1245
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> فرانسيس الأول والإصل -> هابسبورج وفالوا
5- هابسبورج وفالوا
1515-1526
لم يكن من المتوقع أن يرضى ملك متقلب مثل هذا بالتخلي عن كل الآمال التي كانت قد أثارت أسلافه إلى ضم ميلان، ونابلي إذا أمكن، ليكونا ذرتين في التاج الفرنسي. وقد قبل لويس الثاني عشر الحدود الطبيعية لفرنسا - أي أنه اعترف للألب بالسيادة. وسحب فرانسيس الاعتراف وتحدى حق الدوق مكسمليان سوفورزا في ميلان. وفي غضون المفاوضات التي دارت بينهما بضعة شهور حشد قوة هائلة وجهزها، وفي أغسطس عام 1515 سار على رأسها وسلك طريقاً جديداً محفوفاً بالمخاطر - واقتحم طريقه عبر جبال صخرية - فوق الألب وانحدر منها إلى إيطاليا - والتقى الفرسان والمشاة الفرنسيون في مارينيانو على مسيرة تسعة أميال من ميلان، بجنود سوفورزا من السويسريين المرتزقة، واستمر بينهما القتال يومين (13-14 سبتمبر سنة 1515) حدث فيهما مقتلة كبيرة لم تعرفها إيطاليا منذ الغزوات البربرية، وتركت جثث 10.000 رجل مطروحة على الأرض. وخيل في فترة ما أن الفرنسيين قد هزموا وعندئذ اندفع الملك إلى الأمام وهاجم ونظم صفوف جنوده وجعل من نفسه مثالاً للجرأة. وجرى العرف أن يكافئ الحاكم المنتصر مَن يظهرون شجاعة خاصة بتنصيب طبقة جديدة من الفرسان في الميدان، ولكن فرانسيس قبل أن يفعل هذا أقدم على حركة لها مغزاها لم يسبقه إليها أحد. فقد ركع أمام بيير، سنيور دي بايار، وطلب تنصيبه فارساً على يد الفرس المشهور، الذي لم يتطرق إليه الخوف، ولم يوجه إليه اللوم، فاحتج بايار بأن الملك، بحكم
وظيفته، فارس الفرسان ولا حاجة به إلى تشريف إلا أن الملك الشاب، كان لا يزال في الحادية والعشرين من عمره، أصر على ذلك ومضى بايار يقوم بالمراسيم التقليدية بجلال، ثم طرح سيفه وهو يهتف "لا شك يا سيفي العزيز أنك سوف تحفظ كأي أثر، وتنال من التشريف فوق ما تناله السيوف الأخرى جميعاً، لأنك في هذا اليوم أضيفت على ملك وسيم قوي صفة الفروسية، وإني لن أحملك قط بعد ذلك إلا لمحاربة الأتراك والمغاربة والعرب(51"). ودخل فرانسيس بصفته صاحبها وبعث بدوقها المعزول إلى فرنسا وخصص له مرتباً مجزياً واستولى أيضاً على بارما وبياتشنزا ووقع مع ليو العاشر، في احتفالات رائعة في بولونيا، معاهدة واتفاقية يخولان البابا والملك على السواء أن يدعيا الحصول على نصر دبلوماسي.
وعاد فرانسيس إلى فرنسا معبودا لمواطنيه بل ولأوروبا تقريباً، فقد سحر جنوده بمشاطرته إياهم ما لاقوه من مشاق وتفوقه عليهم في الشجاعة، وعلى الرغم من أنه في غمرات انتصاره قد انغمس في التيه بنفسه، فإنه خفف من غلوائه، بالثقة بآخرين وتلطيف حدة كل أنانية بكلمات الثناء والتمجيد. وارتكب وهو ثمل بالشهرة أكبر خطأ في حياته. ذلك أنه رشح نفسه للتاج الإمبراطوري. وانزعج، وهو على حق، باحتمال أن يصبح شارل الأول، ملك أسبانيا ونابلي وكونت الفلاندرز وهو هولندة على رأس الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة - بكل تلك المطالب في لومباردي ومن ثم ميلان، التي غزا مكسمليان من أجلها إيطاليا مراراً، وسوف تكون فرنسا، في نطاق إمبراطورية جديدة مثل هذه، محاطة بأعداء لا يقهرون في الظاهر.
وقدم فرانسيس الرشا، وخسر أمام شارل الذي قدم من الرشا أكثر منه وفاز (1519)، وبدأت المنافسة المريرة التي جعلت غربي أوروبا يعج بالاضطرابات إلى ما قبل وفاة الملك بثلاث سنوات.
ولم يعدم شارل وفرانسيس من الأسباب ما يدعو إلى تبادل العداء، فقد زعم شارل، حتى قبل أن يصبح إمبراطوراً أن له الحق في أن يطالب بورغنديا لأنه حفيد ماري ابنة شارل الجسور، وأبى أن يعترف باتحاد بورغنديا مع التاج الفرنسي. وكانت ميلان من الوجهة الرسمية إقطاعية في الإمبراطوريّة، واستمر شارل في فرض الاحتلال الإسباني لنافار، وأصر فرانسيس على أن تعود إلى هنري دلبريه. وطرحت بواعث الحرب هذا السؤال العويص: مَن هو سيد أوروبا: شارل أم فرانسيس؟ وأجاب الأتراك بل سليمان.
ووجه فرانسيس الضربة الأولى، فعندما لاحظ أن شارل مشغول بثورة سياسية في أسبانيا وثورة دينية في ألمانيا أرسل جيشاً عبر جبال البرانس للاستيلاء على نافار من جديد، فهزم في حملة أهم حادث فيها هو إصابة أجناسيوس لويولا بجرح (1521). وانطلق جيش آخر جنوباً للدفاع عن ميلان، وتمرد الجند بسبب عدم دفع المرتبات، وهزمتهم الجنود الإمبراطوريّة المرتزقة هزيمة منكرة في لابيكوكا، وسارعت ميلان ترتمي في أحضان شارل الخامس (1522) وانطلق قائد الجيوش الفرنسية لمقابلة الإمبراطور لكي يتغلب على هذه الحوادث.
وكان شارل، دوق أف بورمبون رأس أسرة قوية قدر لها أن تحكم فرنسا من عام 1589 إلى عام 1792. وكان أغنى رجل في البلاد بعد الملك وبين تابعيه 500 نبيل، وكان آخر البارونات العظام الذين يستطيعون أن يتحدوا ملك الدولة المتمركزة وقتذاك. وقدم لفرانسيس خدمة جليلة في الحرب، وقاتل بشجاعة في مارنينيانو، أما في الحكم فلم يخدمه بهذا القدر إذ دفع أهالي ميلان إلى النفور منه بسبب حكمه الجائر، ولما وجد أن الملك لم يزوده بالأموال الكافية 100.000 من ماله الخاص، وهو يتوقع أن تسدد له، ولكنه لم يتسلم شيئاً. وكان فرانسيس ينظر بعين الارتياب والحسد إلى هذا القيل الذي يوشك أن يكون ملكاً، فاستدعاه
من ميلان ووجه إليه إهانات حمقاء أو مقصودة تسببت في أن يكون بوربون خصمه اللدود، وكان الدوق قد تزوج سوزان أميرة بوربون التي أوصت أمها بأن تعود ضياعها الشاسعة إلى التاج إذا ماتت سوزان دون أن تعقب ذرية. وماتت سوزان (عام 1521) ولكن بعد أن حررت وصية تركت فيها كل أملاكها لزوجها. وطالب فرانسيس وأمه بالأملاك باعتبارهما أقرب سليلين لدوق بوربون السابق. وعارض شارل هذا الادعاء وأصدر المجلس النيابي في باريس قراراً ضده. واقترح فرانسيس عقد صلح بمقتضاه يكون للدوق الحق في ربع الأملاك حتى وفاته؛ بيد أنه رفض الاقتراح. وعرضت لويز، وكانت وقتذاك في الحادية والخمسين على الدوق البالغ من العمر واحداً وثلاثين عاماً أن يتزوجها مع صك ملكية صريح بالأملاك كبائنة لها، فرفض. وقدم له شارل الخامس عرضاً يبز العرض السابق: هو أن يزود شقيقته اليونورا وأن يؤيد مطالبه تأييداً كاملاً بجنود الإمبراطوريّة، وقبل الدوق وفر ليلاً عبر الحدود، وعين قائداً برتبة لفتنانت جنرال للجيش الإمبراطوري في إيطاليا (1523).
وأنفذ فرانسيس ضده لونيفيه. وأثبت عشيق مرجريت أنه غير كفء وسحق الدوق جيشه في رومانيانو، وفي اثناء تقهقر الجيش أصيب الشيفاليه دي بابار، قائد حرس المؤخرة الخطيرة بجرح قاتل بطلقة من سلاح ناري (30 أبريل سنة 1524) ووجده بوربون الظافر يحتضر تحت شجرة، فقدم له بعض عبارات الثناء على سبيل المواساة فرد عليه بايار "مولاي إني أستحق الرثاء، أنا أموت بعد أن أديت واجبي، ولكني أرثي لك إذ أراك تعمل ضد مليكك وبلدك وتحنث بقسمك(52)". وتأثر الدوق ولكنه كان قد أحرق خلفه كل الجسور وعقد اتفاقاً مع شارل الخامس وهنري الثامن ينص على أن يقوم الثلاثة بغزو فرنسا في آن واحد، وأن يتغلبوا على كل القوات الفرنسية، ويقسموا البلاد بينهم. وكان نصيب الدوق من الصفقة أن يدخل
بروفالس، ويأخذ إكس ويضرب حصاراً على مرسيليا، ولكن حملته كانت تفتقر إلى المؤن وقوبلت بمقاومة عنيفة غير متوقعة وانهارت فتراجع إلى إيطاليا (سبتمبر سنة 1524).
ورأى فرانسيس أن من الحكمة أن يطارده، ويستولي من جديد على ميلان وأشار عليه بونيفيه، وهو أحمق حتى النهاية، بأن يستولي أولاً على بافيا ثم بنقض على ميلان من الجنوب، فوافق الملك وضرب عليها الحصار (26 أغسطس سنة 1524)، ولكن الدفاع هناك أيضاً كان أقوى من الهجوم، وظل الجيش الفرنسي محجوزاً عند الخليج أربعة اشهر، وفي غضونها جمع بوربون وشارل أمير لانوي (نائب الملك في نابلي) والمركيز دي بسكارا (زوج فتوريا كولونا) جيشاً جديداً قوامه 27.000 رجل. وفجأة ظهرت هذه القوة خلف الفرنسيين. وفي اليوم نفسه (24 فبراير سنة 1525) وجد فرانسيس قواته يهاجمها هذا الحشد غير المتوقع من جانب، وقوات المحاصرين في بافيا من جانب آخر. وحارب كالعادة في طليعة المشتبكين، وقتل بسيفه الكثيرين من الأعداء، حتى ظن أن النصر قد تحقق، ولكنه ضحى بقيادته العسكرية في سبيل إظهار شجاعته، وكانت قواته موزعة توزيعاً سيئاً، ومشاته يسيرون بين مدفعيته والعدو، وبهذا جعلوا المدفعية الفرنسية المتفوقة عديمة الجدوى. وتفشى الاضطراب في صفوف الفرنسيين، وفر دوق النسون، وسحب معه حرس المؤخرة، وصاح فرانسيس في جيشه الذي دبت فيه الفوضى أن يسير وراءه إلى ساحة القتال، ولكن لم يرافقه إلا أعظم نبلائه شهامة. وأعقب هذا مذبحة في الفرسان الفرنسيين، وأصيب فرانسيس بجروح في وجهه وذراعيه وساقيه، ولكنه ظل يضرب بلا كلل، وتهاوى فرسه تحته ومع ذلك ظل يقاتل. وسقط فرسانه المخلصون واحداً إثر الآخر إلى أن ترك وحيداً، وأحدق به جنود الأعداء، وكان على وشك أن يلقى مصرعه، عندما تعرف عليه
ضابط فأنقذه واقتاده إلى لانوي، الذي تقبل سيفه، وهو يقوم بانحناءات خفيفة للدلالة على الاحترام.
واعتقل الملك في قلعة بيزيجيتون بالقرب من كريمونا، حيث سمح له بأن يرسل إلى أمه التي كانت تحكم فرنسا أثناء غيابه رسالته التي كثيراً ما نقلت كما هي، وكثيراً ما نقلت محرفة:
"إلى نائبة الملك في فرنسا: سيدتي، بودي أن تعرفي مدى معاندة البقية الباقية من سوء حظي. لم يبقَ لي في لعالم سوى الشرف وحياتي التي أنقذت، ولكي تحمل إليكِ هذه الأنباء، وأنتِ في بؤسكِ، القليل من العزاء، توسلت إليهم أن يسمحوا لي بكتابة هذه الرسالة إليكِ... وأنا أتوسل إليكِ ألا تقدمي على أي عمل طائش، وأنتِ تباشرين ما عرفت به من فطنة معتادة، لأني أرجو، بعد كل شيء ألا يتخلى عني الله(53)".
وبعث برسالة مماثلة إلى مرجريت التي ردت على الخطابين:
"مولاي: إن الفرحة التي مازلنا نشعر بها عندما تلقينا خطابيك الكريمين، اللذين أسعدك أن تكتبهما لي ولأمك، تجعلنا نحس بالسعادة لاطمئناننا على صحتك التي تتوقف عليها حياتنا، ويخيل إلي أننا ينبغي ألا نفكر في شيء سوى أن نحمد الله وأن نتوق إلى أن تصلنا باستمرار أنباؤك الطيبة، وهي خير زاد نستطيع أن نعيش عليه. وبما أن الخالق قد من علينا بأن يبقى ثالوثنا متحداً أبداً فإن الاثنين الآخرين يتوسلان إليك أن تتقبل هذا الخطاب، عندما يقدم إليك، وأنت الثالث، بنفس المودة القلبية التي تقدمها إليك خادمتاك المتواضعتان المطيعتان والدتك وشقيقتك".
لويز، مرجريت(54).
وكتب فرانسيس إلى الإمبراطور في مدريد رسالة جد متواضعة يقول له فيها "إذا كان يسرك أن ينطوي قلبك على قدر قليل من العطف، فتأخذ على عاتقك مهمة إنقاذ حياة ملك فرنسا الأسير إنقاذاً يستحقه عن
جدارة... ففي وسعك أن تكون على ثقة من الحصول على كسب بدلاً من أسير لا نفع منه، وبهذا تجعل ملك فرنسا عبدك إلى الأبد"، ولم يكن فرانسيس قد تدرب على احتمال المأساة(55).
وتلقى شارل أنباء انتصاره بهدوء ورفض أن يحتفل به، كما اقترح كثيرون في مهرجان رائع. وانسحب إلى مخدعه (كما يقال لنا) وركع يصلي. وأرسل إلى فرانسيس ولويز ما خيل له أنها شروط معتدلة لتحقيق السلام وتحرير الملك:
(1) على فرانسيس أن يتخلى عن بورغنديا وأن يتنازل عن كل مطالبه في الفلاندرز وأرتوا وإيطاليا.
(2) يجب تسليم الدوق بوربون كل الأراضي والمناصب التي يطالب لها.
(3) يجب منح الاستقلال لكل من بروفانس ودوفيني.
(4) يجب أن تعيد فرنسا إلى إنجلترا كل الأراضي الفرنسية التي كانت تابعة فيما سبق لبريطانيا - أي نورماندي وأنجو وغسقونيا وجين.
(5) على فرانسيس أن يوقع حلفاً مع الإمبراطور وينضم إليه في حملة توجه ضد الأتراك.
فأجابت لويز بأن فرنسا لن تتنازل عن قيراط واحد من الأراضي، وأنها مستعدة للدفاع عن نفسها حتى آخر رجل. وتصرف نائبة الملك وقتذاك بقوة وعزم وذكاء مما حمل شعب فرنسا على أن يصفح عن أخطائها التي ركبت فيها رأسها. وعملت في الحال على تنظيم وإعداد جيوش جديدة وأقامتها لحراسة كل المراكز المحتمل أن تتعرض للغز ولكي تصرف ذهن الإمبراطور عن فرنسا حثت سليمان عاهل تركيا على أرجاء هجومه
على بلاد الفرس وأن يقوم بدلاً من ذلك بحملة تتجه غرباً، ولا نعرف الدور الذي لعبه توسلها في القرار الذي اتخذه السلطان، ولكنه زحف عام 1526 إلى هنغاريا وألحق هزيمة منكرة بجيش المسيحيين في موهاكس، بلغت من الشدة حداً جعل قيام شارل بأي غزو لفرنسا بمثابة خيانة للعالم المسيحي. وفي الوقت نفسه أوضحت لويز لهنري الثامن وكليمنت السابع أن إنجلترا والبابوية على السواء سوف تنحدران إلى مرتبة العبودية إذا سمح للإمبراطور بالحصول على كل الأراضي التي طلبها. وتردد هنري فألحت لويز وعرضت عليه تعويضاً قدره 2.000.000 كراون فوقع حلفاً دفاعياً هجومياً مع فرنسا (30 أغسطس سنة 1525) وفتحت هذه الدبلوماسية الأنثوية عيون الرجال وحطمت ثقة شارل بنفسه.
ونقل الملك الأسير إلى أسبانيا بمقتضى اتفاقية بين لويز ولانوي والامبراطور، وعندما وصل فرانسيس إلى بلنسية (2 يوليو سنة 1525) بعث إليه شارل برسالة رقيقة، ولكن معاملته لأسيره لم ترتفع إلى مقام الفروسية. وخصصت لفرانسيس غرفة ضيقة في قلعة قديمة في مدريد ووضعت عليه حراسة مشددة، وكانت الحرية الوحيدة التي منحت له هي أن يمتطي ظهر بغل بالقرب من القلعة تحت رقابة حراس مسلحين راكبين، وطلب مقابلة شارل ولكن شارل أجل هذه المقابلة وسمح بسجن فرانسيس أسبوعين سجناً أثار قلقه وغيظه، حتى يخضع فرانسيس لدفع ثمن باهظ مقال الحصول على حريته. وعرضت لويز أن تقابل الإمبراطور وتتفاوض معه ولكنه رأى من الأفضل أن يلعب على سجينه بدلاً من أن يتعرض لفتنة امرأة تجعله يجنح إلى التساهل. فأبلغته بأن ابنتها مرجريت، وهي أرملة وقتذاك سوف يسعدها أن تجدها جلالته الإمبراطوريّة، مناسبة له، ولكنه آثر عليها إزابلا أميرة البرتغال، بصداقها البالغ قدره 900.000 كراون. فهي تستطيع
ان تزوده في الحال بالمخدع والمأوى، وبعد أن أمضى فرانسيس شهرين في سجنه يتلهف فيه على حريته سقط صريع مرض خطير. وانطلق الأسبان إلى كنائسهم يصلون من أجل الملك الفرنسي آسفين لقسوة الإمبراطور. وصلى شارل أيضاً، لأن الملك إذا مات فلن يكون له أهمية كرهينة سياسية، وزار فرانسيس زيارة قصيرة ووعده بقرب إطلاق سراحه وبعث لمرجريت يأذن لها بالحضور ومواساة أخيها.
وسافرت مرجريت بحراً من ايجسمورت (27 أغسطس سنة 1525) إلى برشلونه وهناك حملت في هودج بطيء ملتوٍ اخترق بها نصف طول أسبانيا إلى مدريد، ووجدت السلوى في قرض الشعر وبعث رسائل حارة متميزة إلى الملك، وقالت "مهما يطلب مني، حتى ولو كان أن أنثر رماد عظامي في مهب الريح لأؤدي لك خدمة، فليس فيه أمر غريب أو صعب أو شاق بالنسبة لي، وحسبي أن أجد فيه السلوى والراحة والطمأنينة والشرف(56)". وعندما وصلت بعد لأي إلى مخدع أخيها وجدته يتعافى بشكل ملموس، بيد أنه أصيب بنكسة يوم 25 سبتمبر ودخل في غيبوبة، وخيل لمن حوله أنه يحتضر. وركعت مرجريت هي والأسرة يصلون، وناوله أحد القساوسة القربان المقدس. وتلت هذا فترة نقاهة مضنية. ولبثت مرجريت شهراً مع فرانسيس ثم انطلقت إلى طليطلة لتطلب من الإمبراطور الرحمة، فتلقى توسلاتها بفتور، وكان قد علم بحلف هنري مع فرنسا وتلهف على معاقبة حليفه الأخير على ريائه ولويز على جرأتها.
ولم تبقَ في يد فرانسيس إلا ورقة واحدة يلعب بها، ولو أن من المحقق أو يكاد أنها قد تعني سجنه مدى الحياة، وبعد أن أنذر شقيقته بمغادرة أسبانيا بأسرع ما يمكن وقع (نوفمبر سنة 1525) خطاباً رسمياً أعلن فيه تنازله عن العرش لابنه الأكبر، ولما كان فرانسيس الثاني هذا صبياً لا يتجاوز
عمره ثماني سنوات، فقد عين لويز - وتحل محلها في حالة وفاتها - مرجريت وصية على عرش فرنسا، وأدرك شارل في الحال أن ملكاً بلا مملكة، لا يملك شيئاً يتنازل عنه، لا فائدة ترجى منه، بيد أن جلد فرانسيس من الناحية البدنية كان أقوى من شجاعته المعنوية، ففي يوم 14 يناير سنة 1526 وقع مع شارل معاهدة مدريد وكانت شروطها في جوهرها هي بعينها التي عرضها الإمبراطور على لويز، بل كانت أقسى منها، لأنها اقتضت أم يسلم أكبر ابنين للملك إلى شارل رهينتين لضمان تنفيذ الاتفاقية بإخلاص، وفضلاً عن هذا فإن فرانسيس وافق على أن يتزوج إليونورا شقيقة الإمبراطور ملكة البرتغال الأرملة، وأقسم على أنه سيرجع إلى أسبانيا ليعود للسجن إذا لم ينفذ بنود المعاهدة(57). ومهما يكن من شيء فإنه أودع في يوم 22 أغسطس سنة 1525 مع مساعديه وثيقة رسمية تلغي مقدماً جميع العهود والاتفاقيات والتنازلات والمخالصات وكل إلغاء وانتقاص وقسم يمكن أن يتعارض مع شرفه وصالح تاجه. وفي عشية توقيع المعاهدة ردد هذه العبارة للمفاوضين معه من الفرنسيين وأعلن أنه وقع بطريق الإكراه، والقسر والاعتقال وطول السجن، وأن كل ما تضمنته الوثيقة كان، ويجب أن يظل باطلاً ولا أثر له(58).
وفي يوم 17 مارس 1526 سلم نائب الملك لانوي وفرانسيس إلى المارشال لوتريك على ظهر نقالة مليئة في نهر بيداسوا، الذي يفصل إيرون الأسبانيّة عن هنداي الفرنسية، وتسلم لانوي بدلاً منه الأميرين فرانسيس وهنري. ومنحهما أبوهما بركة ودمعة، وهرع إلى الأرض الفرنسية. وهناك قفز على ظهر جواد وصاح في ابتهاج "ها أنذا ملك من جديد؟" وركب إلى بايون حيث كانت لويز ومرجريت في انتظاره وأمضى في بوردو وكونياك ثلاثة شهور قضاها في اللهو والرياضة ليسترد صحته وشغل نفسه بحب صغير. ولم لا؟ ألم يعش عاماً عيشة الرهبان؟ وكانت لويز التي
اشتجر النزاع بينها وبين الكونتيسة دي شاتوبريان قد أحضرت معها وصيفة شرف جميلة شقراء الشعر، تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً هي آن دي هيلي دي بسسليو التي أصابت بسهامها، كما كان مقدراً، عيني الملك الجائعتين، فتودد إليها في اندفاع، وسرعان ما ظفر بها حظية له. وشاركت الحظية الجديدة منذ تلك اللحظة إلى أن فرقهما الممات لويز ومرجريت قلب الملك. وتحملت في صبر زواجه بإليونورا وعلاقاته غير الشرعية العارضة. ومنحها لإنقاذ المظاهر زوجاً هو جين دي بروس، وأنعم عليه بلقب دوق كما أنعم عليها بلقب دوقة ديتامب، وابتسم في إعتزاز عندما انسحب جين إلى ضيعة نائية في بريتاني.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق