695
كيف انحرف العالم ؟
متناقضات الحرّيّة:
الثانى عشر - ماتريكس
ماتريكس: الجزء الأوّل
تلقى الشاب أندرسون هذه الرسالة على جهاز الكمبيوتر الخاص به:
- استيقظ يا نيو.. الشبكة سيطرت عليك!
وكانت هذه هي البداية التي غيرت مجرى حياته.. للأبد.
***
في الشركة التي يعمل بها، قال له رئيسه:
- لديك مشكلة في التعامل مع السلطة يا سيد أندرسون.. تعتقد أنّك مميّز وأنّ القوانين لا تنطبق عليك.
***
دار هذا الحوار بين أندرسون (نيو)، ومورفيوس (أحد من يحاربون الشبكة)..
مورفيوس لنيو:
- نظرتك نظرة رجل يقبل ما يراه لأنّه يتوقع أن يستيقظ في أيّ لحظة!.. والغريب أنّ هذا أمر ليس ببعيد عن الحقيقة!.. دعني أخبرك لماذا أنت هنا.. هناك شيء غير مضبوط في هذا العالم.. لا تعرف ما هو.. ولكنّه موجود.. مثل شظية في عقلك تدفعك للجنون.. هل تعرف ما أتحدّث عنه؟
- الشبكة.
- هل تريد أن تعرف ما هي؟.. الشبكة في كلّ مكان.. وهي تحيط بنا.. حتّى الآن في هذه الغرفة!.. تراها حين تنظر من نافذتك.. أو حين تشغّل تلفازك.. تشعر بها عندما تذهب للعمل.. وللكنيسة.. وعندما تدفع ضرائبك.. إنّها العالم الذي عصب عينيك ليعميك عن الحقيقة.
- أيّ حقيقة؟
- أنّك عبد يا نيو.. أنّك ولدت في العبوديّة مثل أيّ واحد آخر.. ولدت في سجن لا تستطيع أن تشمّه أو تتذوقه أو تلمسه.. سجن لعقلك!.. ولسوء الحظّ، لا يمكن إخبار أحد بحقيقة الشبكة.. يجب أن تراها بنفسك!
***
من الصعب محاولة تلخيص فيلم Matrix بأجزائه الثلاثة.. لهذا فأنا أنصحكم بمشاهدته.
هذا الفيلم يمثّل خلاصة السينما في نظري.. فهو فيلم إبهار ومغامرات وخدع سينمائيّة، في إطار قصّة من الخيال العلميّ، فلسفيّة بالغة العمق (قد تكون ضدّ الدين في بعض مناطقها.. وقد ترّوج لأفكار صهيونية.. ولكن يبقى للمتفرج عقله.. ما دام بالغا وليس طفلا، لأنّ تأثير هذه الأفلام على الأطفال بالغ الخطورة).
هذا الفيلم جسّد كلّ الحياة في الشبكة Matrix.. فالآلات انتصرت على البشر.. ولكنّ الحرب أدّت إلى شتاء طويل على الأرض، حيث لم تعد هناك مصادر طاقة كافية.. لهذا سيطرت الآلات على البشر وأضافتهم لنظامها مغيبين عن الوعي، ليكونوا مصدرا للطاقة (بطاريات)!!
ولكن إبقاءهم على قيد الحياة فرض عليها أن تخلق لهم عالما افتراضيّا، عبارة عن برنامج كمبيوتر يتفاعل مع عقولهم وأجسادهم، يجعلهم يتصورون أنّهم يعيشون في نهاية القرن العشرين.. هذا البرنامج يسمّى الشبكة.
ولكي يكون هذا العالم مستقرّا، كان لا بدّ من خلق آليات التوازن فيه.. فهناك برامج مهمّتها حماية الشبكة.. لكن في نفس الوقت هناك برامج مهمتها مساندة البشر في التمرد على الشبكة.. وهناك برامج قادرة على تجاوز قوانين الشبكة.. وهكذا...
وبدون هذا التوازن تنهار الشبكة وتفقد الحياة الافتراضيّة القوّة الدافعة التي يولّدها الصراع.. وبالتالي يفقد البشر الدافع للحياة!
لقد رفضت الرقابة المصريّة لعدّة أشهر عرض هذا الفيلم في السينما.. فهو صادم جدّا للعقول.. كما أنّه يحتوي على شغل يهودي فجّ:
فالسفينة التي يستقلها الأبطال تسمى "نبوخذ نصر".. والمدينة التي يعيشون بها تسمى مدينة "صهيون"!! (لاحظوا الشغل اليهودي: البشر الذين يعيشون في عالم الحقيقة ويحاربون من أجلها هم أهل مدينة صهيون.. بينما باقي البشر يعيشون في الشبكة وتسيطر عليهم الآلات في عالم وهميّ!)
ولكن انتهى الأمر بعدم ترجمة كلمة صهيون، وتسمية المدينة بمنطوق الكلمة الإنجليزية "زايون".. وتمّ عرض الفيلم في السينما.
بل.. وتمّ عرضه مؤخرا في التلفزيون أيضا!
ولقد حذفوا لقطة واحدة من الفيلم.. وكانوا موفقين للغاية في هذا الأمر.
تلك هي اللقطة الرهيبة التي يستيقظ فيها أندرسون (نيو)، فيجد نفسه متصلا بالأسلاك في تابوت، ضمن مستعمرة هائلة من البشر المنومين في توابيت مشابهة!
مشهد صادم.. يحاول أن يطمس الفروق بين الحلم والوهم والحقيقة!
ولكن أتعرفون.. أعجبني المشهد للغاية!
ألا يشبه هذا موقفنا حين نصحو يوم القيامة من وهم هذه الدنيا، لنكتشف كلّ الأمور على حقيقتها؟
عموما.. الفيلم لا يمكن تلخيصه، فشاهدوه.
وطبعا لا أدّعي أنّني مقتنع بما جاء به، ولكنّه مادة جيّدة لتحريك الذهن.
***
الآن علي (مورفيوس) أن يشرح له كلّ شيء.. أوصل مخّه ببرنامج واقع افتراضيّ.. حيث تحسّس نيو أحد المقاعد متسائلا في دهشة:
- هل هذا حقيقيّ؟
فسأله مورفيوس:
- ما هو الحقيقيّ؟.. كيف تُعرّف كلمة "حقيقيّ"؟.. إذا كنت تتحدّث عمّا يمكنه أن تشعر به وتشمّه وتتذوّقه وتراه، فأنت هنا تتكلّم ببساطة عن مجموعة من الإشارات الكهربيّة، يترجمها مخّك ويفسرها كما تراها!
(وهذا معناه أنّ إرسال هذه الإشارة إلى المخّ سيعطي هذه الحقيقة الافتراضيّة!!.. وهي فكرة علميّة فعلا، وهناك أبحاث لتطويرها.. كما أنّ هناك شواهد لها في ظواهر ما وراء الطبيعة.. فقد كان السياح يقفون بانبهار يتابعون فقراء الهنود وهم يؤدون فقرات مذهلة، تنتصب فيها الحبال فيتسلقونها!!.. ولكن عند تصوير هذه المشاهد بالكاميرات، فوجئ المختصون بأنّ الناس تحدّق بانبهار في الفراغ، بينما هؤلاء السحرة واقفون ينظرون إليهم في تركيز!!.. هذا يبدو أقرب لما فعله سحرة فرعون عندما سحروا أعين الناس ليروا العصيّ والحبالَ ثعابين!
(قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ {116} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {117})
(يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)
إذن فكلّ المطلوب هو أن أرسل لذهنك الإشارات التي يفسرها المخّ على أنّك ترى العصا تتحوّل إلى ثعبان، والحبل ينتصب ورجل يتسلقه!!)
****
الآن أحذّركم مرّة أخرى من أنّ الفيلم يعطي انطباعا بالتشكيك في كلّ شيء.. بما في ذلك الحياة نفسها!!.. فربّما نكون أسرى شبكة معقّدة خفيّة عنّا، وسيأتي من يساعدنا للخروج منها كما حدث مع نيو!
على كلّ حال.. لا أرى هذه نقطة مفزعة.. فمنذ قديم الأزل تراود العقول فكرة أنّ الحياة قد تكون حلما ما نلبث أن نستيقظ منه.. وهي فكرة لا تبتعد كثيرا عن الحقيقة!.. سوى أنّ هذا الحلم له قواعده وله مدته غير المعلومة، ولنا إرادتنا فيه، وعندما نفيق منه سنحاسب على ما فعلناه بهذه الإرادة!
المسمّى ليس مشكلة إذن.. أسمها حلما.. أسمها واقعا افتراضيّا.. أسمها شبكة.. أسمها دنيا.. نحن ما زلنا نتحدّث عن نفس الشيء!
في لحظة فاصلة، سيحضرنا ملك الموت، وسننتبه من سكرتنا على الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنعرف الحقيقة يقينا لا خيال فيه.
ولكن عجبا لابن آدم: لا توجد حقيقة يراها كالحلم البعيد مثل الموت!
***
- "طالما بقيت الشبكة.. لن يتحرّر الجنس البشريّ أبدا؟"
واحدة من الرسائل الخطيرة التي تصدّرها حوارات الفيلم لعقل المشاهد.
إنّ الفيلم يوفّر تربة خصبة لزعزة الثقة في كلّ الثوابت.. ومن ثمّ يسهل أن يثبّت بدلا منها أيّ شيء آخر!
خذ هذا مثلا:
أحد أفراد الفريق الذي يعمل على إفاقة البشر، سئم الحياة الكئيبة في السفينة، والأكل الرديء الذي يأكلونه بها.. وقرّر أن يساعد العملاء الذين يحمون الشبكة للقبض على مورفيوس، مقابل أن يعود هو للشبكة..
وفي هذا يقول للعميل سميث أثناء مقابلته داخل الشبكة:
- تخيّل: أنا أعرف أنّ شريحة اللحم هذه لا وجود لها فعلا!.. أعرف أنّني حين أضعها في فمي، تخبر الشبكة عقلي أنّها شهيّة!!.. بعد تسعة سنوات من معرفتي للحقيقة، أتعرف ماذا أدركت؟
يلتهم قطعة اللحم بتلذّذ مردفا:
أدركت أنّ الجهل نعمة!!
***
خذ هذا أيضا:
عندما ذهب نيو لمقابلة العرافة، شاهد عندها أطفالا يحرّكون الأشياء عن بعد.. أحدهم ثنى ملعقة بمجرّد النظر إليها.. ثمّ أعادها سليمة مرّة أخرى.. قدّمها لنيو قائلا:
- لا تحاول أن تثني الملعقة، فهذا مستحيل.. بدلا من ذلك حاول أن تدرك الحقيقة.
سأله نيو:
- أيّ حقيقة؟
- أنّه لا توجد ملعقة!
- لا توجد ملعقة؟!
- عندئذ سترى أنّ الملعقة ليست هي ما ينثني.. بل أنت!!
هنا استطاع نيو أن يثني الملعقة!
خذ هذا أيضا:
قال سميث لمورفيوس ـ عندما قبض عليه ـ هذا الكلام:
- هل فكّرت أبدا في جمالها (يعني الشبكة).. في روعتها.. في عبقرية تصميمها؟.. بلايين الناس يعيشون حياتهم وهم غافلون.. هل تعلم أنّ أوّل شبكة قد صمّمت لتكون عالما مثاليا لا يعاني فيه البشر، حيث الجميع سعداء؟.. ولكنّها كانت كارثة!.. لم تتقبّل عقول البشر مثل هذا البرنامج، فهلك الكثيرون منهم، لنخسر حقولا كاملة من الطاقة!!.. البعض ظنّ أنّنا نفتقر إلى لغة البرمجة التي تصف عالم البشر.. لكنّي أؤمن أنّ البشر سلالة تعرف واقعها من خلال التعاسة والمعاناة!!.. العالم الكامل كان حلما ظلّ في عقلكم البدائيّ!!.. لهذا تمّ إعادة تصميم الشبكة كما تراها الآن: قمّة حضارتكم!
***
أمّا هذه، فهي أخطر رسائل الفيلم، وبها ينتهي:
يقول نيو مخاطبا كلّ شخص في الشبكة:
- أعرف أنّكم موجودون.. أستطيع أن أشعر بكم الآن.. أعرف أنّكم خائفون.. خائفون منّا.. خائفون من التغيير.. أنا لا أعرف المستقبل.. ولم آت إلى هنا لأخبركم كيف سينتهي هذا.. جئت هنا لأخبركم كيف سيبدأ!.. سأرفع هذه السماعة، وعندها سأجعل هؤلاء الناس يرون ما لا تريدونهم أن يروه!.. سأريهم عالما بدونكم.. عالما بدون قواعد وسيطرة وحدود.. عالما أيّ شيء فيه ممكن!.. ما سيحدث بعد هذا، هو مجرّد اختيار أتركه لكم.
يضع السماعة، ثمّ يقفز عاليا ليحلّق في سماء العالم الوهميّ.. مؤكدا أنّه قد اخترق بالفعل كلّ القيود!
بهذا ينتهي الجزء الأوّل.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق