتحرك.. هيا نرفع أصواتنا وندافع عن حقوقنا.. فما يدريك, فقد تكون أنت الضحية القادمة!
***
ملحوظة قبل أن نتابع المقال:
نشر فهمي هويدي هذا المقال عام 1999!!!
أيّ أنّ الأمريكان لم يكونوا بحاجة لأحداث 11 سبتمبر ليفتعلوا عداء المسلمين!
كلّ شيء كان معدا سلفا..
وسواء كان ابن لادن وراء 11 سبتمبر، أو كانت تدبيرا أمريكيّا، لم يكن شيء ليختلف!!
***
لك أن تتصور كم علامات الاستفهام والتعجب التي تزاحمت في مخيلتي حين فرغت من قراءة الأوراق, وأحسبك لا تستغرب إذا قلت إن التحذيرات والتنبيهات التي طالعتها تحولت إلي رنين وطنين ظل يتردد عندي طوال الوقت, دعك مما أصابني من قلق شخصي باعتباري صاحب وجه شرق أوسطي, يمكن أن أتعرض لأي شيء مما يتعرض له الآخرون, خصوصا في ظل تلك الحجة الغريبة التي اسمها الدليل السري, الذي لا أعرف له مثيلا في الدول المتحضرة أو الديمقراطيات الغربية.
لم أكن بحاجة لأن يشرح لي أحد كيف تشعر الجالية المسلمة بعدم الأمن, وبأنها مهددة طوال الوقت, فالأوراق التي وزعت علي جميع الحاضرين كافية في التدليل علي ذلك, كانت الورقة الأولي تقول بصوت عال: أنت معرض للاستجواب وهناك من يريد الإيقاع بك ويضمر لك شرا.
وكانت الورقة الثانية تقول: انتبه واحذر فأنت ملاحق ومرصود فلا تمكنهم من اصطيادك, أما رسالته الثالثة فهي محبطة نوعا ما, إذ تقول لقارئها: خياراتك صعبة, فأنت إذا تكلمت أوقعوا بك وألبسوك قضية, وإذا امتنعت احتجزوك لمدة ثمانية عشر شهرا!
هي أجواء عالم_ثالثية بامتياز, ينطبق عليها مصطلح البولسة, الذي يستخدمونه في الغرب, لوصف المناخ البوليسي الذي يشيع الخوف والترويع بين الناس.
حاولت أن أتيع صدي تلك الإجراءات في أوساط الجالية, فقيل لي إن الجميع أدركوا أهمية الثقافة والاحتياطات الأمنية منذ منتصف التسعينيات علي الأقل, بعدما وجدوا أنهم أصبحوا مستهدفين, بلا استثناء, فالمسلم مشبوه ابتداء, والعربي متهم, أما الفلسطيني فقد كتب عليه أن يصنف واحدا من اثنين: إرهابي أو مشروع إرهابي!
ولأن80% من العرب في شيكاجو من الفلسطينيين( العرب75 ألفا تقريبا ويشكلون ربع المسلمين في الولاية, البالغ عددهم300 ألف, والباقون من السود أو الآسيويين) فإن حظهم من المراقبة والترصد أكبر, وتركيز مكتب التحقيقات الفيدرالي علي الولاية مفهوم, ليس فقط بسبب النسبة العالية من الفلسطينيين, ولكن أيضا بسبب كبر حجم الجالية الإسلامية هناك, التي تأتي في الترتيب الثالث بعد جاليتي لوس أنجلوس ونيويورك, وكبر الحجم النسبي في شيكاجو استدعي إقامة أكثر من200 مؤسسة ومركز لخدمة الجالية ورعا أنشطتها المختلفة, في الوقت ذاته فإن القادمين من الخارج حملوا معهم قسمات خرائط العالم الإسلامي بمذاهبه وملله ونحله, بخيرها وشرها, وبعدما أدرك الجميع أنهم مهددون في ظل التعبئة المضادة التي شاعت منذ منتصف التسعينيات, حاولوا تجميع حقوقهم والدفاع عن أنفسهم, فاستطاعوا في شيكاجو تشكيل مجلس تنسيقي ضم في عضويته إلي الآن40 مركزا إسلاميا ومؤسسة, غير أن الموجة المضادة أقوي, والصراع طويل المدي ومتعدد الأسلحة.
***
قلت توا إن المسلم في الولايات المتحدة مشبوه, والعربي متهم, والفلسطيني إرهابي, وهذا التصنيف دال علي أن التعبئة المضادة تصعد من الإدانة كلما اقترب المرء من الشرق الأوسط, حتي إذا صار في قلب القضية, كما هو الحال بالنسبة للفلسطيني, فإن الإدانة تبلغ درجتها القصوي, الأمر الذي يكشف عن الطرف( الخصم أدق) الأساسي في الحملة, المتمثل في قوي الضغط الصهيوني, التي بلغت درجة التوحش في الولايات المتحدة, وأصبح بعضها يجهر بالدعوة إلي استئصال الإسلام والمسلمين من الولايات المتحدة, وقد نجحت هذه القوي في إذكاء المخاوف الأمنية لدي الأجهزة الأمريكية, مستثمرة إلي أبعد مدي أخطاء وحماقات بعض المسلمين, الأمر الذي حول مكتب التحقيقات الفيدرالي إلي طرف آخر في الخصومة, خصوصا بعدما نجح النفوذ الصهيوني في تمرير بعض القوانين التي وسعت من سلطات عملاء المباحث الفيدرالية, ووفرت لهم غطاء مرنا سمح لهم بالتغول والعصف ببعض الحريات المدنية: التي تصور كثيرون أنها استقرت حتي أحبطت بهالة من القداسة في المجتمع الأمريكي, وأهم تلك القوانين التي صدرت حتي الآن تلك التي تعلقت بمكافحة الإرهاب والأدلة السرية, والتنصت علي المكالمات الهاتفية.
إلي بداية التسعينيات كانت الأجواء هادئة بالنسبة للجاليات الإسلامية والعربية في الولايات المتحدة التي وصلت طلائعها اللبنانية والسورية إلي شطآن القارة في أواخر القرن التاسع عشر. وبعد سقوط الشيوعية وترشيح الإسلام لكي يكون عدوا بديلا للغرب وللولايات المتحدة خاصة, الذي لعبت الآلة الإعلامية الصهيونية دورا رئيسيا في اصطناعه, بدأت القوي الصهيونية في أمريكا تتجه بأبصارها إلي العرب والمسلمين, الذين وصل عددهم إلي ستة ملايين نسمة, وأصبحوا قوة عددية علي الأقل, موازية للوجود اليهودي هناك.
وقتذاك كانت الانتفاضة الفلسطينية مستمرة, والصراع العربي ـ الإسرائيلي يجتاز أحد منعطفاته الحادة, وهو المنعطف الذي كان له صداه في الولايات المتحدة, إذ وقف العرب والمسلمون جميعا إلي جانب الانتفاضة, التي سببت حرجا كبيرا للقوي الصهيونية, وحين شحذت تلك القوي أسلحتها, فإنها عمدت إلي مراقبة أنشطة المراكز الإسلامية, التي تعرض بعضها لصور مختلفة من العدوان, بلغت حد تحطيم وإشعال الحرائق الغامضة في مقار تلك المراكز: وهو ما طال مساكن بعض الناشطين المسئولين عنها.
وفي هذه الأجواء( عام94) ظهر في الأسواق الفيلم التسجيلي الجهاد في أمريكا, الذي أعده الصحفي اليهودي الأكثر عداوة للمسلمين ستيفن ايمرسون, وقدم فيه مسلمي الولايات المتحدة باعتبارهم جميعا إرهابيين يستعدون للانقضاض علي نظامها( فيلم الحصار الذي أنتج في العام الماضي صور محاولة الانقضاض!) ولأن الفيلم أنتج بعد محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في عام93, فقد لقي صدي واسعا وتجاوبا شديدا, حتي من البيت الأبيض والرئيس الأمريكي شخصيا ولا يشك أحد في أن الانطباع الذي خلفه كان أحد العوامل التي أسهمت في إعداد وتمرير قانون الإرهاب الذي صدر في عام96, وكان بمثابة نقطة تحول ساعدت علي ملاحقة واحتجاز وتسفير أعداد غير قليلة من العرب والمسلمين, الذين كان الجرم الذي ارتكبوه لا يتجاوز تأييد القضية الفلسطينية ومساعدة الشعب الفلسطيني علي الصمود في وجه الاحتلال!
تمدد مكتب التحقيقات الفيدرالي بعد صدور قانون الإرهاب الذي أطلق يده إلي حدود بعيدة, فزادت ميزانيته السنوية بمعدل300 مليون دولار, ولجأ إلي توظيف2000 عميل جديد لملاحقة المسلمين والعرب بالدرجة الأولي, ولأول مرة في تاريخه أنشأ خارج حدود الولايات المتحدة11 مكتبا, ومقرا رئيسيا لأنشطته في إحدي عواصم الشرق الأوسط.
***
يخوض العرب والمسلمون هذه الأيام معركة ضد قانون الأدلة السرية الذي يعد أكثر صور العدوان علي الحريات المدنية شذوذا وفجاجة, حيث لا يتصور أحد أن يصدر قاض قرارا بسجن إنسان لمجرد أنه متهم بتهديد الأمن القدسي, دون أن يتوافر له دليل يثبت صحة الاتهام, حتي قال لي أحد الناشطين العرب الساعين في حملة إلغاء القانون أنه ذهب إلي سيدة عضو في الكونجرس والحزب الديمقراطي, وعرض عليها الموضوع مبينا خطورة القانون, وطلب منها تأييد مشروع إلغائه(60 عضوا أيدوا المشروع حتي الآن), فأعربت السيدة عن تعاطفها مع هذه الدعوة, لكنها قالت إنها لا تستطيع التوقيع, لأن ذلك يعد شأنا إسرائيليا داخليا, وهي لا تري أنه من غير المناسب إقحام نفسها فيه, ولما قال لها صاحبنا إن القانون صادر في الولايات المتحدة وليس في إسرائيل, انتفضت في مقعدها ولم تصدق, إلا حينما أطلعها علي نصه وتاريخ صدوره!
بين الأمريكيين باحثون وصحفيون شرفاء اعتبروا قانون الأدلة السرية فضيحة للنظام الأمريكي يجب علاجها بأسرع ما يمكن, ومن هؤلاء جون سوج رئيس تحرير صحيفة ويكلي بلانت في فلوريدا, الذي شارك في حملة إلغاء القانون, وأخيرا كتب أنتوني لويس أحد أكبر كتاب صحيفة نيويورك تايمز معبرا عن استنكاره ودهشته لوجود ذلك القانون. وفي المقال روي قصة مواطن مصري اسمه ناصر أحمد سجن لمدة ثلاث سنوات ونصف سنة, بتهمة الدليل السري باعتبار الرجل خطرا علي الأمن القومي الأمريكي, كان اعتقاله في عام 96, وصدر الحكم ضده في عام97, ولكن المحامين طعنوا في الحكم باعتباره غير دستوري, وحين عرض الأمر علي المحكمة الفيدرالية ـ والكلام لأنتوني لويس ـ فإن دائرة الهجرة زودت المحكمة في خطوة مفاجئة بصورة مفصلة من الدليل السري, الذي كان محظورا الإطلاع عليه في السابق. وكان غريبا ومدهشا للغاية أن يتمثل ذلك الدليل السري ـ بعد كشف النقاب عنه ـ في شهادة أدلي بها عميل لمكتب التحقيقات الفيدرالي, لم يذكر اسمه, ومفادها أن الشاب المصري يجب أن يظل في السجن, وأن إطلاق سراحه قد يجعله شخصية مرموقة, باعتبار براءته وسلامة موقفه, أما السبب الوحيد في الحفاظ علي سرية هذه الحجة, فهو احتمال تسببها في حرج بالغ للحكومة بـ(صدق أو لا تصدق)!
عندما وضعت هذه المعلومات أمام القاضي الفيدرالي, فلم يكن أمامه سوي إصدار حكمه بالإفراج عنه, وتم ذلك بالفعل قبل أسبوعين!
هناك حوالي ثلاثين حالة مماثلة لقضية الشاب المصري, أبرياء مسجونون لعدة سنوات لمجرد أن مكتب التحقيقات الفيدرالي أراد التنكيل بهم, سواء لأنهم من مؤيدي الحقوق الفلسطينية, أو لأنهم رفضوا العمل لحساب المكتب والتجسس علي إخوانهم أو لأي حسابات سياسية أخري. وفي مقدمة أولئك الأبرياء المسجونون ظلما الفلسطيني الدكتور مازن النجار واللبناني علي ترمس والجزائري أنور هدام وغيرهم وغيرهم.
لقد نصبت الولايات المتحدة نفسها حامية لحقوق الإنسان في العالم, وما برحت تلقن الجميع دروسا في ضرورة احترام تلك الحقوق, لكن أحدا لم يفتح بعد ملف انتهاكات حقوق الإنسان في داخل الولايات المتحدة, وما هذا الذي عرضته سوي صفحة واحدة من الملف!
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق