1297
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الأخلاق
3- الأخلاق
كيف كان سلوك الناس في العالم المسيحي اللاتيني؟ إنه لجدير بنا ألا يضللنا جهرهم بالإيمان بالدين، حيث لم يكن ذلك في الغالب إلا ولعاً بالشقاق والمشاكسة، أكثر منه ورعاً وتقوى. فإن نفس الشخص العنيد الذي يستطيع أن يتشدد في إيمانه يستطيع أن يكون عنيفاً كذلك في تجديفه، وإن البنات اللائى ينحنين متظاهرات بالرزانة والاحتشام أمام تماثيل العذراء،
أيام الأحد، ليصبغن وجناتهن بالحمرة ويتجملن طيلة الأسبوع يحدوهن الأمل، وكثيرات منهن انزلقن تحت تأثير الإغراء والغواية، لمجرد عرض فكرة الزواج. وما كان من الميسور حماية العذارى وعذرتهن وبتولتهن إلا بالتمسك بكل أهداب العرف والأخلاق والقانون والدين وسلطة الوالدين والتعليم، و "حدود للشرف". ولكن ما كان أكثر الاحتيال على الانزلاق. إن الجنود الذين عادوا من الحملات التي كان الخمر والنساء فيها عزاءهم وتسليتهم الأساسية، وجدوا من المؤلم لهم ومن العسير عليهم أن يروضوا أنفسهم على العفة والامتناع عن شرب الخمر. وانغمس الطلبة في الفسق والفجور، واحتجوا بأن الزنى خطيئة عرضية تغتفر"(25)، ويمكن أن يتجاوز عنها المشرعون المستنيرون. ولقد أعلن روبرت جرين أنه في كمبردج كان قد "أفنى زهرة شبابه بين أوغاد فاجرين لا يقلون عنه دعارة"(26). وكثيراً ما ظهر الراقصات على المسرح، او في أي مكان آخر، "عاريات تماماً"(27). ومن الواضح أن هذه بدعة من أقدم البدع في الدنيا- ولقد نظر الفنانون بازدراء إلى قواعد السلوك الجنسي ونظمه(28)، واتفق اللوردات والسيدات مع الفنانين في ذلك. وكتب برانتوم: "إن الطبقات العليا استخفت بقواعد السلوك عند العذارى وما يحوم حولهن من شكوك، وكم من آنسات أعرفهن في دنيا العظماء، لم يأخذن معهن بكارتهن إلى فراش الزوجية"(29). ولقد لحظنا نوع القصة التي بدا أن مرجريت نافار الجميلة سمعتها دون أن تحمر وجنتاها خجلاً. وكم زخرت المكتبات بكتب الأدب الخليع المكشوف، التي تدفع فيها أثمان عالية في نهم شديد(20). وكان لأرتينو (هجاء لاذع في إيطاليا في القرن الخامس عشر) في باريس شعبية قدر شعبيته في رومه"، ولم يحس رابليه، الكاهن بأنه من الجائز أن ينقص المبيع من ملحمته "جارجنتوان Gargantuan" بحشوها بكلام جعل أرتينو يسارع لإخفائه. ووجد
الفنانون سوقاً رائجة للصور الجنسية، بل حتى للانحرافات المصورة(31)، وكان الباعة المتجولون في الشوارع، وحماة البريد واللاعبون الجوالون يبيعون روائع الصور للتي من هذا القبيل، حتى في المعارض والأسواق الخيرية الكبرى(32). لقد وجدت كل ألوان الابتذال والانحراف لها مكاناً فسيحاً في تلك الحقبة(33). مثلما وجدته في الصفحات التي دونها برانتوم والتي تتسم بالأرستقراطية(34).
وزاد الدخل من البغاء وارتفع شأنه. وحدث في هذا العصر أن أطلق على من يمارسه "سيدات البلاط"- (في مقابل رجال البلاط). وقدم بعض القواد البغايا إلى جيوشهم، حرصاً منهم على حماية سيدات البلاد التي يحتلونها(35). ولكن نسبة الأمراض السرية ارتفعت إلى حد الوباء تقريباً. وكم أصدرت الحكومة تلو الحكومة من تشريعات ضد "بنات الهوى"التعيسات. وعلى حين أكد لوثر أن الرغبة الجنسية أمر طبيعي، نراه قد كافح للإقلال من البغاء، وبتحريض منه حرمته كثير من مدن ألمانيا اللوثرية(36). وفي 1560 جدد ميشيل دى لوبيتال مستشار فرنسا قوانين لويس التاسع ضد هذه الرذيلة، والظاهر أن أوامره نفذت.
وفي الوقت نفسه نجد أن الشهوة الحمقاء للجسد من أجل الجسد، أورثت ظمأ النفس إلى النفس، وإلى كل ما كان يزدان به التودد والحب الرومانتيكي من رقة وكياسة، وتدفقت الدماء التي تغلي في العروق في النظرات المختلسة والرسائل الغرامية والقصائد الغنائية والمقطوعات الشعرية والأناشيد والقطع الغزلية والهدايا المشجعة واللقاءات السرية. ورحبت بعض الشخصيات المهذبة أو السيدات اللعوبات من إيطاليا وكاستليوني، بالتسلي بحب أفلاطوني تكون فيه السيدة والرفيق المتودد إليها صديقين حميمين، ولكن محافظين على الطهارة والعفة، ولكن مثل هذا اللون من كبح جماح النفس لم يكن من شيمة هذا العصر، فقد كان الرجال شهوانيين بطريقة مكشوفة، وأحب النساء هذه
الحلة فيهم، وكثر شعر الغرام، ولكنه كان مقدمة لأفتناص النساء.
وبالنسبة للزواج، بقي الآباء واقعيين إلى حد عدم السماح للمحب باختيار رفيقة الحياة، فقد كان الزواج في شريعتهم زفافاً إلى الضيعة أو الثروة أو المكانة الاجتماعية (زواج المصلحة)، ونصح إرزم الذي كان شديد الإحساس بمفاتن المرأة، لا بالزواج، نصح الصغار بالزواج ممن يختاره الكبار، على أن يتركوا الحب ينمو بالمزاملة والمرافقة أفضل من أن يذبل ويذوي بإشباع الشهوة(37)، واتفق رابليه معه في هذا الرأي(38). وعلى الرغم من هؤلاء الثقاة، ثار عدد متزايد من الشباب، مثل جان د ألبرت، على الزيجات المبنية على الثروات والعقارات الثابتة. ونعي روجر أسكام معلم الملكة اليصابات: "أن عهدنا بعيد جداً عن النظام والامتثال القديمين، حتى أن الشبان، بل والبنات أنفسهن- اصبح الجميع يجرءون على الزواج رغم أنف الأب والأم والنظام السليم وكل شيء(39). وفزع لوثر حين علم بأن ابن ميلانكتون خطب لنفسه عروساً دون استشارة أبيه، وأن أحد صغار القضاة في وتنبرج أعلن صحة هذه الخطبة، ورأى المصلح الديني (لوثر) أن هذا سيسيء حتماً إلى سمعة وتنبرج. وفي 22 يناير 1544 كتب في الجامعة:
إن لدينا عدداً وفيراً من الشبان من مختلف البلاد، وان سباق
البنات ليشتد، وأنهن ليجرين وراء الرفاق في حجراتهم وقاعاتهم
وحيثما استطعن إليهم سبيلاً، ليعرضن عليهم حبهن الطليق. ولقد
سمعت أن كثيراً من الآباء أمروا أبنائهم... بالعودة إلى بيوتهم...
قائلين إننا نعلق الزوجات حول رقاب أبنائهم... وفي يوم الأحد
التالي ألقيت عظة قوية أدعو الرجال إلى اتباع السبيل القويم والقاعدة
اللتين وجدتا منذ بدء الخليقة... أعني أن يزوج الآباء أبنائهم
بعضهم من بعض بروية وحسن نية، دون أن يرتبط الأبناء بارتباط
تمهيدي.. فإن مثل هذه الارتباطات من ابتداع البابا الممقوت،
أوحى بها إليه الشيطان ليحطم ويمزق سلطة الآباء التي منحها الله
إياهم وأوصى بها لهم بصفة جدية(40).
وكان يمكن تنظيم عقود الزواج للأولاد والبنات ابتداء من سن الثالثة، ولكن كان من الميسور فسخها إذا لم تتحقق. وكانت السن الشرعية للزواج الرابعة عشرة للولد والثانية عشرة للبنت. وكان من المستطاع التجاوز عن العلاقات الجنسية بعد الخطبة وقبل الزفاف، وحتى قبل الخطبة، في السويد وفي ويلز، كما كان في بعض المستعمرات الأمريكية فيما بعد، وكان يسمح للحبيبين بالاشتراك في فراش واحد دون أن يخلعا ملابسهما، ولكنهما كانا يذكران بالاحتفاظ بملاءة بينهما حتى لا يلتصق جسماهما(41). ولم يعد الزواج في البلاد البروتستانتية سراً مقدساً، وما حل عام 1580 حتى بات الزواج المدني يزاحم الزواج على يدي الكاهن. وارتأى لوثر وهنري الثامن وإرزم والبابا كليمنت السابع أن الزواج من امرأتين يمكن أن يرخص فيه تحت شروط معينة، وخاصة إذا كان بديلاً للطلاق. واتجه رجال الدين من البروتستانت شيئاً فشيئاً إلى إباحة الطلاق، وكان ذلك في أول الأمر بسبب الزنى فحسب، وكانت هذه الجريمة أكثر شيوعاً في فرنسا، على الرغم من عادة قتل الزوجة الزانية هناك. وكان الحب غير المشروع جزءاً من الحياة العادية للسيدات الفرنسيات ذوات المركز الاجتماعي المرموق(42). وكان البيت الذي يضم زوجاً وزوجتين أمراً مألوفاً كثيراً في فرنسا، مثال ذلك البيت الذي كان يضم هنري الثالث وكاترين دى مدينتشي وديان دى بواتييه، وكانت الزوجة الشرعية (المعقود عليها) ترتضي هذا الوضع في كياسة مرة ساخرة، كما يحدث أحياناً في فرنسا اليوم.
وباستثناء الطبقة الأرستقراطية، كانت المرأة قبل الزواج معبودة
وألهه، وبعده خادمه. وكانت الزوجة تقوم بواجبات الأمومة خير قيام أدون صعوبة أو تردد، وتبتهج وتفاخر بكثرة الأولاد، وتحتال على أن تسوس رب البيت. وكان النساء قويات معتادات على العمل الشاق من طلوع الشمس إلى مغربها، ويقمن بحياكة معظم الملابس اللازمة لأسراتهن. وكن في بعض الأحيان يعملن مع المقاولين الرأسماليين. وكان النول جزءاً أساسياً من البيت. وفي إنجلترا كان معظم النساء غير المتزوجات غزالات، أما سيدات البلاط الفرنسي فكن شيئاً آخر، ولقد شجعهن فرانسوا الأول على تجميل أجسامهن وملابسهن. واستطعن في بعض الأحيان تحويل السياسة الوطنية بفعل "القذائف الموجهة" التي تطلقها مفاتنهن. وورد من إيطاليا على فرنسا، حركة نسائية، ولكنها لم تلبث أن خمدت، لأن النساء أدركن أن قوتهن وشهرتهن شيء مستقل عن السياسة والقانون. وكان كثير من نساء الطبقة العليا على درجة عالية من الثقافة. وفي باريس، وفي غيرها، بدأ الصالون الفرنسي آنذاك يتشكل، حيث جعلت السيدات المثقفات ذوات اليسار من بيوتهن ملتقى رجال الدولة والشعراء والفنانين والعلماء والأساقفة والفلاسفة، وثمة مجموعة أخرى من السيدات الفرنسيات بقين متمسكات بأهداب الفضيلة، في هدوء، وسط العاصفة الهوجاء- عاصفة الجنس- مثل آن أوف فرانس، وآن أوف برتياني، وكلود، ورينيه. وبصفة عامة، فإن الإصلاح الديني الذي نبت في تربة تيوتونية (ألمانيا وشمال أوربا) عمل على تدعيم فكرة المجتمع الأبوي وسلطان الأب على المرأة والأسرة. كما وضع الإصلاح حداً لتمجيد المرأة في عصر النهضة، بوصفها نموذجاً للجمال وعاملة على تمدين الرجل، كما أدان الكنيسة بالتساهل في الانحرافات الجنسية، ومهد الطريق بعد موت لوثر لجفاء المتطهرين (الحركة البيوريتانية).
وتدهورت الأخلاق الاجتماعية بنشوء الروح التجارية وشدة الاهتمام بالربح، والإحجام المؤقت عن أعمال البر والإحسان والصدقات. ووجد
الخداع والتضليل والخيانة- وهي أمور طبيعية في الإنسان- أساليب وفرصاً جديدة، منذ حلت اقتصاديات المال محل النظام الإقطاعي، ومنذ تملك الأغنياء الجدد السندات المالية أكثر مما تملكوا الأرض، وكانوا قليلاً ما يرون الأفراد الذين أفادوا من كدهم وعرقهم، فأن هؤلاء الأغنياء لم يكن لديهم من تقاليد المسئولية والكرم ما كان قد ذهب وولى مع الثروة القائمة على امتلاك الأرض(43). وكانت التجارة والصناعة في العصور الوسطى قد ارتضتا الضوابط الأخلاقية المتمثلة في توجيهات النقابات والمجالس المحلية والكنيسة، ولكن الرأسمالية الجديدة رفضت كل هذه القيود، وجرت الناس إلى منافسة عنيفة طوحت بالقوانين القديمة عرض الحائط(44). وحلت الحيل التجارية محل الموسومة بالتقي والورع. وضجت نشرات الإعلان في ذاك الزمان بالتحذيرات من غش الأطعمة وسائر المنتجات بالجملة. وشكا مجلس الديت في انسبروك 1518، من أن المستوردين "يضيفون الآجر المسحوق إلى الزنجبيل، ويخلطون الفلفل بمواد غير صحية"(45).ولحظ لوثر أن التجار "عرفوا كيف يحتالون على زيادة وزن التوابل- مثل الفلفل والزنجبيل والزعفران- بوضعها في أقبية رطبة، وأنه ليس ثمة سلعة واحدة لا يستطيعون أن يجنوا من ورائها أرباحاً طائلة بالغش في الكيل أو العد أو الوزن أو استحداث ألوان مصطنعة... وليس ثمة نهاية لحيلهم"(46). ووصم سناتو البندقية حمولة سفينة من الأصواف الإنجليزية بأنها مغشوشة من حيث الوزن والصنع والحجم(47).
وكان الناس في الأقطار اللاتينية لا يزالون يقبلون على أعمال البر والإحسان والصدقات بصدور منشرحة، كما كان الحال في العصور الوسطى، وأنفقت الأسرات النبيلة جزءاً كبيراً من دخولها في الهبات والصدقات(48). وورثت ليون عن القرن الخامس عشر منظمة ضخمة للصدقات المحلية أمدها المواطنون بالأموال بسخاء عن طيب خاطر(49). أما
في ألمانيا وإنجلترا فلم تكن الأيدي مبسوطة إلى هذا الحد. وبذل لوثر كل ما في وسعه ليعيد نظام الصدقات الذي كان قد اختل بمصادرة الأمراء لأملاك الأديرة، ولكنه اعترف بأن جهوده لم تكلل بالنجاح. ورثى "لأن الناس في عهد البابوية كانوا محسنين وتصدقوا عن طيب خاطر(50)، ولكنهم في ظل شريعة الإنجيل لم يعودوا يعطون شيئاً، وبات كل فرد يسلب الآخر... ولن يتصدق أحد بفلس واحد"(51). ونقل إلينا لاتيمر (من رجال الإصلاح الديني البروتستانتي في إنجلترا في القرن السادس عشر) رواية مشابهة: " لم يقس قلب لندن قط كما هو حالها الآن، فإذا مات أحد الأغنياء في الأزمنة الغابرة، كان ذووه يرصدون مبالغ كبيرة من المال لإغاثة الفقراء... أما الآن فقد تجمدت المروءة وانقضى عهدها(52). وأبلغ الكاردينال بول لندن، أن مدينتين في إيطاليا تصدقتا بأكثر مما تصدقت به إنجلترا بأسرها(53). وانتهى فرود إلى أنه "لما انتشر الصدق، تقلص البر والعدل في إنجلترا"(54). ويحتمل أنها ليست البروتستانتية، ولكنها الروح التجارية والكفر هما اللذان انقضا الصدقات والإحسان.
واشتد الفقر حتى أصبح يشكل أزمة اجتماعية، فإن المستأجرون المطرودين والعمال المهرة العاطلين والجنود المسرحين هاموا على وجوههم في الطرقات أو الأكواخ المصنوعة من القش يسألون الناس أو يسلبونهم ليعيشوا. وقدر عدد المعوزين في أوجزبرج بسدس السكان وفي همبرج بخمسهم، وفي لندن بربعهم(55). وصاح المصلح الديني توماس لفر يوما "يا رب يا رحيم، ما هذا العدد الضخم من الفقراء والضعفاء والعرج والعمى والمقعدين والمرضى... والذين يرقدون أو يزحفون في الشوارع الموحلة"(56) وكان لوثر الذي امتلأ قلبه بالرحمة قدر ما اتسم لسانه بالقسوة، من أول من أدركوا أن الدولة يجب أن تتولى عن الكنيسة رعاية المعوزين وإنقاذهم. وفي حديثه "إلى أشراف المسيحية في الأمة الألمانية" (1520) اقترح
أن تتكفل كل مدينة بالمعوزين فيها. وفي أثناء تغيبه في ورتبرج، نظم أتباعه المتطرفون في وتنبرج- صندوقاً جماعياً لرعاية الأيتام، ودفع مهور البنات الفقيرات، وترتيب منح دراسية للطلبة المحتاجين، وإقراض الأموال للأسرات التي أخنى عليها الدهر، وفي سنة 1525 اصدر لوثر توجيهاً بإنشاء صندوق عام. حث فيه المواطنين ورجال الدين في كل قسم على أن يفرضوا على أنفسهم ضريبة يسهمون بها في تكوين رصيد يقدمون منه قروضاً بدون فائدة للمحتاجين أو غير القادرين على العمل(57). وفي 1522 عينت أوجزبرج ستة "حماة الفقراء" ليشرفوا على توزيع المساعدات عليهم، وتبعتها نورمبرج في الحال، ثم ستراسبورج ويرسلاو (1523)، وراتسبون ومجدبرج (1524).
وفي تلك السنة كتب أسباني من دعاة الحركة الإنسانية، جوان لويس فيفز لمجلس مدينة بروجز نشرة عنوانها:"إعانة الفقراء". وقد لحظ انتشار الفقر وسط نمو الثروة، وأنذر بأن الإفراط في عدم المساواة في الملكية قد يولد ثورة مدمرة. وكتب يقول: "كما أنه من الخزي والعار على رب الأسرة في بيته الهانئ أن يسمح لفرد فيه أن يعاني مهانة العري أو الرأسمال البالية، فإنه كذلك ليس من اللائق بولاة الأمور في المدينة أن يحتملوا حالة مواطنين يتضورون جوعاً وبؤساً"(58).ووافق فيفز على أن يجبر على العمل كل قادر عليه، وألا يسمح لأحد بالتسول، ولكن ما دام كثيرون غير قادرين على العمل فعلاً، فيجب أن يدبر لهم مأوى في الملاجئ أو المستشفيات أو المدارس التي تنفق عليها البلد "على أن يقدم لهم الطعام والرعاية الطبية والتعليم الابتدائي مجاناً، ويجب أن تتخذ تدابير خاصة للمتخلفين عقلياً. وجمع ايبر Ypres بين أفكار فيفز والسوابق الألمانية في هذا المجال، ونظم في 1525 صندوقاً جماعياً وحد أموال
الصدقات في رصيد واحد ووكل توزيعها إلى رياسة واحدة. وطلب شارل الخامس (1531) نسخة من خطة ايبر. وأرسل هنري الثامن توجيهاً مماثلاً إلى أبرشبات إنجلترا (1536). واحتفظت الكنيسة في البلاد الكاثوليكية بإرادة أموال الصدقات.
وبقي الخلق السياسي مطبوعاً بالمكيافيلية. واعتبر نظام الجاسوسية أمراً مسلماً به. وكان من المتوقع أن يبلغ جواسيس هنري الثامن في روما عن أخطر محادثات الفاتيكان وأكثرها سرية(59).وكانت الرشوة عملية تقليدية، وتدفقت في سخاء أكثر بعد تدفق الذهب من أمريكا. وتسابقت الحكومات على نقض المعاهدات. ونافست الأساطيل المسيحية والتركية بعضها بعضاً في أعمال القرصنة. وبعد تدهور نظام الفروسية انحطت أخلاقيات الحرب إلى ما يشبه الهمجية ونهبت أو أحرقت المدن التي كانت قد أخفقت في مقاومة الحصار، وذبح الجنود المستسلمون أو استبعدوا حتى تدفع عنهم الفدية. أما القوانين والمجاملات الدولية التي كانت سائدة في حالة خضوع الملوك أحياناً لتحكيم البابوات، فقد اختفت في فوضى التوسع القومي والعداء الديني. واعترف المسيحيون ببعض الضوابط الخلقية تجاه غير المسيحيين، وبادلهم الأتراك نفس المعاملة. واسر البرتغاليون زنوج أفريقية واستعبدوهم. ونهب الغزاة الأسبان المواطنين الأمريكيين واستعبدوهم وقتلوهم، دون أن يخفوا عزمهم الأكيد على تحويل الدنيا الجديدة إلى المسيحية، وكانت حياة الهنود الحمر في أمريكا في ظل الحكم الأسباني مريرة تعيسة إلى حد انتحار الآلاف منهم(60)، بل حتى في العالم المسيحي نفسه في ذاك العصر كثرت حوادث الانتحار إلى درجة مروعة(61). واغتفر بعض دعاة الحركة الإسبانية إهلاك النفس. ولكن الكنيسة حكمت بأنه يؤدي إلى الجحيم مباشرة، ومن ثم يكون المنتحر كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن كل ما في الإصلاح الديني، ولو أنه في نهاية الأمر أصلح من
الأخلاق في أوربا- دمر الفضائل العلمانية. ولقد نعي بيركهيمر وهانز ساكس- وكلاهما متعاطف مع لوثر- أن فوضى السلوك العشوائي غير المنظم قد سادت بعد انهيار السلطة الدينية(62). وكان لوثر كعادته، صريحاً جداً في هذه النقطة:
كلما تقدمنا إلى الأمام، ازداد العالم سوءاً.... فمن الواضح جداً كيف أن الناس أصبحوا نهمين قساة بذيئين وقحين شريرين أكثر بكثير مما كانوا عليه في ظل البابوية(63).. فنحن الألمان اليوم موضع سخرية كل الأقوام والشعوب ووصمة عار لهم، ونحن نعتبر قطيعاً مخزياً كئيباً من الخنازير.... نحن نكذب ونسرق، ونفرط في الطعام والشراب، وننغمس في كل رذيلة(64)... وإن الشكوى عامة من أن شبان اليوم منحلون فوضويون تماماً، وأنهم لا يستبيحون لأنفسهم أن يزدادوا علماً ومعرفة. ويروح نساء وتنبرج وبناتها ويجئن في كل مكان عاريات، وليس هناك من يعاقبهن أو يصحح أخطاءهن، ساخرات من "كلمة الرب" هازئات بها(65).
ووصف واعظ لوثري، أندريا مسكولوس، عصره (1560) بأنه فاسق غير أخلاقي، إذا قورن بالألمان في القرن الخامس عشر(66). واتفق معه في ذلك كثير من زعماء البروتستانت(67). وتأوه كلفن قائلاً "إن المستقبل يفزعني، ولست أجرؤ على التفكير فيه. أن الهمجية سوف تجرفنا إلا إذا هبط الرب من السماء(68). وأنا لنسمع من هذا القبيل عن اسكتلندة وإنجلترا(69). ولخص فرود، وهو النصير المتحمس لهنري الثامن، الموضوع باعتدال وإنصاف، فقال:
إن الحركة التي بدأها هنري الثامن، بالحكم عليها بنتائجها الحالية
(1550) أسلمت البلاد آخر الأمر إلى مجرد مغامرين. إن الناس
استبدلوا بخرافة من أكبر مساوئها أنها فرضت ظلاً من الاحترام
والطاعة، خرافة أخرى، مزجت الطاعة بإيمان متسم بطابع
المضاربة. وتحت هذا التأثير المميت، بدأت تختفي، لا أسمى فضائل
التضحية بالنفس فحسب، بل أبسط واجبات الاستقامة والأمانة
والفضيلة والأخلاق. وأصيبت الحياة الخاصة بدنس بدا لخلاعة
رجال الدين الكاثوليك أنه البراءة والطهر... ومن بين الفئة
الصالحة التي لم يمسها الدنس، لا يزال من الممكن العثور على
أفاضلهم في جانب الإصلاح(70).
وقد لا يكون من اليسير أن تنسب هذا الانحطاط الخلقي في ألمانيا وإنجلترا، إلى فك لوثر لقيود الجنس، وازدرائه "للأعمال الصالحة"، أو إلى المثل السيئ الذي ضربه هنري الثامن بانغماسه في المغامرات الجنسية وقسوته البالغة، فقد ساد فسوق مشابه- ومن بعض النواحي أكثر انطلاقاً- في إيطاليا البابوية في ظل البابوات في عصر النهضة، وفي فرنسا الكاثوليكية تحت حكم فرانسوا الأول. وربما كان السبب الرئيسي في انحلال الخلق في أوربا الغربية هو نمو الثروة. وثمة سبب أصيل يدعم هذا، هو تزعزع الإيمان، لا في المبادئ الكاثوليكية فحسب، بل في أساسيات وأصول العقيدة المسيحية كذلك. فقد رثى أندريا مسكولوس "أنه ليس هناك من يعبأ بالجنة أو الجحيم، ولا يفكر أحد في الله أو في الشيطان"(71). وينبغي في مثل هذه التصريحات الصادرة عن الزعماء الدينيين، أن تتجاوز عن مبالغات المصلحين اليائسين من ضآلة التحسينات التي أدخلتها إصلاحاتهم الدينية على الحياة الأخلاقية. وإذا كان لنا أن نصدق الوعاظ، فإن الناس لم يكونوا أفضل بكثير فيما مضى، وقد لا يكونون أفضل بكثير في القرون التالية. ففي مقدورنا أن نتبين في عصرنا هذا كل خطايا القرن السادس عشر وآثامه،
وأن نتبين خطايانا وآثامنا في كل ما اقترفه الناس في ذاك القرن، طبقاً لما تيسر لديهم من وسائل وأساليب.
وأنا لنجد في نفس الوقت أن الكاثوليكية والبروتستانتية كلتيهما، كانتا قد أقامتا ودعمتا أساسين لانبعاث الروح المعنوية والأخلاقية: تهذيب سلوك رجال الإكليروس بالزواج أو بالزهد والتعفف، والتوكيد على أن البيت هو الملاذ الأخير للإيمان والحشمة واللياقة. وقد يأتي اليوم حين يرجع الرجال والنساء بأبصارهم إلى الوراء، في حسد خفي، إلى القرن السادس عشر، حيث كان أسلافهم أشراراً وأحراراً إلى الحد الذي كانوا عليه يومذاك.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق