367
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء السابع والاخير
ذكر فتح تبنين وصيدا وجبيل وبيروت
فأما تبنين فقد ذكرنا إنفاذ صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين فلما وصلها نازلها وأقام عليها فرأى حصرها لا يتم إلا بوصول عمه صلاح الدين إليه فأرسل إليه يعلمه الحال ويحثه على الوصول إليه فرحل ثامن جمادى الأولى ونزل عليه في الحادي عشر منه فحصرها وضايقها وقاتلها بالزحف وهي من القلاع المنيعة على جبل فلما ضاق عليهم الأمر واشتد الحصر أطلقوا من عندهم من أسرى المسلمين وهم يزيدون على مائة رجل فلما دخلوا العسكر أحضرهم صلاح الدين وكساهم وأعطاهم نفقة وسيرهم إلى أهليهم.
وبقي الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم على أنفسهم فسلموها إليه ووفى لهم وسيرهم إلى مأمنهم.
وأما صيدا فإن صلاح الدين لما فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا فاجتاز في طريقه بصرفند فأخذها صفوًا عفوًا بغير قتال وسار عنها إلى صيدا وهي من مدن الساحل المعروفة فلما سمع صاحبها بمسيره نحوه سار عنها وتركها فارغة من مانع ومدافع.
فلما وصلها صلاح الدين تسلمها ساعة وصوله وكان ملكها حادي عشر جمادى الأولى.
وأما بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزهها أطيبها.
فلما فتح صلاح الدين صيدا سار عنها من يومه نحو بيروت ووصل إليها من الغد فرأى أهلها قد صعدوا عل سورها وأظهروا القوة والجلد والعدة وقاتلوا على سورها عدة أيام قتالًا شديدًا واغتروا بحصانة البلد وظنوا أنهم قادرون على حفظه وزحف المسلمون إليهم مرة بعد مرة فبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبة عظيمة وغلبة زائدة فأتاهم من أخبرهم أن البلد قد دخله المسلمون من الناحية الأخرى قهرًا وغلبة فأرسلوا ينظرون ما الخبر وإذا ليس له صحة فأرادوا تسكين من به فلم يمكنهم ذلك لكثرة ما اجتمع فيه من السواد فلما خافوا على أنفسهم من الاختلاف الواقع أرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى من السنة فكان مدة حصرها ثمانية أيام.
وأما جبيل فإن صاحبها كان من جملة الأسى الذين سيروا إلى دمشق مع ملكهم فتحدث مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليم جبيل على شرط إطلاقه فعرف صلاح الدين بذلك فأحضره مقيدًا عنده تحت الاستظهار والاحتياط وكان العسكر حينئذ على بيروت فسلم حصنه وأطلق أسرى المسلمين الذين به وأطلقه صلاح الدين كما شرط له وكان صاحب جبيل هذا من أعيان الفرنج وأصحاب الرأي والمكر والشر به يضرب المثل بينهم وكان للمسلمين منه عدو أزرق وكان إطلاقه من الأسباب الموهنة للمسلمين على ما يأتي بيانه.
لما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور أقام بها وهي أعظم بلاد الساحل حصانة وأشدها امتناعًا على من رامها فلما رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيوت خاف أن يقصد صلاح الدين صور وهي فارغة ممن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها فلا يقوى على حفظها وتركها وسار إلى مدينة طرابلس فبقيت صور شاغرة لا مانع لها ولا عاصم من المسلمين فلو بدأ بها صلاح الدين قبل تبنين وغيرها لأخذها بغير مشقة لكنه استعظمها لحصانتها فأراد أن يفرغ باله مما يجاورها من نواحيها ليسهر أخذها فكان ذلك سبب حفظها وكان أمر الله قدرًا مقدورًا واتفق أن إنسانًا من الفرنج الذين داخل البحر يقال له المركيش لعنه الله خرج في البحر بمال كثير للزيارة والتجارة ولم يشعر بما كان من الفرنج فأرسى بعكا وقد رابه ما رأى من ترك عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرنج وضرب الأجراس وغير ذلك وما رأى أيضًا من زي أهل البلد فوقف ولم يدر ما الخبر وكانت الريح قد ركدت فأرسل الملك الأفضل إليه بعض أصحابه في سفينة يبصر من هو وما يريد فأتاه القاصد فسأله المركيش عن الأخبار لما أنكره فأخبره بكسرة الفرنج وأخذ عكا وغيرها وأعلمه أن صور بيد الفرنج وعسقيلان وغيرها وحكى الأمر له على وجهه فلم يمكنه الحركة لعدم الريح فرد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال فأجيب إلى ذلك فردده مرارًا كل مرة يطلب شيئًا لم يطلبه في المرة الأولى وهو يفعل ذلك انتظارًا لهبوب الهواء ليسير به فبينما هو في مراجعاته إذ هبت الريح فسار نحو صور وسير الملك الأفضل الشواني في طلبه فلم يدركوه فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير لأن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة من عكا وبيوت وغيرهما ما ذكرنا أعطى أهلها الأمان فساروا كلهم إلى صور وكثر الجمع بها إلا أنهم ليس لهم رأس يجمعهم ولا مقدم يقاتل بهم وليسوا أهل حرب وهم عازمون على مراسلة صلاح الدين وطلب الأمان وتسليم البلد إليه فأتاهم المركيش وهم على ذلك العزم فردهم عنه وقوى نفوسهم وضمن لهم حفظ المدينة وبذل ما معه من الأموال وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره فأجابوه إلى ذلك فأخذ أيمانهم عليه وأقام عندهم ودبر أحوالهم وكان من شياطين الإنس حسن التدبير والحفظ وله شجاعة عظيمة وشرع في تحصينها فجدد حفر خنادقها وعمل أسوارها وزاد في حصانتها واتفق من بها على الحفظ والقتال دونها.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق