1335
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> البابوات والمجتمع -> الرقابة ومحكمة التفت
2- الرقابة ومحكمة التفتيش
وهذا البابا الحديدي هو الذي بلغت رقابة المطبوعات في عهده غاية الصرامة واتساع المدى، وأصبحت محكمة التفتيش ضرباً من الإرهاب كادت تبلغ وحشيته في روما ما بلغته في أسبانيا. ولعل بولس الرابع شعر بأن رقابة المطبوعات وقمع الهرطقة واجبان لا مندوحة عنهما لكنيسة أجمع الرأي البروتستنتي والكاثوليكي على أن مؤسسها هو ابن الله. لأنه إذا كانت الكنيسة من الله، فخصومها إذن لا بد عملاء للشيطان، والحرب الدائمة على هؤلاء الشياطين التزام ديني قِبل إله مهان.
والرقابة قديمة قدم الكنيسة نفسها تقريباً. فالمسيحيون في أفسس أحرقوا في عصر الرسل كتباً في "فنون غريبة" قيل إن قيمتها بلغت "50.000 قطعة من الفضة(22)"، وحرم مجمع أفسس (150) تداول "أعمال بولس"(23) غير القانونية. وفي فترات مختلفة أمر البابوات بحرق التلمود أو غيره من كتب اليهود. وحظرت ترجمة ويكليف وما تلاها من الترجمات البروتستنتية للكتاب المقدس لاحتوائها مقدمات وهوامش وتصحيحات معرضة للكاثوليكية. وزاد اختراع الطباعة من حرص الكنيسة على ألا تفسد أبناءها التعاليم الباطلة. فأمر مجمع اللاتيران الخامس (1516) بألا تطبع بعده كتب دون أن تفحصها الكنيسة وتوافق عليها. وأصدرت السلطات الزمنية بيانات بمحظوراتها من المطبوعات غير المرخصة: مجلس شيوخ البندقية في 1508، ومجلس نواب فورمز ومراسيم شارل الخامس وفرانسوا الأول في 1521، وبرلمان باريس في 1542. وفي 1543 وسع شارل الرقابة الكنسية على المطبوعات فشملت أمريكا الأسبانية. وفي عام 1544 نشرت السوربون أول فهرس عام بالكتب المحرمة، ونشرت محكمة التفتيش أول قائمة إيطالية في عام 1545.
وفي عام 1559 نشر بولس الرابع أول فهرس بابوي بالكتب المحظورة، وقد ورد فيه ثمان وأربعون طبعة مهرطقة للكتاب المقدس، وأوقع الحرم على واحد وستين طابعاً وناشراً(24). وقد فرض على كل كاثوليكي الامتناع عن قراءة أي كتاب نشر منذ سنة 1519 دون أن يحمل اسمي المؤلف والطابع ومكان النشر وتاريخه، وحرمت قراءة أي كتاب بعد ذلك لم يحصل على إذن كنسي "impramtur" بطبعه. وشكا باعة الكتب وطلاب العلم من أن هذه الإجراءات معطلة لهم أو قاضية عليهم، ولكن بولس أصر على الطاعة التامة. وأحرقت آلاف الكتب في روما وبولونيا ونابلي وميلان وفلورنسة والبندقية-10.000 في البندقية في يوم واحد(25). وبعد موت بولس انتقد نفر من قادة الكنيسة إجراءاته لما فيها من مغالاة في العنف وعدم التمييز، ورفض مجمع ترنت فهرسه، وأصدر تحريماً أكثر تنظيماً، هو "الفهرس الثلاثي" (1564). وشكلت لجنة خاصة للفهرس في 1571 لمراجعة القائمة وإعادة نشرها بصفة دورية.
ومن العسير الحكم على أثر هذه الرقابة. وعند باولو ساربي، وكان راهباً سابقاً، ومعارضاً للأكليروس، أن الفهرس "هو أبدع سر كشف إلى الآن... لفرض البلاهة على الناس(26)". ولعله شارك في إحداث اضمحلال إيطاليا الفكري بعد عام 1600، واضمحلال أسبانيا بعد عام 1700، ولكن العوامل الاقتصادية والسياسية كانت أهم. والفكر الحر، كما يقول أقوى مؤرخ إنجليزي له، عاش في الدول الكاثوليكية خيراً مما عاش في الدول البروتستنتية، وتبين حتى عام 1750 أن الحكم المطلق للكتب المقدسة الذي فرضه اللاهوتيون البروتستنت أشد إيذاء للبحث والتفكير المستقلين من فهارس الكنيسة ومحكمة تفتيشها(27). أياً كان الأمر فإن الحركة الإنسانية ذبلت، في الدول الكاثوليكية والبروتستنتية على السواء. وخف التأكيد على الحياة في الأدب، واضمحلت دراسة اليونانية ومحبة الآداب
الوثنية، ورمى اللاهوتيون المنتصرون الإنسانيين الإيطاليين (ولهم بعض العذر في هذا) بأنهم كفرة متغطرسون فاسقون.
ونفذت الرقابة على الكتب في تراخ حتى وكلها بولس الرابع إلى محكمة التفتيش (1555). وكانت هذه المؤسسة التي أنشئت أولاً عام 1217 قد انتكست سلطتها وسمعتها نتيجة لتساهل بابوات النهضة. ولكن حين أخفقت آخر محاولة للمصالحة مع البروتستنت في راتسبون، وظهرت التعاليم البروتستنتية في إيطاليا ذاتها، حتى بين رجال الأكليروس، وخيف أن تتحول مدن بأسرها مثل لوكا ومودينا إلى البروتستنتية(28) اشترك الكردينال جوفاني كارافا، وإجناتيوس لويولا، وشارل الخامس في الإلحاح على إعادة محكمة التفتيش. وأذعن بولس الثالث (1542)، وعين كارافا وخمسة كرادلة آخرين لإعادة تنظيم المؤسسة، وخول لهم سلطة تفويض كنسيين خاصين في أرجاء العالم المسيحي، وشرع كارافا في التنفيذ بما عهد فيه من صرامة، وأنشأ مقراً للمحكمة وسجناً، ووضع هذه القواعد لمرءوسيه:
1- حين يكون الإيمان موضع شك يجب ألا يكون هناك أي تأجيل، ولابد من اتخاذ الإجراءات الصارمة بكل سرعة إذا قامت أقل شبهة.
2- يجب ألا يكون هناك أي اعتبار لأي أمير أو حبر مهما علا منصبه.
3- الصرامة المتناهية أولى أن تستعمل مع أولئك الذين يحاولون الاحتماء بأي حاكم. ولا يعامل بالرفق والعطف الأبوي إلا من اعترف اعترافاً كاملاً.
4- يجب ألا يحط إنسان من قدره بإبداء التسامح نحو المهرطقين أياً كان نوعهم، ونحو الكالفنبين على الأخص(29).
فأما بولس الثالث ومارتشيللوس الثاني فقد قيدا حماسة كارافا، واحتفظا بحق العفو عند الاستئناف. وأما يوليوس الثالث فكان أهن من أن يتدخل في عمل كارافا، فأحرق في عهده نفر من المهرطقين في روما.
وفي عام 1550 أمرت محكمة التفتيش الجديدة بمحاكمة أي كاهن كاثوليكي لا يعظ ضد البروتستنتية. فلما ارتقى كارافا نفسه عرش البابوية باسم بولس الرابع، انطلقت المؤسسة إلى العمل بكل طاقتها، "واكتسبت المحكمة بفضل صرامته الخارقة سمعة واسعة، بحيث لم يكن هناك كرسي قضاء آخر في الأرض يتوقع الناس منه إصدار أحكام أشد بشاعة وإرهاباً" على حد قول الكردينال سيريباندو(30). ووسع اختصاص محكم التفتيش حتى شمل التجديف والمتاجرة بالرتب الكهنوتية (السيمونية)، واللواط، والزواج المتعدد، وهتك العرض، والقوادة، وانتهاك نظم الكنيسة في الصوم، وغير هذه من الذنوب التي لا تمت للهرطقة بسبب. ونحن نسوق أيضاً هذه الفقرة من كلام مؤرخ كاثوليكي عظيم:
"كان البابا العجول السريع التصديق يعير أذناً صاغية لكل اتهام ولو كان شديد السخف... وكان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة... وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم... وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف"(31).
وفي قمة هذا العنف (31 مايو 1557) أمر بولس بالقبض على الكردينال جوفاني موروني، أسقف مودينا، وفي 14 يونيو أمر الكردينال بولي بأن يتخلى عن سلطة الممثل البابوي في إنجلترا ويحضر إلى روما ليواجه محاكمته بتهمة الهرطقة. وقال البابا إن مجمع الكرادلة نفسه سرت إليه دعوى الهرطقة. أما بولي فقد بسطت عليه الملكة ماري حمايتها ومنعت تسليم الاستدعاء البابوي له. وأما موروني فقد اتهم بأنه وقع اتفاق راتسبون حول عقيدة التبرير بالإيمان، وبأنه تهاون مع المهرطقين الداخلين في
نطاق سلطته، وبأنه كان صديقاً لبولي، وفتوريا كولونا، وفلامينيو، وغيرهم من الشخصيات الخطرة، وبعد أن قضى ثمانية عشر يوماً سجيناً في قلعة سانت أنجيلو أصدر قضاة التفتيش حكمهم ببراءته، وأمروا بالإفراج عنه، ولكنه أبى أن يبرح زنزانته حتى يقر بولس ببراءته. ولكن بولس رفض، فظل موروني سجيناً حتى أطلقه موت البابا. وأما فلامينيو فقد فوت على محكمة التفتيش غرضها بموته، "ولكننا أحرقنا أخاه شيزاري في الميدان المواجه لكنيسة المينرفا"(32)، كما قال بولس. وراح الحبر المجنون يطارد أقرباءه هو بشبهات الهرطقة في عناد لا يعرف التحيز. قال "لو أن أبي ذاته كان مهرطقاً لجمعت الحطب لحرقه"(33).
كان بولس لحسن الحظ بشراً نهايته الموت، فمضى لحسابه. بعد أربع سنوات من الحكم. واحتفلت روما بموته بأربعة أيام من الشغب المرح، حطمت خلالها الجماهير تمثاله، وجرته في الشوارع، ثم أغرقته في نهر تيير، وأحرقت مباني محكمة التفتيش، وأطلقت سجناءها، وأتلفت وثائقها(34). ولعلع البابا كان يرد على هذا بأنه ما كان في استطاعة رجل أن يصلح أخلاق روما ومفاسد الكنيسة إلا إذا أوتي صرامته وشجاعته اللتين لا هوادة فيهما، وأنه وفق في هذه المغامرة بينما أخفق أسلافه. ومن أسف أنه في محاولته إصلاح الكنيسة تذكر توركويمادا ونسي المسيح.
وتنفس غرب أوربا كله الصعداء حين اختار مجمع الكرادلة سنة 1559 جوفاني أنجيلو دي مديتشي حبراً أعظم باسم البابا بيوس الرابع. لم يكن مليونيراً مديتشياً، بل ابن جاب للضرائب ميلاني، اشتغل بالمحاماة ليكسب قوته، وظفر بإعجاب بولس الثالث وثقته، فعين كردينالاً، واشتهر بالذكاء والميل إلى أعمال البر، فلما ارتقى عرش البابوية ابتعد عن الحرب ووبخ أولئك الذين كانوا يشيرون بالسياسات العدوانية، ولم يقض على محكمة التفتيش، ولكنه أشعر قضاتها بأنهم
"يسرونه أكثر لو باشروا عملهم بلطف السادة المهذبين لا بجلافة الرهبان"(35). وأراد اغتياله متعصب حسبه مفرطاً في اللين، ولكنه شل رهبةً حين مر به البابا هادئاً مجرداً من أسباب الدفاع. وقد برهن على ما أوتي من روح المصالحة إذ سمح لأساقفة ألمانيا الكاثوليك بمناولة سر القربان بالخبز والخمر كليهما. وأعاد عقد مجتمع ترنت، وقاده إلى خاتمة اتسمت بالنظام، ثم فارق الحياة عان 1565 بعد رياسة دعمت في هدوء حركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق