1274
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> توحيد روسيا -> الشعب
الفصل التاسع والعشرون
توحيد روسيا
1300- 1584
1- الشعب
في سنة 1300 لم يكن لروسيا وجود. وكان معظم القسم الشمالي يتبع ثلاث مدن دولة تحكم نفسها بنفسها، وهي نوفجرد Novgorod، فياتكا Viatka، بسكوف Pskov. وكانت المقاطعات الغربية والجنوبية خاضعة للتوانيا. أما في الشرق فأن إمارات موسكو وريازان وسوزدال ونجنى نفجرد وتفر Tver، ادعت كل منها لنفسها حق السيادة، ولم يربطها بعضها ببعض إلا اشتراكها في الخضوع "للقبيلة الذهبية".
وقد اتخذت "القبيلة الذهبية Golden Horde" هذه التسمية من اللفظة التركية أوردو Ordu ومعناها "المخيم"، أما وصفها "بالذهبية" فيرجع إلى الخيمة ذات القبة، والتي كانت موشاة بغطاء من الذهب، وكانت مقر قيادة "باتو الرائع" حفيد جانكيزخان، وبعد أن تم لهؤلاء الآسيويين الغزاة فتح جنوب روسيا وغرب آسيا، شيدوا عاصمتهم في "سراي" Sarai على أحد فروع نهر الفولجا الأدنى، وهناك تقاضوا جزية سنوية من الأمراء الروس. وكانت "القبيلة" موزعة بين الزراعة وارعي المتنقل، وكانت الأسرات الحاكمة من المغول، أما بقية السكان فكان معظمهم من الأتراك، وقد أطلق على القبيلة اسم "تتار" نسبة إلى قبائل "تاتا Ta-ta" من صحراء
جوبى، وهي قبائل بدأت في القرن التاسع الزحف المغولي نحو الغرب، وكانت النتائج الأساسية التي ترتبت على طول خضوع روسيا "للقبيلة" نتائج اجتماعية: وهي استبداد أدواق موسكو، وولاء الأهالي ولاء ذليلاً لأمرائهم، والمركز الوضيع للمرأة في المجتمع، وتنظيم حكومة موسكو وفقاً لأساليب التتار من النواحي العسكرية والمالية والقضائية. وقد عاقت سيطرة التتار محاولة روسيا لمدة قرنين من الزمان أن تصبح دولة أوربية غربية.
وواجه الشعب الروسي أشق الظروف بعدم اكتراث رواقي صامت، اللهم إلا أنهم في غمرة آلامهم وأحزانهم، وجدوا في أنفسهم الشجاعة لممارسة الغناء. ونعتهم أعداؤهم بالخشونة والقسوة والخيانة والخبث والعنف(1). ولاشك أن الكد والنصب، وقسوة المناخ، كل أولئك أكسبهم صلابة، على أن ما تميزوا به من الصبر وروح المرح والمودة وكرم الضيافة، كان غيه تعويض كبير لهم، إلى حد أنهم مالوا إلى الاعتقاد بأنهم "أكثر إنسانية"، وأنهم "ملح الأرض" (إشارة إلى ما جاء في إنجيل متى :5-13): لقد أدخلوا قسرا إلى المدنية بقوانين همجية وعقوبات رهيبة، من ذلك - كما روى لنا- أن المرأة التي تقتل زوجها كانت تدفن حية حتى عنقها، وأن السحرة والمشعوذين كانوا يحرقون أحياء في قفص من حديد، وأن مزيفي النقود كان يصب في حلوقهم معدن مصهور(2). وكأي شعب يقاوم البرد كان الروس يدمنون المشروبات الروحية إلى حد فقدان الوعي أحياناً، كما كانوا يضيفون إلى طعامهم التوابل التماساً للدفء. واستمتعوا بالحمام الساخن، وكانوا يستحمون أكثر من معظم الأوربيين، وكان من أوامر الدين عندهم أن تخفي المرأة مفاتن جسمها وشعرها، كما دمغ الدين النساء بأنهن أولياء الشيطان، ومع دلك تساوين بالرجال أمام القانون، وكثيراً ما شاركن في تسليتهم أو في الرقص، وهو ما كان محرماً باعتباره خطيئة. وكانت الكنيسة الروسية تحض بشدة على مكارم الأخلاق، وتحرم
عقد الزيجات واقتراب الرجل من المرأة في أيام الصوم الكبير. ومن ثم كانت صرامة الشريعة حائلا دون نزوع الشعب إلى الإفراط في الانغماس فيما يكاد أن يكون المسرة الوحيدة التي تركت له، وكان الوالدان هما اللذان يدبران شئون الزواج، وكان يتم في سن مبكرة، فكانت البنت في سن الثانية عشرة والولد في سن الرابعة عشرة يعتبران صالحين للزواج. وكانت مراسم العرس معقدة تصحبها الأشياء الرمزية القديمة والأفراح التي كان مطلوباً من العروس في أثنائها أن تلزم الصمت الموسوم بالحياء، ولسوف تعوض عن ذلك فيما بعد. وكان ينتظر منها أن تقدم إلى والدة زوجها غداة العرس ما يثبت أنه بنى بعذراء، وكان الحريم يبقين في طابق أعلى بعيداً عن الرجال، وكانت سلطة الرجل في الأسرة مطلقة مثلها في ذلك مثل سلطة القيصر في الدولة.
وسما الورع عند الروس بالفقر حتى جعل منه سبيلاً إلى الجنة. وكان كل بيت مهما صغر أو كبر يضم غرفة مزدانة بالأيقونات أو الصور المقدسة، بمثابة مكان للصلاة من حين لآخر. وكان الزائر الصالح يحيى هذه الصور المقدسة قبل التسليم على أهل البيت. وكانت النساء الصالحات يحملن مسابح أينما ذهبن. وكانت الابتهالات تتلى بمثابة تعاويذ ورقى سحرية، ومن ثم- كما يروى كتاب مشهور من القرن السادس عشر اسمه "كتاب الأسرة Domostroi " فإن ابتهالات معينة تكرر في اليوم 600مرة لمدة ثلاث سنوات، قد تؤدى إلى تجسد الآب والابن والروح القدس في شخص المتضرع (3). ومع ذلك كان هناك كثير من المظاهر الجميلة في هذه الديانة الممتلئة بالخرافات. فكان الناس في صبيحة يوم عيد الفصح يحيون بعضهم بعضاً بهذه الألفاظ البهيجة " المسيح قام". وفي ظل هذا الأمل هان أمر الموت إلى حد ما. فإذا حانت منية الرجل الطيب الوقور سدد ديونه وأعفى المدينين له، وأعتق واحداً أو أكثر من أرقائه، ووزع
الصدقات على الفقراء والكنيسة، ولفظ الأخيرة وكله أمل وثقة في الدار الآخرة.
وعملت الكنيسة الروسية على تقوية الورع عن طريق فن العمارة والرسوم الحائطية والأيقونات والعظات القوية وحفلات التنويم المغناطيسي، والترانيم التي يشترك في إنشادها عدد كبير من المرتلين، والتي كانت تبدو وكأنها تخرج من أخفى أعماق النفس أو المعدة، وكانت الكنيسة لساناً قوياً ناطقاً باسم الدولة، وتثاب على الخدمات التي تؤديها في تعليم الآداب والأخلاق وتقويم السلوك وتوطيد دعائم النظام الاجتماعي بأوفى مثوبة. وكانت الأديرة كثيرة ضخمة. من ذلك أن "دير الثالوث الأقدس" الذي أسسه القديس سرجيوس في سنة 1335، كان قد جمع في عام 1600 من الأراضي الشاسعة ما يحتاج إلى أكثر من مائة ألف فلاح لزرعها. وفى مقابل ذلك وزعت الأديار الصدقات على الروس، وكان بعضها يطعم 400 شخص في اليوم، وفي إحدى سنوات القحط كان دير فولوكولامسك Volokolamsk يطعم سبعة آلاف شخص يومياً. وكان الرهبان يقطعون على أنفسهم عهداً بالتزام العفة، ولكن الكهنة كانوا يضطرون إلى الزواج. وكان معظم هؤلاء "الآباء" أميين، ولكن الشعب لم يكن يعيب عليهم ذلك. وكان مطارنة موسكو في معظم الأحوال أكثر أهل زمانهم كفاية ومقدرة وعلماً، وكانوا يبذلون ثرواتهم للحفاظ على الدولة، ويوجهون الأمراء على طريق الوحدة الوطنية. وكان سانت ألكسيس هو الحاكم الفعلي لروسيا طوال توليه منصبه (1354-1370). إن الكنيسة الروسية بكل أخطائها التي ربما تكون قد فرضتها عليها مهامها- نقول إن هذه الكنيسة في عصر التكوين والتشكيل هذا، كانت بمثابة العامل الأبرز والأهم في تمدين الشعب الذي صبرته وحشياً مصاعب الحياة وضراوة طبيعة الانسان ذاته.
وحين رفضت الكنيسة الروسية في 1448 اندماج الكنيسة اليونانية مع الكاثوليكية الرومانية في مجلس فلورنسة، أعلنت استقلالها عن البطريرك البيزنطي، وبعد ذلك بسنوات خمس حين سقطت القسطنطينية في يد الأتراك، أصبحت موسكو عاصمة المذهب الأرثوذكسي. وحوالي 1505 كتب راهب متحمس إلى أمير عظيم في موسكو "اعلم الآن أن سلطان المسيحية بأسرها قد آل إليك، لأن روما الأولى وروما الثانية (يقصد روما والقسطنطينية) قد سقطتا، أما الثالثة فهي صامدة، ولن يكون هناك رابعة، لأن إمبراطوريتك المسيحية سوف تدوم إلى الأبد"(4).
وكادت الكنيسة أن تكون النصير أو الراعي الوحيد للآداب والفنون، ومن ثم كانت هي التي توجهها. ولم تكن أجود الآداب مدونة. وكانت أغاني الشعب رددتها ألسنة الناس من جيل إلى جيل هي التي تذيع وتمجد قصص حبهم أو أعراسهم أو أحزانهم أو فصولهم أو اعيادهم أو موتاهم، وكان هناك أناشيد مألوفة لقديسين مرموقين وأبطال قدامى ومآثر أسطورية، مثل مآثر سادكو Sadko تاجر نفجرد. وكان المكفوفون والعرج يطوفون بالقرى ينشدون مثل هذه الأغاني والأناشيد والتراتيل المقدسة. وكان كل الأدب المكتوب تقريباً مقصوراً على الأديرة، وكان يخدم الأغراض الدينية.
وكان الرهبان هم الذين وصلوا عندئذ برسم الأيقونات إلى فن كامل، فكانوا يأتون بلوحة صغيرة من الخشب، مغطاة بالقماش أحياناً، ينشرون عليها طبقة لزجة ومن ثم يرسمون عليها الصورة ويضعون الألوان، ثم يغطونها بالطلاء ويضعونها في إطار معدني. وكانت الموضوعات تحددها السلطات الدينية، أما الأشكال والسمات فكانت تقتبس من النماذج البيزنطية، وعادوا بها أدراجهم في تطور مستمر عبر فسيفساء القسطنطينية إلى رسوم الاسكندرية الهلينستية. وأحسن أيقونات هذا العصر هي صورة لا يعرف
اسم صاحبها تمثل "المسيح يرقى عرش السماء"موجودة في كاتدرائية صعود العذراء في موسكو، وصورة دخول المسيح إلى اورشليم- وهي من عمل مدرسة نفجرد، والثالوث المقدس للراهب أندريه روبليوف في دير الثالوث المقدس. ورسم روبليوف وأستاذه تيوفانس االاغريقي، لوحات جصية جدارية تجمع بين الطراز البيزنطى الجريكو في فلاديمير وموسكو ونفجرد، ولكن الزمن أعمل أثره فيها.
إن كل حاكم كان يبرز عظمته ويريح ضميره ببناء كنيسة أو دير، أو تخصيص الأوقاف والهبات لهذا أو تلك. وقد انضمت الأشكال والحوافز من أرمينية وفارس والهند والتبت ومنغوليا وإيطاليا واسكنديناوه- انضمت إلى التراث البيزنطي السائد، لتشكل عمارة الكنيسة الروسية، بما فيها من جمال نعدد الوحدات، والقبة المذهبة في الوسط، والقباب البصلية الشكل التي صممت بطريقة رائعة لمنع تراكم مياه المطر والثلوج. وبعد سقوط القسطنطينية وطرد التتار قل اعتماد روسيا على الفن البيزنطي والفن الشرقي، وجاء التأثير من الغرب ليعدل من الطراز السلافي. وفي سنة 1472 راود الأمل إيفان الثالث في أن يرث حقوق الأباطرة البيزنطيين وألقابهم، ومن ثم تزوج" زو باليولوغوس Zoe" ابنه أخي آخر حكام الامبراطورية الشرقية، وكانت قد نشأت في روما وتشربت شيئاً من بواكير عصر النهضة، وقد جلبت معها بعض العلماء الاغريق، وأظهرت إيفان على الفن الإيطالي، وربما كان بإيحاء منها إرساله لأول بعثة روسية إلى الغرب (1474)، وقد أصدر إليها توجيهاته بالحصول على الفنانين الايطاليين لموسكو. وقبل الدعوة ريودلفو فيرافانتي البولوني الذي كان يلقب بأرسطو بسبب تعدد مواهبه، ثم تصيد المبعوثون الروس بعد ذلك بييرو سولاريو، والفيزيونوفي وعدة فنانين آخرين، وهؤلاء الايطاليون هم الذين أعادوا بناء الكرملين مع معاونين وعمال من الروس.
وكان يوري دلجوروكى Vuri Delgoruki قد أسس موسكو سنة 1156 بأن أقام سوراً حول داره (فيللا)، التي كانت تقع في موقع استراتيجي عند التقاء نهرين، فكان هذا الحصن "Kreml" أول شكل للكرملين. واتسع مع الزمن هذا النطاق، وقامت الكنائس والقصور داخل سياج مرصوص من البلوط، ونذر إيفان الثالث نفسه لتعديل هذه المجموعة بأكملها. ومن الواضح أن فييرافانتي Fieravante هو الذي أعاد بناء كاتدرائية صعود العذراء القديمة في الكرملين (1475-1479) حيث توج القياصرة فيما بعد وبقى الطراز بيزنطيا مع زخرفة إيطالية. وأضاف مهندسون معماريون من بسكوت داخل نطاق الكرملين "كاتدرائية عيد البشارة" الصغيرة (1484-1489). ثم أقام ألفزيو Alevisio في الكرملين كاتدرائية رئيس الملائكة (1505-1509). وفيما بين 1485-1508 أعاد سولاريو وآخرون تسوير المنطقة بالآجر القرنفلي على طراز قلعة سفورزسكو في ميلان (5). وهكذا- ترى أنه من وسط روسيا الزاخر المعابد، ومن قلب هذه الوحدة المتسلطة التي تركزت فيها السلطتان الدنيوية والدينية، وسط أمراء موسكو العظام ومطارنتها حكمهم ونفوذهم على النبلاء والتجار والفلاحين، ووضعوا بالدماء والعظام وبالتقي والورع أسس واحدة من اقوى الامبراطوريات في العالم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق