1269
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هجرات الإصلاح الديني -> الإصلاح الديني السوي
2- الإصلاح الديني السويدي
كان جوستافوس لا يزال شاباً في السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن فارع الطول، كما نعهد في الرجال من أهل الشمال، ولكنه كان يتمتع بقوة بدنية مثل أي قرصان إسكنديناوي، وكان وجهه المستدير متورداً بحمرة الصحة، ولحيته الصفراء الطويلة تضفي عليه وقار الملك أكثر من دلالتها على سنه، وكانت أخلاقه رائعة بالنسبة إلى ملك، بل إن الكنيسة التي قدر له أن ينبذها بعد ذلك بوقت قصير لم تستطع أن تجادل في تقواه. ووقف نفسه على القيام بأعباء الحكم بنشاط لا يعرف الأناءة، جعله ينزلق أحياناً إلى التوسل بالعنف أو الاستبداد، بيد أن ظروف السويد عند ارتقائه العرش كانت تبرر أو تكاد طبعه وحكمه المطلق. وقد ترك آلاف الفلاحين، غمرة فوضى الحرب، حقولهم دون أن يزرعوها، وهجر عمال التعدين مناجمهم، ودمر الصراع المدن، وخفضت قيمة العملة وأفلست الخزانة العامة، وأزهقت أرواح أصحاب
العقول المدبرة في البلاد في "حمّام الدم". واعتبر البارونات الإقطاعيون الباقون على قيد الحياة جوستافوس حديث النعمة، ونظروا باحتقار إلى ادعائه الحق في الحكم. ودبرت المؤامرات لخلعه فقضى عليها بيد من حديد. وكانت فنلندة، التي كانت جزءاً من السويد، لا تزال في أيدي الدنمركيين، وكان سورن نوربي أمير البحر الدنمركي يحتفظ بجزيرة جوتلاند الاستراتيجية، وضجت لوبك مطالبة بسداد قروضها.
وكانت أول حاجة ملحة استشعرتها الحكومة مال يدفع للقوات المسلحة التي تحميها، ثم للموظفين الذين يقومون على شؤونها، أو وعد بدفع هذا المال، ولكن الضرائب في السويد أيام فازا كانت تكاد تكلف في جبايتها أكثر من المتحصل منها لأن الذين كان في وسعهم وحدهم أن يدفعوها كانوا أقوياء جداً إلى الحد الذي يقاومون فيه جبايتها. وخضع جوستافوس لما اقتضته الحاجة الملحة من تخفيض قيمة العملة مرة أخرى، بيد أن العملات الرديئة سرعان ما هبطت إلى قيمتها الفعلية، وكانت إيرادات الدولة أسوأ مما كانت عليه من قبل، ولم تكن في السويد إلا جماعة واحدة غنية - هي طبقة رجال الأكليروس، فتحول جوستافوس اليهم، وطلب منهم المساعدة، واعتقد أن من العدل أن تخفف ثروة الكنيسة وطأة الفقر الذي يرزح تحته الشعب والحكومة. وكتب عام 1523 رسالة إلى الأسقف هانز براسك من لنكوبنج، يطلب فيها هبة قدرها 5.000 جيلدر للدولة. فاحتج الأسقف ثم أذعن. وأرسل فازا طلباً عاجلاً إلى كنائس السويد وأديارها بضرورة تسليم كل الأموال والمعادن الثمينة، التي ليست ضرورية لمواصلة خدماتها، إلى الحكومة بصفة قرض، ونشر قائمة بالمبالغ التي يتوقع الحصول عليها من كل مصدر. ولم تكن الاستجابة إليه كما توقع، وبدأ يتساءل: ما إذا كانت الحكمة تقضي منه أن يفعل كما كان يفعل الأمراء اللوثروين في ألمانيا - فيصادر ثروة الكنيسة تلبية لحاجات
الدولة. ولم ينسَ أن أغلب كبار رجال الأكليروس قد عارضوا الثورة، وأنهم عضدوا حكم كريستيان الثاني في السويد.
وفي عام 1519 عاد أولاوس بترى، وهو ابن صاحب مصنع حديد سويدي بعد أن قضى بضع سنوات في الدراسة بفيتنبرج، وسمح لنفسه ببعض الهرطقات، وهو شماس في المدرسة الكاتدرائية في سترانجنارس وقال إن المطهر أسطورة، وإن الصلوات يجب أن يخاطب بها الله وحده وان الاعتراف يوجه إليه وحده، وإن الدعوة إلى ما ورد في الإنجيل من شعيرة القداس. وبدأ الناس يتداولون رسائل لوثر في السويد. فألح براسك على فازا أن يمنع بيعها، فأجاب الملك بأن "تعاليم لوثر عرضت على قضاة عدول فلم يجدوا فيها زيفاً(3)". ولعله رأى أن من حسن السياسة الاحتفاظ على سبيل الاحتياط بهرطيق يساوم الكنيسة عليه.
وأصبحت الأمور أشد إثارة عندما رفض البابا أدريان السادس أن يصادق على تعيين قاصده الرسولي جوهانس ماجنوس رئيساً لأساقفة أبسالا، واقترح إعادة جوستاف تروي عدو الثورة. فأرسل فازا إلى مجلس شورا الفاتيكان رسالة كان حرية وقتذاك (1523) بأن تفزع هنري الثامن وتسعده فيما بعد:
إذا كان عند أبينا المقدس أي اهتمام بسلام بلدنا فإنه يسرنا أن نراه يصادق على اختيار قاصده الرسولي... وسوف نستجيب لرغبات البابا فيما يختص بإصلاح الكنيسة والدين. ولكن إذا أيد قداسته أنصار كبير الأساقفة ترول الموصومين بالجريمة، مخالفاً بذلك كرامتنا وسلامة رعايانا، فإننا سوف نسمح لقاصده الرسولي بالعودة إلى روما، وسوف ندبر أمور الكنيسة في هذه البلاد بمقتضى السلطة المخولة لنا باعتبارنا ملكاً.
وأدت وفاة أدريان وانصراف كليمنت السابع بجهوده لمقاومة لوثر وشارل الخامس وفرانسيس الأول، إلى ترك فازا حراً في المضي قدماً بالإصلاح
الديني السويدي، فعين أولاوس بترى في كنيسة سانت نيكولاس استكهولم، وعين لورانتيوس شقيق أولاس أستاذاً للاهوت في جامعة أبسالا، ورفع مصلحاً دينياً ثالثاً وهو لورانتيوس أندريا إلى رتبة رئيس شمامسة الكاتدرائية. ودافع أولاوس بترى عن اللوثرية في مناظرة دارت بينه وبين بيترجال (27 ديسمبر سنة 1524) في مقر الأسقفية بالكاتدرائية، برئاسة الملك وقضى فازا بفوز أولاوس، ولم ينزعج عندما اتخذ أولاس زوجة له (1525)، قبل زواج لوثر باربعة شهور، ومهما يكن من أمر فإن الأسقف براسك فزع بسبب هذه المخالفة لرهبانية رجال الأكليروس، وطلب من الملك أن يقضى على بترى بالحرمان. فأجاب جوستافوس بأن أولاوس يجب أن يعاقب إذا كان قد ارتكب خطأ، ولكن "يخيل إلي أن من العجب أن يعاقب المرء بسبب الزواج (وهو شعيرة لا يحرمها الله)، ولا يقع المرء تحت طائلة الحرمان بسبب الفسوق وغيره من الآثام(4)" وبدلاً من أن يحكم على بترى لأنه خالف القانون انتدبه هو وشقيقه لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة السويدية. وساعدت النسخة المترجمة إلى اللغة الدارجة، كما حدث في كثير من البلاد الأخرى، على تكوين اللغة القومية وتحرير الدين القومي.وعد جوستافوس، مثل معظم الحكام، أي إجراء يقوم به لتدعيم مركز بلاده أو عرشه مسارياً للأخلاق، وحرص على ترقية الأساقفة الذين يذعنون لخططه إلى مرتبة المطرانيات السويدية ووجد أسباباً لا يستطيع دفعها لنزع ملكية أراضي الأديار، ولما كان قد تقاسم الأسلوب مع النبلاء فإنه فسر ذلك بأنه إنما كان يعيد إلى العلمانيين ما أغرى أجدادهم على أن يهبوه للكنيسة، وشكا البابا كليمنت السابع من أن القساوسة السويديين كانوا يتزوجون، ويقدمون القربان بالخبز والنبيذ، ويهملون شعيرة المسح الأخير ويغيرون شعيرة القداس وبعث بنداء للملك بأن يظل مخلصاً للكنيسة، ولكن جوستافوس كان قد قطع شوطاً بعيداً فلم يستطع أن يتراجع، وكانت
العقيدة المحافظة حرية بأن تخرب خزائنه، ونادى في مجلس فستيريس (1527) بالإصلاح الديني علناً.
كان اجتماعاً تاريخياً في تكوينه ونتائجه معاً. فقد اجتمع أربعة أساقفة وأربعة من كبار القساوسة وخمسة عشر عضواً الركسراد Riksraad و129 نبيلاً واثنان وثلاثون من أوساط الناس وأربعة عشر نائباً لعمال المناجم و104 ممثلاً للفلاحين، وكان هذا مجلساً وطنياً يمثل أعرض قاعدة بين المجالس في القرن السادس عشر. وطرح كبير وزراء الملك اقتراحاً ثورياً أمام المجلس، فقال إن الدولة قد افتقرت إلى المال إلى حد عجزها عن القيام بتبعاتها لخير الشعب، وأن الكنيسة كانت غنية جداً إلى الحد الذي يسمح لها بأن تحول جانباً كبيراً من ثروتها إلى الحكومة، ويبقى لها مع ذلك ما يكفي لأن تقوم بجميع التزاماتها. وحارب الأسقف براسك لآخر لحظة من أجل مثله العليا وأملاكه العقارية، فأعلن أن البابا قد أمر رجال الأكليروس بالدفاع عن أملاكهم. وصوت المجلس في صف القائلين بإطاعة البابا. ورأى جوستافوس أن يقامر على كل شيء برمية واحدة، فأعلن أنه إذا كان هذا حكم المجلس والأمة فإنه سيستقيل ويرحل عن السويد، وظل المجلس في نقاش مستمر طوال ثلاثة أيام. ووقف الأوساط ورجال الفلاحين إلى جانب الملك، وكان لدى النبلاء سبب وجيه للتحرك في الاتجاه نفسه، واقتنع المجلس آخر الأمر بأن فازا أعظم قيمة للسويد من أي بابا، فوافق على رغبات الملك. وتحولت الأديار في فترة العطلة أو في ختام مجلس فستيريس إلى إقطاعيات للملك، وإن سمح للرهبان بالإفادة منها، وتقرر إعادة كل الأملاك التي منحها النبلاء للكنيسة منذ عام 1454 إلى ورثة الواهبين، وأن يسلم الأساقفة قصورهم إلى التاج، وحرم على الأساقفة أن يسعوا إلى الحصول على تأييد البابا لتعيينهم، وتقرر أن يسلم رجال الأكليروس إلى الدولة كل دخل ليست شعائرهم الدينية في حاجة إليه، ووضع حد للاعتراف السري، وتقرر أن تعتمد العظات كلها على الكتاب المقدس وحده. وكان الإصلاح الديني في السويد، بصورة قاطعة أكثر منه في أي مكان آخر، تأميماً للدين وانتصاراً للدولة على الكنيسة.
وعاش فازا بعد هذه الأزمة ثلاثاً وثلاثين عاماً، وظل حتى النهاية حاكماً مطلقاً... قوياً ولكنه يعمل لخير شعبه... وكان مقتنعاً بأن السلطة المركزية وحدها هي التي تستطيع أن تعيد النظام والرخاء إلى السويد، وأنه في مهمة معقدة كهذه لا يستطيع أن يتوقف عند كل خطوة ليستشر مجلساً متروياً. وبفضل تشجيعه وتنظيمه صبت مناجم الشمال حديدها في أدوات الحرب السويدية، واتسعت رقعة الصناعة، وأبرمت معاهدات تجارية مع إنجلترا وفرنسا والدنمرك وروسيا أوجدت أسواقاً للسلع السويدية، وجلبت إلى السويد منتجات من أثنى عشرة بلداً، وأضفت تهذيباً جديداً وثقة على حضارة كانت قبله معتقلة في سذاجة ريفية وأمية. وازدهرت السويد وقتذاك كما لم تزدهر من قبل.
واشتبك جوستافوس في عدة حروب، وقمع أربع ثورات وعقد قرانه على ثلاث زوجات على التعاقب، وأنجبت له الأولى ولداً أصبح فيما بعد أريك الرابع عشر، وأنجبت له الثانية خمسة أولاد وخمس بنات أما الثالثة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما تزوجها وهو في السادسة والخمسين فقد عمرت بعده ستين عاماً. وأغرى الرجسراد Rigsraad بأن يقبل أبناءه ورثة للعرش وأن يجعل وراثة العرش مقصورة على الذكور كقاعدة تتبع في الملكية السويدية.
وصفحت السويد عن حكمه المطلق لأنها أدركت أن النظام أصل الحرية وليس ثمرة لها. وعندما مات (29 سبتمبر سنة 1560)، بعد حكم دام سبعة وثلاثين عاماً دفن في كاتدرائية أبسالا في احتفال صدر عنه بالحب وتميز بالشرف وهو لم يمنح شعبه الحرية الشخصية التي كانوا يستحقونها بصفة خاصة فيما يبدو، ولكنه منحهم حرية جماعية من السيطرة الأجنبية في الدين أو الحكم، وقد هيأ الظروف التي استطاعت أمته في ظلها أن تصل إلى درجة
النضج في مجالات الاقتصاد والأدب والفن. كان الأب الحقيقي للسويد الحديثة.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق