323
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء السابع والاخير
ذكر عبور صلاح الدين الفرات وملكه ديار الجزيرة
في هذه السنة عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملكها. وسبب ذلك أن مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين وهو مقطع حران كان قد أقطعه إياها عز الدين أتابك المدينة والقلعة ثقة به واعتمادًا عليه أرسل إلى صلاح الدين هو يحاصر بيروت يعلمه بها أنه معه محب لدولته ووعده النصرة له إن عبر الفرات ويطمعه في البلاد ويحثه على الوصول إليها فسار صلاح الدين عن بيروت ورسل مظفر الدين تترى إليه يحثه على المجيء فجد صلاح الدين السير مظهرًا أنه يريد حصر حلب سترًا للحال.
فلما قارب الفرات سار إليه مظفر الدين فعبر الفرات واجمع به وعاد معه فقصد البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من الجانب الجزري وكان صاحبها قد سار مع صلاح الدين وفي طاعته وقد ذكرنا سبب ذلك قبل فعبر هو وعسكره الفرات على الجسر الذي عند البيرة.
وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما وصول صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين ليكونا على أهبة واجتماع لئلا يتعرض صلاح الدين إلى حلب ثم تقدما إلى دارا فنزلا عندها فجاءهما أمر لم يكن في الحساب فلما بلغهما عبور صلاح الدين الفرات عادا إلى الموصل وأرسلا إلى الرها عسكرًا يحميها ويمنعها فلما سمع صلاح الدين ذلك قوي طمعه في البلاد ولما عبر صلاح الدين الفرات كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم وبذل لهم البذول على نصرته فأجابه نور الدين محمد بن قراآرسلان صاحب الحصن إلى ما طلب منه لقاعدة كانت قد استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها ويسلمها إليه وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها فحصرها في جمادى الأولى وقاتلها أشد قتال.
فحدثني بعض من كان بها من الجند انه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقًا وقد خرقته السهام.
ووالى الزحف عليها وكان بها حينئذ مقطعها وهو الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم وطلب الأمان وسلم البلد وصار في خدمة صلاح الدين فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة فسلمها إليه الدزدار الذي بها على مال أخذه فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران ثم سار عنها على حران إلى الرقة فلما وصل إليها كان بها مقطعها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار عنها إلى عز الدين أتابك وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور قرقيسيا وماكسين وعابان فملك جميع ذلك.
فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فملكها أيضًا وأقام بها ليصلح شانها ثم أقطعها أميرًا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين وسار عنه ومعه نور الدين صاحب الحصن.
وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقولون لهم: إذا خربتم الجامع جددنا عمارته وخربنا كل بيعة لكم في بلادنا ولا نمكن أحدًا من عمارتها فتركوه ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود فقال: يخربون قرى ونملك عوضها بلادًا ونعود نعمرها ونقوى على قصد بلادهم ولم يرجع فكان كما قال.
لما ملك صلاح الدين نصيبين جمع أمراءه وأرباب المشورة عنده واستشارهم بأي البلاد يبدأ وأيها يقصد بالموصل أم بسنجار أم بجزيرة ابن عمر فاختلفت آراؤهم فقال له مظفر الدين كوكبري بن زين الدين: لا ينبغي أن يبدأ بغير الموصل فإنها في أيدينا لا مانع لها فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا إليها تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية.
ووافقه ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه وكان قد بذل لصلاح الدين مالًا كثيرًا ليقطعه الموصل إذا ملكها وقد أجابه صلاح الدين إلى ذلك فأشار بهذا الرأي لهواه فسار صلاح الدين إلى الموصل وكان عز الدين صاحبها ومجاهد الدين قد جمعا العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار وبذلا الأموال الكثيرة واخرج مجاهد الدين من ماله كثيرًا واصطلى الأمور بنفسه فأحسن تدبيرها وشحنوا ما بقي بأيديهم من البلاد كالجزيرة وسنجار وإربل وغيرها من البلاد بالرجال والسلاح والأموال.
وسار صلاح الدين حتى قارب الموصل وترك عسكره وانفرد هو ومظفر الدين وابن عمه ناصر الدين بن شيركوه ومعهما نفر من أعيان دولته وقربوا من البلد فلما قربه رآه وحققه فرأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه فإنه رأى بلدًا عظيمًا كبيرًا ورأى السور والفصيل ملئا من الرجال وليس فيه شرافة غلا وعليها رجل يقاتل سوى من عليه من عامة
البلد المتفرجين فلما رأى ذلك علم انه لا يقدر على أخذه وانه يعود خائبًا فقال لناصر الدين ابن عمه: إذا رجعنا إلى المعسكر فاحمل ما بذلت من المال فنحن معك على القول.
فقال ناصر الدين: قد رجعت عما بذلت من المال فإن هذا البلد لا يرام.
فقال له ولمظفر الدين: غررتماني وأطمعتماني في غير مطمع ولو قصدت غيره قبله لكان أسهل أخذًا بالاسم والهيبة التي حصلت لنا ومتى نازلناه وعدنا منه ينكسر ناموسنا ويفل حدنا وشوكتنا.
ثم رجع إلى معسكره وصبح البلد وكان نزوله عليه في رجب فنازله وضايقه ونزل محاذي باب كندة وانزل صاحب الحصن بباب الجسر وانزل أخاه تاج الملوك عند الباب العمادي وانشب القتال فلم يظفر وخرج غليه يومًا بعض العامة فنالوا منه ولم يمكن عز الدين ومجاهد الدين أحدًا من العسكر أن يخرجوا لقتال بل ألزموا الأسوار ثم عن تقي الدين أشار على عمه صلاح الدين بنصب منجنيق فقال: مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق ومتى نصبناه أخذوه ولو خربنا برجًا وبدنة من يقدر على الدخول للبلد وفيه هذا الخلق الكثير فألح تقي الدين وقال: نجربهم به فنصب منجنيقًا فنصب عليه من البلد تسعة مجانيق وخرج جماعة من العامة فأخذوه وجرى عنده قتال كثير فأخذ بعض العامة لألكة من رجليه فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميرًا يقال له جاولي الأسدي مقدم الأسدية وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك ألمًا شديدًا وأخذ اللاكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال: قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها وألقى اللاكة وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بهذه.
ثم إن صلاح الدين رحل من قرب لبلد ونزل متأخرًا خوفًا من البيات فإنه لقربه كان لا يأمن ذلك وكان سببه أيضًا أن مجاهد الدين اخرج في بعض الليالي جماعة من باب السر الذي للقلعة ومعهم المشاعل فكان أحدهم يخرج من الباب وينزل إلى دجلة مما يلي عين الكبريت ويطفئ المشعل فرأى العسكر الناس يخرجون فلو يشكوا في الكبسة فحملهم ذلك على الرحيل والتأخر ليتعذر البيات على أهل الموصل.
وكان صدر الدين شيخ الشيوخ رحمه الله وقد وصل إليه قبل نزوله على الموصل ومعه بشير الخادم وهم من خواص الخليفة الناصر لدين الله في الصلح فأقاما معه على الموصل وترددت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصلح فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم فأجاب صلاح الدين إلى ذلك بشرط أن تسلم إليه حلب فامتنع عز الدين ومجاهد الدين ثم نزل عن ذلك وأجاب إلى تسليم البلاد بشرط أن يتركوا إنجاد صاحب حلب عليه فلم يجيبوه إلى ذلك أيضًا وقال عز الدين: هو أخي وله العهود والمواثيق ولا يسعني نكثها.
ووصلت أيضًا رسل قزل أرسلان صاحب أذربيجان ورسل شاه أرمن صاحب خلاط في المعنى فلم ينتظم أمر ولا تم صلح فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضًا ولا يحصل على غير العناء والتعب وأن من بسنجار من العساكر الموصلية يقطعون طريق من يقصدونه من عساكره وأصحابه سار من الموصل إليها.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق