1264
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> من روبرت بروس إلى جو -> الإسكتلنديون الذين ل
الفصل السابع والعشرون
من روبرت بروس إلى جون نوكس
1300 - 1561
1- الإسكوتلنديون الذين لا يقهرون
إن الجنوب الحار اللطيف يولد الحضارة والشمال البارد القاسي يتغلب مراراً على الجنوب المتهاون الكسول ويستوعب الحضارة ويحورها، وإن بلاد أقصى الشمال - سكوتلندة والنرويج والسويد وفنلندة - لتكافح العناصر التي تكاد تشبه الظروف القطبية الشمالية لتقوم بشيء من الترحيب بالحضارة وتسهم فيها وهي تواجه ألف عاقبة.
ولقد شجعت الهضاب المجدبة الخالية من الطرق على قيام الإقطاع ولم تشجع على الزراعة، بينما رحبت الأراضي المنخفضة الخضراء الخصيبة بغزوة بعد غزوة قام بها الإنجليز الذين لم يستطيعوا أن يدركوا لماذا لا تستقبل سكوتلندة تدفعهم عليها هم وملوكهم. وكان الإسكوتلنديون قديما ً من الكلتيين واختلطوا في القرون الوسطى بالإيرلنديين والنرويجيين والإنجليز والساكسون والنورمانديين، وما أن حل عام 1500 حتى كانوا قد أصبحوا شعباً ضيق الأفق في المشاعر والأفكار - ومثلهم في ذلك مثل شبه جزيرتهم، عميق الغور في الخرافة والأساطير مثل الضباب المنتشر عندهم معتزاً بنفسه مثل قننه البحرية، فظاً مثل أرضه، متهوراً مثل سيوله الجارفة، وهو شرس ورقيق، قاسٍ وشجاع في آن واحد، ولا يقهر أبداً. ويبدو أن الفقر ضارب
بجذوره وظروفه الجغرافية والأخلاق في فقره، وهكذا نشأ الشح من التربة الحانقة، وكان الفلاحون يرزحون تحت وطأة الكدح والنصب، فلم يكن لديهم متسع من الوقت لكتابة الرسائل، أما النبلاء الذين أبقوهم في العبودية فقد فاخروا بالأمية، إذ وجدوا ألا فائدة من تعلم حروف الأبجدية في ثاراتهم أو حروبهم، وقسمت الجبال والعشائر السكان المشتتين إلى طوائف متناظرة متهورة لا يعفون عن أعدائهم في الحرب ويعطون أماناً في السلم. ولما كان النبلاء يملكون تقريباً كل أسباب السلطة العسكرية في فرقهم الخاصة فإنهم سيطروا على المجلس النيابي وعلى الملوك. وكان لدى آل دوجلاس وحدهم 5000 تابع ودخولهم تضارع دخل التاج.
وقبل عام 1500 كانت الصناعة بدائية ومنزلية والتجارة مضطربة، والمُدن قليلة وصغيرة، وكان تعداد سكان سكوتلندة كلها وقتذاك 600.000 نسمة نصف سكان جلاسجو اليوم. وكانت جلاسجو بلدة صغيرة تعمل بالصيد وكانت برت هي العاصمة حتى عام 1542، وكان بأدنبرة 16.000 نسمة.
وعبرت روح الاستقلال الفردية والمحلية والقومية عن نفسها في الأنظمة القروية والبلدية التي تتمتع بالحكم المحلي داخل إطار الإقطاع والملكية، وسمح لأوساط الناس - المواطنين المحررين من سكان المُدن - بأن يكون لهم ممثلون في المجلس النيابي أو مجلس المقاطعات، ولم يكن يحق لهم أن يجلسوا بين زملائهم من أعضاء العموم كما في إنجلترا، ولكن بين ملاّك الأراضي من الإقطاعيين، وكانت أصواتهم تضيع في الأغلبية التي للنبلاء. ولما كان الملوك لا يستطيعون أن يوطدوا سلطانهم ضد النبلاء بالتحالف مع التجار والأغنياء والمُدن الآهلة بالسكان، كما هو الحال في فرنسا، فإنهم سعوا إلى الحصول على التأييد من ثروة الكنيسة ونفوذها.
أما النبلاء فكانوا على طرفي نقيض مع الملوك وتعلموا أن يكرهوا الكنيسة ويحبوا أملاكها وانضموا في إطلاق الصرخة العامة التي تنادي
بأن الثروة القومية إنما تصب في روما. وكان النبلاء في إسكوتلندة - وليس الملوك والتجار كما في إنجلترا - هو الذين نهضوا بالإصلاح الديني، أي تحرير العلمانيين من سلطة الكنسيين(1).
وحققت الكنيسة الإسكوتلندية عن طريق تسلطها على تقوى الناس لنفسها ثراء وسط فقر متقع وآمال معلقة على العالم الآخر. وقام مبعوث بابوي حوالي نهاية القرن الخامس عشر بإبلاغ البابا أن دخل الكنيسة في إسكوتلندة يعادل كل الدخول الأخرى مجتمعة(2). وكان الوعاظ وأوساط الناس يكادون يحتكرون معرفة القراءة والكتابة. وكان رجال الأكليروس الإسكوتلنديون في القرن السادس عشر مشهورين بالتضلع في العلم، وكانت الكنيسة بالطبع هي التي أسست جامعتي سانت أندروز وأبردين وحافظت عليهما. وكانت الأساقفة ورؤساء الأديار بعد عام 1487 ينصبون - وفي الواقع يعينون - بمعرفة الملوك الذين جعلوا من هذه المناصب مكافآت على خدمات سياسية أو رواتب لأبنائهم غير الشرعيين. ووهب جيمس الخامس ثلاثة من أبنائه من السفاح دخولاً كنسية من كلسو وملرز وهوليرود وسانت أندروز. وكانت الميول الدنيوية لهؤلاء المعينين من الأسرة الملكية مسئولة إلى حد ما عن فساد رجال الأكليروس في القرن السادس عشر.
ولكن الانحلال العام للأخلاق والنظام الذي اتسمت به الكنيسة أواخر العصور الوسطى، كان واضحاً في إسكوتلندة قبل تعيين الملوك للأساقفة بعهد طويل. وكتب هيلير بلوك الكاثوليكي المتزمت يقول: "إن فساد الكنيسة الذي استفحل شره في كل مكان في سائر أرجاء أوربا في القرن الخامس عشر، قد وصل في إسكوتلندة إلى درجة لم تعرف في أي مكان آخر(3"). ومن هنا نشأ إلى حد ما عدم المبالاة الذي نظر به عامة الناس، على ما عرفوا به من محافظة على العقيدة، إلى إحلال رجال الدين البروتستانت محل رجال الدين الكاثوليك. وشكا الملك جيمس الأول عام
1425 من فجور الرهبان وكسلهم، وفي عام 1455 اضطر قسيس في لينلثجو قبل أن يتسلم وظيفته أن يعدي عهدا بأن لن يرهن أملاك كنيسته ولن يحتفظ بـ "حظية دائمة"(4). وكان للكاردينال بيتون ثمانية أبناء من السفاح، وضاجع ماريون أو جيلفي ليلاً قبل أن يمضي ليلقى خالقه(5)، وحصل جون رئيس أساقفة هاملتون من جلسات مختلفة عقدها المجلس النيابي الإسكوتلندي على خطابات بشرعية ذريته المتزايدة. ولم يبخل شعراء من قبل الإصلاح الديني في إسكوتلندة بكلمات في هجاء رجال الأكليروس، بل إن رجال الأكليروس أنفسهم، في المجمع المقدس الكاثوليكي الإقليمي لعام 1549 عزوا انحطاط الكنيسة في إسكوتلندة إلى "الفساد في الأخلاق والفسق الدنس في حياة رجال الكنيسة من جميع الدرجات تقريباً(6)". ومهما يكن من شيء فلابد من أن نضيف أن أخلاق رجال الأكليروس كانت مجرد انعكاس لأخلاق العلمانيين - وفوق كل شيء النبلاء والملوك.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق