1283
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> عبقرية الإسلام -> الأدب الإسلامي
6- الأدب الإسلامي
1400-1520
نظم سليم العبوس نفسه قصائد من الشعر المقفى، وورث ابنه سليمان القانوني ديواناً ملكياً ضم قصائده المجموعة، مثل ما ورثه إمبراطورية تمتد من الفرات إلى الدانوب والنيل، وإنك لترى أثنى عشر من السلاطين وكثيراً من الأمراء، من بينهم الأمير جم الذي أجزل أخوه بايزيد الثاني العطاء لملوك المسيحية وبابواتها ليحتجزوا الأمير في معتقل لائق، نقول إنك لترى هؤلاء السلاطين والأمراء بين 2200 شاعر عثماني طبقت شهرتهم الآفاق في القرون الستة الأخيرة (37). واقتبس معظم هؤلاء الشعراء من الفرس أشكال شعرهم وأفكاره، وفي بعض الأحيان لغته، وواصلوا، في معين من القصيد لا ينضب، تمجيد عظمة الله، وحكمة الشاة أو السلطان، وارتعاد شجرة السرو حسداً عندماً يقع نظرها على السيقان النحيلة الناصعة البياض للحبيبة. وقد ألفنا الآن نحن في الغرب هذه المفاتن إلى حد أننا لم نعد نهتز لهذه التشبيهات الهائلة. ولكن "الأتراك الفظعاء" الذين كانت نساؤهم متدثرات من الأنف إلى أخمص القدم بشكل كله إغراء، اهتزوا إلى الأعماق بهذه الإيحاءات الشعرية، وهذا الشعر الذي غيرت ترجمته من طبيعته، والذي لا يؤثر فينا شعرة، كان يحفزهم إلى التقي والورع وإلى تعدد الزوجات وإلى الحرب.
وإنا لنختار في خيال ساذج، من بين ألف من الموتى الخالدين، ثلاثة أسماء لا تزال غريبة غير مألوفة لدى المجتمعات المحلية في الغرب. من هؤلاء أحمدي، وهو من سيواس (المتوفى 1413) الذي نهل أول ما نهل من الأستاذ الفارسي النظامي، وقد كتب أحمدي "اسكندرنامة" أي كتاب الإسكندر، وهو ملحمة ضخمة في أسلوب قوي غير مصقول، لم تتناول
قصة غزو الفرس للإسكندر فحسب، ولكن تضمنت كذلك تاريخ الشرق الأدنى وديانته وعلومه وفلسفته من أقدم العصور إلى عهد بايزيد الأول. ويجدر بنا أن نكف عن الاقتباس لأن الترجمة الإنجليزية أشبه شيء بكابوس يجثم على الصدر. أما شعر أحمد باشا (المتوفى 1496) فقد ابتهج به السلطان محمد الثاني إلى حد أنه عين الشاعر وزيراً له. ولكن الشاعر وقع في غرام خادم جميل من حاشية الإمبراطور الذي كان به مثل هذا الميل، فما كان منه إلا أن أمر بإعدام الشاعر وأرسل أحمد إلى مولاه قصيدة غنائية تفيض رقة، حتى أن محمداً وهبه الغلام، ولكنه نفى الاثنين إلى بروسه(38).وهناك أوى أحمد إلى داره شاعراً شاباً قدر له في الحال أن يبزه، ونظم نجاتي (المتوفى 1508)، وكان اسمه الحقيقي عيسى - نظم قصيدة غنائية مدح محمد الثاني، وربطها في عمامة صفى السلطان وزميله في لعبة الشطرنج، ودفع فضول محمد الثاني به إلى الوقوع في الشرك، وفض اللفيفة وقرأ القصيدة، واستدعى ناظمها وعينه موظفاً في القصر الملكي. وأبقاه بايزيد الثاني ناعماً بالحظوة والثراء. وكتب نجاتي الذي انتصر بشكل بطولي على الازدهار والنجاح، بعض القصائد الغنائية التي تستحق أعظم الثناء والتقدير في الأدب العثماني.
ومهما يكن من أمر، فإن فطاحل الشعر الإسلامي كانوا لا يزالون من الفرس. وكان بلاط حسين ببقرة في هراة يعج بالعنادل المغردة، حتى أن وزيره مير على شيرنواى شكا قائلاً: "لو انك مددت قدميك لرفست بهما ظهر شاعر". فرد عليه شاعراً آخر بقوله: "وكذلك تفعل أنت لو سحبتهما(39)". وكان مير على شير (المتوفى 1501)، إلى جانب معاونته في حكم خراسان، ورعايته للأدب والفن، وذيوع صيته في رسم المنمنات والتلحين - نقول كان شاعراً فحلاً، فكان ميسيناس وهوراس زمانه في وقت معاً. ومن فيض رعايته المستنيرة استمد العون والسلوى المصوران بهزاد
وشاه مظفر، والموسيقيون قول محمود وشائقي نائي وحسين يودي، والشاعر الإسلامي الكبير في القرن الخامس عشر ملا نور الدين عبد الرحمن جامي (المتوفى 1492).
ووجد جامي في حياته الطويلة الهادئة فسحة من الوقت ليكتسب شهرته عالماً ومتصوفاً وشاعراً. فشرح باعتباره من رجال الصوفية، في نثر رقيق، الفكرة الصوفية القديمة، وهي أن الاتحاد البهيج بين النفس البشرية وبين الحبيب، وهو الله سبحانه وتعالى، لا يتأتى إلا إذا أيقنت النفس أن الإنسان ليس غلا وهماً وسراباً، وأن كل الأشياء في الدنيا هي مجموع من الأشباح العبرة التي تتلاشى في ضباب الفناء. ومعظم قصائد جامي عبارة عن تصوف منظوم شعراً، ممزوج بشيء من الحسية الجذابة. ويقص علينا سلمان وأبسال حكاية طريفة تشير إلى أن الحب الإلهي يسمو على الحب الدنيوي. وسلمان هو ابن شاه يون (أيونيا) وقد ولد من غير أم (وهذا شيء أصعب بكثير من التوالد العذري) وقد تولت تربية الأمير الجميلة أبسال التي افتتنت به حين بلغ الرابعة عشرة من العمر، وقد غزت قلبه وأسرته بما اصطنعت من أسباب التجميل والتطرية:
"أحاطت سواد عينيها بسواد الإثمد
حتى تحوله إلى ليل وهو في وضح النهار،
وزينت وزججت الحواجب فوقهما.
لتصيبه إذا ضل هناك، وشعرها الذي يتضوع منه المسك
صففته في لفائف أفعوانية كثيرة
كمن فيها "الإغراء" فوق خدها
الذي أضاءت ورده بندى قرمزي
ووضعت هناك حبة دقيقة من المسك
لتوقع في الشرك طائر هذا القلب الحبيب
وقد نمر أحياناً فتطلق ضحكة تكسر بها
ياقوتة شفتيها اللتين تحفظان بينهما اللآلى
أو تنهض وكأنها على عجل، فتقعقع خلاخيلها الذهبية،
وعلى نداءاتها المفاجئة. تأتي
تحت قدميها الفضيتين بالتاج الذهبي(40).
وهو تاج الأمير وريث العرش بلا منازع، ويستسلم الأمير دون عناء لهذه المغريات، ولبعض الوقت ينعم الاثنان - الولد والسيدة في حب مشبوب. فيؤنب الملك هذا الشاب على مثل هذا العبث، ويأمره أن ينجو بنفسه إلى الحرب والحكم. ولكن سلمان بدلاً من ذلك يهرب مع أبسال على ظهر جمل، "وكأنهما لوزتان حلوتان في قشرة واحدة"، حتى إذا وصلا إلى البحر صنعا قارباً وسارا به "شهراً" وأتيا إلى جزيرة مكسوة بالخضرة، مليئة بالأزهار العطرة والطيور المغردة، والثمار والفاكهة التي تتساقط تحت قدميها بكثرة.ولكن في جنة عدن هذه يتحرك ضمير الأمير فيؤنبه، ويفكر في مهام الملك التي أغفلها، ويحث الأمير محبوبته أبسال على العودة معه إلى يون، ويحاول أن يدرب نفسه على الاضطلاع بأعباء الملك، ولكنه موزع بين الواجب والجمال، إلى حد أنه كاد آخر الأمر أن يجن، وانضم إلى أبسال في محاولة للانتحار، فبنيا محرقة، وقفزا إليها، وبد كل منهما في يد الآخر، وأنت النيران على أبسال، ولكن سلمان يخرج سالماً ولم يحترق. والآن وقد تطهرت نفسه، فإنه يرث العرش ويشرفه. وكل هذا مجاز يفسره جامي بأن الملك هو الله، وسلمان هو النفس البشرية، وأبسال هي نشوة الشهوة، والجزيرة السعيدة هي جنة الشيطان التي تضل فيها النفس عن مصيرها الإلهي، أما المحرقة فهي نار تجربة الحياة، التي تتلاشى فيها الرغبات الشهوانية، أما العرش الذي ترقى إليه النفس المطهرة فهو عرش الله. ومن العسير أن نعتقد أن شاعراً أن يصدر مفاتن
المرأة بهذا الشكل الحساس، يمكن أن يطلب إلينا اجتنابها اللهم إلا بين الفينة والفينة.
وفي جرأة عوض عنها ما تمخضت عنه تجاسر جامي فعالج، شعراً من جديد، الموضوعات الأثيرة لدى اثنى عشر من الشعراء قبله: يوسف وزليخة، ليلى والمجنون، وفي تصدير فصيح يعيد تقرير النظرية الصوفية: نظرية الجمال الإلهي والجمال الدنيوي:
في "القفر البدائي"، حيث لم تعط الحياة أية علامة على
وجودها، ورقد الكون مختبئاً منكراً نفسه، كان ثمة شيء.
إنه الجمال المطلق يظهر نفسه لنفسه فقط، وبنوره هو وحده.
مثل أجمل النساء في غرفة زفافها المحفوفة بالأسرار، كان ثوبها نقياً
لا تشوبه أية شائبة، ولم تعكس أية مرآة وجهها، ولم يمر
المشط قط بخصلات شعرها، ولم يحرك النسيم العطر قط شعرة
واحدة منها، ولم يأو قط أي عندليب على صفحة خدها الوردي..
ولكن الجمال لا يطيق أن يبقى مجهولاً. انظر إلى زهرة التوليب
فوق قمة الجبل، وهي تنفذ في الصخر فرعها الغض لأول بسمة
من بسمات الربيع...كذلك الجمال الأبدي أتى من الأماكن المقدسة
للأسرار ليشع في كل الآفاق وفي كل النفوس، وثمة شعاع واحد
انطلق من هذا الجمال الأبدي، واخترق الأرض والسموات، ومن ثم
تكشف وظهر في مرآة المخلوقات. وأصبحت كل ذرات الكون
بمثابة مرايا تعكس كل منها ناحية من نواحي العظمة الأبدية.
وسقط شيء من تألقها على الوردة والعندليب، فأصابهما شيء
من جنون الحب البائس واتقدت حماستهما ناراً، وجاء ألف من
الفراشات لتهلك في اللهب، وهي التي أضفت على قمر كنعان لمعانه
الساطع الذي أصاب زليخة بالجنون(41)
إن جامي يهبط من علياء سمائه ليصف جمال الأميرة زليخة في تكرار
وإسهاب يتقدان حماسة، حتى إلى حد وصف "حصن العفة والملمس
الحرام فيها".
وكان نهداها بمثابة كرتين من نور بالغ النقاوة أو فقاعتين
تقفزان حديثاً من نافورة كافور، أو رمانتين صغيرتين تنموان
على غصن واحد، لا يستطيع أي طامع جريء أن يمسهما
بإصبعه(42).
إن زليخة ترى يوسف في المنام، فتقع في غرامه لأول ظهوره. ولكن أباها يزوجها من وزيره بوتيفار. ثم ترى يوسف بشخصه رأي العين معروضاً للبيع في سوق الرقيق فتشتريه وتغريه، ولكنه يرفض صداقتها والتفاهم معها، فيصيبها الهزال. ويموت الوزير، ويحل يوسف محله، ويتزوج زليخة، وسرعان ما ينتاب الهزال الاثنين، إلى حد الموت آخر الأمر. إن حب الله هو الحقيقة وهو الحياة، إنها قصة قديمة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يركن إلى هذه المواعظ؟
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق