1276
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> توحيد روسيا -> إيفان الرهيب
2- إيفان الرهيب
1533-1584
تابع فاسيلي الثالث إيفانوفتش 1505-1533 توحيد روسيا، وضم سمولنسك إلى مملكته، وأرغم إمارتي ريازان ونفجرد- سفرسكى على الاعتراف بسيادته. وقال أحد كتاب الحوليات الروس "ليس سوى الأطفال الرضع هم الذين استطاعوا أن يكفكفوا الدمع، عندما خضعت لحكم فاسيلى (1510) جمهورية بسكوف التي كانت يوماً مزهوة بنفسها". كانت روسيا آنذاك دولة أوربية كبرى. وتبادل فاسيلى الرسائل على قدم المساواة مع مكسيمليان الأول وشارل الخامس وسليمان القانوني وليو العاشر. وعندما حاول بعض أبناء الأرستقراطية أن يحدوا من استبداده كبح جماحهم بكلمة احتقار واحدة هي "فلاحون". ثم قطع رأس أحد النبلاء. ولما لم ينجب من زوجته أولاداً، فإنه طلقها وتزوج من هيلينا جلنسكى، وهي سيدة مصقولة بارعة مستبدة. وبعد موته صارت وصية على ابنها إيفان الرابع فاسيليفتش البالغ من العمر ثلاث سنوات. وعند موتها عاود أعضاء المجلس أبناء الطبقة العليا شغبهم، وتولت أحزابهم المتناحرة زمام الحكم تباعاً، ونشروا الفوضى والخلل في المدن نتيجة عنفهم، واستنزفوا في الحرب الأهلية دماء الفلاحين الروس البؤساء العاجزين.
وفي غمرة هذه المنازعات كاد الملك الصغير "سيد روسيا بأسرها" أن يكون مهملاً متجاهلاً بل محروماً بائساً في بعض الأحيان. ولما كان يبصر بضروب الوحشية في كل مكان من حوله، فإنه حسبها أسلوباً مقبولاً في السلوك، ومن ثم اختار أعنف ضروب الرياضة، ونشأ شاباً نكدا متقلب المزاج متشككاً. وفجأة، عندما كان بعد ولداً في الثالثة عشرة من عمره، (1544) ألقى إلى كلابه أندريه شويبسكى زعيم أحد أحزاب
النبلاء، وتولى زمام الأمور في الدولة، وبعد ثلاث سنوات قام مطران موسكو بتتويجه قيصراً، ثم أمر القيصر بأن ترسل إليه نخبة من العذارى النبيلات من مختلف أنحاء المملكة، واختار منهن أنستاسيا رومانوفا وتزوج منها، ومن لقب أسرتها سوف يتحدد عما قريب لقب أسرة حاكمة.
وفي 1550 دعا أول جمعية وطنية من جميع أنحاء روسيا، واعترف أمامها بجميع أخطائه في شبابه، ووعد بإقامة حكومة عادلة رحيمة. ولعله تحت تأثير الاصلاح في ألمانيا واسكنديناوه، درست الجمعية اقتراحاً بمصادرة أملاك الكنيسة لتدعيم الدولة. ورفض هذا الاقتراح، ولكن اتخذ قرار آخر متصل به، بمقتضاه استردت كل الأراضي المنقولة للكنيسة وغير الخاضعة للحجز، كما ألغيت كل الهبات التي منحت للكنيسة أيام كان إيفان قاصراً. ولم يعد للأديار حق حيازة أية ممتلكات دون موفقة القيصر. وهدأ بال رجال الدين نوعاً ما عندما عين إيفان الكاهن سلفستر مرشداً روحياً له، واتخذ منه ومن ألكسيس أداشيف وزيرين له، وبفضل هذين المعاونين القديرين كان إيفان في سن الحادية والعشرين سيداً على مملكة تمتد من سمولنسك إلى الأورال، ومن المحيط المتجمد إلى بحر قزوين تقريباً.
وكان همه الأول تقوية الجيش، والموازنة بين قوى النبلاء المعادين له، عن طريق هيئتين مسئولتين أمامه: فرسان القوزاق ومشاة سترلتس Strieltsi ، مزودة بالهركوبة (Harquebus) - نوع من الأسلحة النارية اخترع في القرن الخامس عشر. ونشأ القوزاق في هذا القرن من طبقة الفلاحين الذين كان مقامهم في جنوب روسيا بين المسلمين والمسكوف يقتضيهم أن يكونوا دوما على أهبة الاستعداد للقتال عند أول صيحة، كما هيأ لهم
فرصاً تتعذر مقاومتها لسلب القوافل التي كانت تنقل التجارة بين الجنوب والشمال. وجموع القوزاق الأصليون هم قوزاق نهر الدون في جنوب شرقي روسيا، وقوزاق زابوروج Zaporogue في الجنوب الغربي، وكانوا جمهوريات شبه مستقلة، ومن الغريب أنه كان يسود بينهم نظام ديموقراطي، حيث كان أرباب البيوت يختارون رئيساً تنفيذياً لجمعية منتخبة. وكانت كل الأرض ملكاً عاماً مشتركاً، ولكنها تؤجر إلى الأسرات بصفة فردية لاستخدامها استخداماً موقوتاً، وكانت الطبقات كلها متساوية أمام القانون (8). واصبح فرسان القوزاق، بسبب اشتهارهم بالشجاعة الهائلة، الدعامة الأولى لإيفان الرابع داخل البلاد وفي الحرب.
وكانت سياسته الخارجية بسيطة، فهو يريد أن تربط روسيا بين بحر البلطيق وبحر قزوين. وكانت كازان واستراخان والقرم لا تزال في قبضة التتار الذين كانوا لا يفتأون يطالبون موسكو بالجزية، ولكن عبثاً. وكان إيفان على يقين من أن أمن روسيا ووحدتها يتطلبان امتلاكها لهذه الأجزاء، والتحكم في نهر الفولجا حتى منابعه. وفي 1552 قاد القيصر الشاب 150.000 رجل إلى أبواب كازان وحاصرها لمدة خمسين يوماً. ولكن المسلمين - وكان عددهم 30.000 - قاوموا وصمدوا في عناد تحدوهم الروح الدينية وهاجموا أعداءهم في غارات متكررة، وعندما أسر نفر منهم وعلقوا على أعواد المشانق أمام الأسوار سدد إخوانهم المدافعون إليهم السهام صائحين: "خير لهؤلاء الأسرى أن يموتوا بأيدي بني وطنهم النظيفة من أن يهلكوا بأيدي المسيحيين الدنسة(9). ولما وهنت عزائم المحاصرين واصابهم القنوط بعد شهر من الاخفاق، أرسل إيفان إلى موسكو في طلب صليب عجيب، فما أن ظهرت هذه الأعجوبة أمام جنوده حتى ثارت حميتهم من جديد، وكان الله يحارب مع الجانبين. وبث مهندس ألماني الألغام في الأسوار فانهارت، واندفع الروس إلى المدينة صائحين "الله
معنا"، واعملوا الذبح في كل من لم يباعوا بوصفهم رقيقاً. وروى أن إيفان ذرف الدمع حسرة على المغلوبين قائلاً: "إنهم ليسوا مسيحيين، ولكنهم رجال" وأسكن إيفان فلول المسيحيين في الأطلال. وهتفت روسيا بأنه أول سلافي يستولي على معقل تتري، واحتفلت بالنصر، كما احتفلت فرنسا بصد المسلمين في معركة تور سنة 732. وفي 1554 استولى إيفان على استراخان، وأصبح نهر الفولجا قناة روسية تماماً. وظلت القرم في يد المسلمين حتى 1774. ولكن قوزاق نهر الدون أحنوا رءوسهم آنذاك لحم موسكو.
وما أن حرر إيفان حدوده في الشرق حتى ولى شطره متلهفاً نحو الغرب. وكان يراوده حلم تجارة روسية تتدفق غرباً وشمالاً عبر الأنهار الكبرى إلى البلطيق، وكان يحسد غرب أوربا على التوسع الصناعي والتجاري، وكان يلتمس للاقتصاد الروسي منفذاً يربط به نفسه بهذا التوسع. وفي 1553 أرسل تجار لندن سير هبو ولفبي Hugh Willoughlby وريتشارد تشانسلر لايجاد طريق في المنطقة المتجمدة حول اسكنديناوة وصولا إلى الصين، فأبحرا من هاروك Harwich في ثلاث مراكب، وهلك اثنان من الملاحين في الشتاء في لابلند، ولكن تشانسلر وصل إلى الموقع الذي أسماه البريطانيون أركنجلسك، على اسم الملاك ميكائيل، وشق تشانسلر طريقه وسط مئات الأخطار والصعاب إلى موسكو، فعقد معه إيفان، ثم مع أنطوني جنكنسني فيما بعد، معاهدات تخول "شركة لندن والمسكوف" امتيازات تجارية خاصة في روسيا.
ولكن هذه المعاهدات كانت بالنسبة لإيفان مجرد ثقوب، ولم تكن باباً أو منفذاً إلى الغرب، وأراد أن يستجلب فنيين من ألمانيا، وحشد له من هؤلاء 123 في لوبك، ولكن شارل الخامس رفض السماح لهم بالخروج. وكان النهر الكبير دوينا الجنوبي يجري من قلب روسيا ألى البلطيق قرب
ريجا، ولكنه يجري عبر ليفونيا المعادية. ولم تكن منابع دوينا والفلجا بعيدة بعضها عن بعض، ومن ثم يمكن ربط النهرين بقنوات، وهنا، يحكم "القدر المقدور" كان الطريق المائي الذي يمكن أن يعوض روسيا عن عدم تناسب أراضيها المترامية الأطراف مع سواحلها وثغورها، ومن ثم يمكن أن يتصل بحر البلطيق ببحر قزوين والبحر الأسود، كما يمكن أن يلتقي الشرق والغرب. وفي تبادل السلع والأفكار قد يستطيع الغرب أن يسدد شيئاً من دينه الثقافي القديم للشرق.
وعلى ذلك فإن إيفان في سنة 1557 ابتكر ذريعة لمهاجمة ليفونيا، وأرسل إليها بجيش تحت قيادة شاه على ، الذي كان أخيراً خان التتار على كازان. واجتاح الجيش البلاد بطريقة وحشية، فأحرق الدور والمحاصيل، واستبعد الرجال واغتصب النساء حتى الموت. وفي 1558 استولى جيش روسي آخر على نارفا التي تبعد عن البلطيق بثمانية أميال. واستنجدت ليفونيا اليائسة ببولندة والدانمارك والسويد وألمانيا، وارتعدت أوربا الوسطى بأسرها فزعا من مشهد الطوفان السلافي الذي وصل إلى الغرب، كما وصل في القرن السادس إلى نهر الألب. واستثار ستيفن باثوري حمية البولنديين وقادهم إلى الانتصار على الروس عند بولتسك (1582). ولما حلت الهزيمة بإيفان سلم ليفونيا إلى بولندة.
وقبل هذه النكسة الحاسمة بزمن طويل، كان اخفاق حملات إيفان قد أدى إلى الثورة في الداخل، حيث كان التجار الذين كان إيفان يسعى إلى إثرائهم بفتح طرق جديدة للتجارة، قد فقدوا صوابهم بسب هذه الحرب المدمرة الباهضة التكاليف. وعارض النبلاء هذه الحرب لأنها لا بد أن توحد بين دول البلطيق، بسلاحها المتفوق، ضد روسيا التي ما زالت إقطاعية في تنظيمها السياسي والعسكري. وفي أثناء الحرب وفيما قبلها كان إيفان قد ارتاب في مؤامرات النبلاء ضد عرشه، وفي اثناء مرض كاد يقضي عليه
?
(1553) علم أن جماعة قوية من النبلاء كانوا يدبرون أن يبعدوا، عند موته، ابنه ديمتري ويتوجوا الأمير فلاديمير الذي كانت أمه تمنح الجيش عطايا كثيرة، وكان أقرب مستشاريه سلفستر وأداشف ضالعين مع النبلاء، ولمدة سبع سنوات بعد الارتياب فيهما، أبقى إيفان على هذين الموظفين في مواقع السلطة، ثم طردهما في 1560، ولكن دون عنف. ومات سلفستر في أحد الأديار، وقضى أداشف نحبه في إحدى الحملات على ليفونيا، وهاجر عدة نبلاء إلى بواندة وحملوا السلاح ضد روسيا، وفي 1564 لحق الأمير كوربسكي Kurbsky صديق إيفان الحميم والقائد العام، بهؤلاء الهاربين، زاعما أن القيصر يدبر قتله، ومن بولندة أرسل كوربسكي إلى إيفان ما يصل إلى أن يكون أعلاناً للحرب عليه، متهماً إياه بأنه مجرم مجذوم. وتدعى الأساطير أن إيفان عندما قرأ عليه الخطاب دق إحدى قدمي حامله بالمسامير في الأرض بضربة من العصا الملكية، ولكن القيصر تنازل فرد على كوبسكي بدفع يقع في اثنتين وستين صفحة، وكان رداً بليغاً مشوشاً، عاطفياً مليئاً بمقتبسات من الكتاب المقدس، عدد فيه دسائس النبلاء لخلعه. واعتقاداً منه بأنهم كانوا قد دسوا السم لأنستاسيا، تساءل إيفان: " لماذا فرقتم بيني وبين زوجتي؟ ألم تأخذوا مني وليدي الصغير؟ لم يحدث قط أن ذبح أحد من النبلاء... لقد فتشت عبثاً عن رجل يستشعر الشفقة بي، ولكني لم أجد أحداً(10)". وكتب كوربسكي في أخريات أيامه تأريخاً قاسياً عدائياً لإيفان، وهو أهم مرجع لنا في إرهاب إيفان.
إن هذه المؤامرات ومغادرة البلاد توضح لنا أشهر حادث متميز في عهد إيفان. وفي 12 ديسمبر 1564 غادر إيفان موسكو مع أسرته وأيقوناته وكنوزه، مع قوة صغيرة من الجنود، وسار إلى مقره الصيفي في اسكندروفسك. وأرسل إلى موسكو بيانين، زعم الأول أن النبلاء
والبيروقراطية والكنيسة تآمروا ضده وضد الدولة، وأنه لذلك "مع اشد الأسف" اعتزل الآن العرش، ليعيش في عزلة. أما البيان الثاني فقد أكد فيه لأهل موسكو أنه أحبهم وأن لهم أن يبقوا واثقين من نياته الطيبة دوما.والحق أنه نمسك بمحاباة العامة والتجار ضد الأرستقراطية، وقد شهد بذلك ما قامت به الطبقتان الوسطى والدنيا آنذاك، فقد انفجروا يرددون صيحات التهديد ضد النبلاء ورجال الدين، مطالبين بأن يشخص إلى القيصر وفد من الأساقفة والنبلاء، ليرجوه في العودة إلى العرش، وتم ذلك وقبل إيفان "أن يتولى أمر الدولة من جديد"، بشروط يحددها هو فيما بعد.
وعاد إيفان ألى موسكو في فبراير 1565، ودعا الجمعية الوطنية من رجال الدين والنبلاء، وأعلن أنه سيعدم زعماء المعارضة ويصادر أملاكهم، وأنه من الآن فصاعدا سيتولى كل السلطة دون استشارة النبلاء أو الجمعية، وأنه سينفى كل من يخالف أوامره العالية ومراسيمه، ولما كانت الجمعية تخشى ثورة الجماهير فقد استسلمت وانحلت، وقرر إيفان أن روسيا سوف تنقسم في المستقبل إلى قسمين: الأول "زمستشينا Zemstchina أو مجموعة المقاطعات ، ويظل تحت حكم النبلاء ومجلسهم "الدوما"، ويخضع لضريبة إجمالية يفرضها القيصر، ويكون تابعاً له في الشئون العسكرية والخارجية، ويكون فيما عدا ذلك حراً يتمتع بحكم ذاتي. والقسم الثاني "أوبرشنينا Oprichnina - الممتلكات المستقلة " يحكمه هو أى إيفان، ويتكون من الأراضي التي يخصصها هو "الطبقة المنفصلة Oprichniki " التي يختارها القيصر للشرطة ولادارة نصف المملكة هذا، ولحمايته من الشغب، ولتقوم بحمايته هو شخصياً، ولتقدم له الخدمات العسكرية الخاصة به. واختير الموظفون الجدد- وكانوا في البداية ألفاً وبلغ عددهم في النهاية ستة آلاف، اختيروا على الأخص من بين صغار أبناء النبلاء، ولما لم يكن لديهم
أرض، فقد كانوا على استعداد لتأييد إيفان مقابل الضياع التي منحهم إياها. واقتطع جزء من هذه الأراضي من أملاك التاج، والجزء الأكبر منها من أملاك النبلاء الثوار التي صودرت. وبنهاية عصر إيفان كانت هذه "الممتلكات المستقلة - أوبرشنينا" تشمل نصف روسيا تقريباً، وكثيراً من موسكو وأهم طرق التجارة. وكان هذا الانقلاب مماثلاً لما حاوله بطرس الأكبر بعد ذلك بمائة وخمسين عاماً: الارتفاع بطبقة جديدة إلى السلطة السياسية، والارتقاء بالتجارة والصناعة في روسيا. وفي مثل هذا القرن الذي كانت فيه القوة العسكرية كلها من الوجهة العملية في قبضة الأستقراطية، تطلب المشروع شجاعة مفرطة في القيصر الذي لم يتزود إلا بجنده الخصوصيين، وبالتأييد الهزيل الذي لا يعتد به من جانب والجماهير. ويؤكد لنا بعض المعاصرين أن إيفان - في هذه الفترة الدقيقة - وهو آنذاك في سن الخامسة والثلاثين، كان يمثل ابن العشرين (11)
واتخذ إيفان آنذاك الاسكندروفسك مقراً دائماً، وحولها إلى قلعة محصنة. وربما كان التوتر الذي انتابه بسبب ثورته ضد النبلاء بالاضافة إلى الاخفاق في الحرب الطويلة الأمد مع ليفونيا، سبباً في اعتلال عقله الذي لم يكن قط كامل الاتزان. ولقد ألبس حراسه غفارات سوداء، وهي لباس الكهنة، وقلنسوات ضيقة، وأطلق على نفسه لقب رئيس الرهبان، ورتل مع فرقة المرتلين، وشهد معهم القداس يومياً، وكم خر ساجداً أمام المذبح في حماسة حتى تكررت إصابات جبهته بالكدمات. وزاد هذا من الفزع الذي بثه في روسيا التي بدأت تحس نحوه بمزيج من التبجيل له والاشفاق عليه، وحتى أفراد "الطبقة المنفصلة"Oprichnikii كانت تمثل أمامه في ذله وخشوع حتى أطلق عليهم أنهم حاشيته أو بلاطه.
واقترن انقلاب إيفان بالارهاب، شأنه في ذلك أى انقلاب آخر، وقبض على معارضيه وأعدموا دون شفقة أو رحمة، وجاء عرض
لأحداث هذه السنوات (1560-1570) دونه أحد الرهبان، ويحتمل أن يكون معادياً، أن عدد قتلى غضبه بلغ 3470. ويقول هذا العرض التأريخي أن الضحية كان في الغالب يعدم "مع زوجته" أو "مع وزوجته وأطفاله"، وفي حالة واحدة "مع عشرة من الرجال جاءوا لمساعدته (12). واعدم الأمير فلاديمير مع أمه، أما أولاده فقد أبقى إيفان على حياتهم ووفر لهم أسباب العيش. ويقال إن القيصر طلب إلى الرهبان أن يصلوا من أجل نفوس ضحاياه. ودافع إيفان عن إعدامهم بأن هذا هو العقاب المعتاد لجريمة الخيانة وخاصة زمن الحرب. وقد سلم أحد ممثلي بولندة بهذه الحجة، وتضرع إنجليزي شهد شيئاً من هذه المجزرة قائلاً :"ندعو الله أن نتمكن من تعليم ثوارنا العنيدين واجبهم نحو أميرهم بالطريقة نفسها (13).
وجاءت ذروة هذا الارهاب في نفجرد. وكان إيفان قبل ذلك بفترة وجيزة قد منح رئيس الأساقفة مبلغاً كبيراً من المال لاصلاح الكنائس، وظن أ،ه كان بذلك محبوباً من رجال الدين هناك على الأقل. ولكنه أبلغ أنه قد وجدت وثيقة، ليست بالضرورة غير مزيفة، خلف صورة للعذراء في أحد أديار نفجرد، وفيها عهد بالتعاون بين نفجرد وبسكوف مع بولندة لمحاولة خلع القيصر. وفي الثاني من يناير 1570 انقضت على المدينة قوة عسكرية قوية يقودها الأوبرشنيكي، وأعملت النهب والسلب في الأديرة، وقبضت على 500 من الرهبان والكهنة. وفي 6 يناير وصل القيصر إلى هناك، وأمر أن يجلد بالسياط حتى الموت كل من لم يستطع من رجال الدين هؤلاء أن يدفع فدية قدرها 50 روبلا، كما جرد رئيس الأساقفة من ثوبه وسجن. وجاء في "سجل أحداث نفجرد الثالث" أنه قد أعقب هذا مذبحه الأهالي التي دامت خمسة أسابيع. وفي بعض الأحيان كان خمسمائة فرد يذبحون في اليوم الواحد، وتقول البيانات الرسمية أن عدد القتلى بلغ 2770، واحتج إيفان بأنهم 1505 فقط. ولما استقر في الأذهان أن التجار، وهم متلهفون
على إعادة فتح باب التجارة مع الغرب، قد شاركوا في المؤامرة، فقد أحرق جنود القيصر كل حوانيت المدينة، ودمرت بيوت التجار في الضواحي، وحتى البيوت في المزارع المجاورة للمدينة لحقها التدمير. وما لم يكن رواة الأحداث في الأديار قد بالغوا في وصف المذبحة، فإنه يجدر بنا أن نعود بالذاكرة إلى عقاب شارل الجرىء لثوار لييج 1468، وأعمال السلب والنهب في روما على يد جنود شارل الخامس 1527 لنجد أمثلة شبيهة بانتقام إيفان الوحشي. ولم تستعد نفجرد قط تفوقها القديم في الحياة التجارية في روسيا. واتجه إيفان بعد ذلك إلى بسكوف حيث حظر على جنوده السلب والنهب ، ثم عاد أدراجه إلى موسكو حيث احتفل في حفلة تنكرية ملكية بإفلاته من مؤامرة خطيرة.
إن حكماً مثل هذا ممتلئاً بالفتن والشغب لا يكاد يساعد على التقدم الاقتصادي أو إنجاز الأعمال الثقافية. لقد انتعشت التجارة وقت السلم وانتكست زمن الحرب. وفي الأراضي المخصصة لطبقة الأوبرشنيكي، وفي سائر الأراضي فيما بعد، كان الفلاح مرتبطاً قانوناً بالأرض، على أساس أنه وسيلة للنهوض بالزراعة المستمرة فيها (1581) على أن نظام الرق الذي كان نادراً في روسيا قبل 1500، صار في 1600 قانوناً من قوانين الأرض. وكانت الضرائب باهظة فاحشة، واندفع التضخم المالي بشدة، فكان الروبل في 1500 يساوي 94، وفي 1600 يساوي 24 من الروبلات في 1910(14). وليس بنا من حاجة إلى تتبع الهبوط إلى أبعد من ذلك، إلا لنعلم، كدرس من دروس التاريخ، أن النقود هي آخر شىء يجدر بالانسان أن يدخره.
وأرغم إسراف الأسر القصير النظر في الإنجاب وإرهاق التربة، الناس على هجرة متواصلة لا تهدأ إلى أراض بكر. فلما اجتاز المهاجرون جبال الأورال وجدوا أمامهم مملكة للتتار سكانها من قبائل البشكير المسلمة
Bashkirs وقبائل أوستياك (قبائل من الفنلنديين والماجيار في غرب سيبيريا) نعرف عاصمتها باسم سيبير Sibir (وهي من ألفاظ القوزاق). وفي 1581 جند سيمين ستروجانوف 600 من القوزاق وأرسلهم تحت قيادة إرماك تيموفيفتش لغزو هذه القبائل، وقد تم له ذلك، وأصبحت سيبيريا الغربية جزءاً من المملكة الروسية المتضخمة. أما إرماك الذي كان من زعماء قطاع الطرق فقد مجدته الكنيسة الأرثوذكسية، وضمته إلى قائمة القديسين.
وكانت الكنيسة هي الحاكم الحقيقي لروسيا، لأن خشية الله كانت سائدة في كل مكان، على حين كان سلطان إيفان محدوداً. وكانت قواعد الطقوس الدينية، إن لم تكن قواعد الفضيلة والأخلاق، تقيد الجميع، حتى القيصر نفسه، وكان الكهنة يراقبون هل غسل يديه بعد مقابلته لسفراء الدول من خارج نطاق الأرثوذكسية. وكانت الصلاة وفق الطقوس الرومانية الكاثوليكية غير مرخص بها، أما البروتستانتية فقد تسامحوا معها على أساس المشاركة في العداء للبابا في روما. وكان إيفان الرابع - مثل هنري الثامن - يزهو بعلمه في اللاهوت. وانغمس مرة في مناقشة عامة في الكرملين مع كاهن لوثري من بوهيميا، ويجب أن نسلم بأنه، وهو أعنف القياصرة، أدار المناقشة في كياسة أكثر مما بدا في النازعات الدينية في ألمانيا المعاصرة(15). ولكن إيفان لم يتصرف بمثل هذه الكياسة مع رجل لاهوتي آخر، ذلك أنه ذات يوم أحد في سنة 1568 أثناء الصلاة في كنيسة الصعود، رفض فيليب مطران موسكو أن يمنح إيفان البركة الي توسل إليه فيها، وطلب القيصر ذلك ثلاث مرات ولكن دون جدوى، ولما سأل أتباعه عن سبب لهذا الرفض، بدأ فيليب يعدد جرائم إيفان وفسوقه، فصاح القيصر: "هدئ من روعك وامنحني البركة" فأجاب المطران: "إن سكوتي يوقعك في الخطيئة ويستوجب هلاكك". وغادر إيفان المكان دون أن يمنح البركة. وظل فيليب شهراً تعروه الدهشة والعجب والقلق،
ولكن لم يمس فيه بسوء. وبعده دخل أحد خدم القيصر الكاتدرائية وقبض على المطران وساقه إلى أحد السجون في تفر. ولا يعلم مصيره علم اليقين، ولكن الكنيسة الروسية تؤيد القول بأنه أحرق حياً. وفي 1652 ضم إلى قائمة القديسين، وبقيت رفاته حتى 1917 موضع إجلال وتبجيل في كنيسة صعود العذراء.
وظلت الكنيسة تنتج معظم الأدب والفن في روسيا. ودخلت الطباعة في سنة 1491، ولكن اقتصر المطبوع طوال هذا العهد على كتب الصلوات وكان زعيم العلماء آنذاك هو المطران مكاريوس، الذي شرع في 1529، بمعونة بعض السكرتيرين في جمع ما تبقى من آداب بلده في اثنى عشر مجلداً ضخماً، ومرة أخرى نرى أن معظمها كان دينياً تماماً، وفي الكثير الغالب يتعلق بالأديار ووقائع التاريخ حسب ترتيب حدوثها. وألف سلفستر معلم الاعتراف لايفان كتاباً مشهوراً هو "كتاب الأسرة"، بمثابة دليل للاقتصاد المنزلي والسلوك، والخلاص الأبدي، وإنا لنلحظ فيه حث الزوج على أن يضرب زوجته برفق، وتعليمات دقيقة لآداب البصق والمخاط (16). ولم يكن إيفان نفسه، كما تدل رسائله، أقل كتاب هذا العصر براعة وقوة.
وكان أروع إنتاج فني روسي في عهد إيفان هو كنيسة "بازل المبارك" التي لا تزال قائمة بعيداً عن الكرملين في أحد أطراف الميدان الأحمر. ولدى عودة القيصر من حملاته الظافرة ضد كازان وأستراخان (1554) شرع في بناء ما أسماه كاتدرائية "شفاعة العذراء" وهي التي نسب إليها انتصاراته بحكمة. وحول هذا المقام المتوسط من الحجر، شيدت فيما بعد سبعة معابد من الخشب خصصت لقديسين كان إيفان قد تغلب على أعدائه في أيام أعيادهم. وتوج كل معبد منها بقية رشيقة مزدانة بالرسوم، وكانت القباب كلها بصلية الشكل، وإن اختلفت زخرفة كل منها. وأضفى آخرها وهو
الذي أقيم للقديس بازل في 1588 : أضفى اسمه في وقت لاحق، على هذه المجموعة الرشيقة الفاتنة. وتنسب أسطورة لا يمكن التغاضي عنها هذه العمارة إلى أحد الايطاليين، وتروى كيف أن إيفان فقأ عينيه لئلا ينافس هذه التحفة الفنية الرائعة. ولكن اثنين من الروس: بارما وبوستنيكوف هما اللذان وضعا التصميم، ولكنها اقتبسا بعض حركات عصر النهضة في زخرفتها فحسب(17). ويوم أحد السعف من كل سنة، كجزء من حكمة الدولة، سار سادة موسكو ورجال الدين فيها في موكب رهيب إلى هذه الكاتدرائية، على حين امتطى المطران صهوة جواد مزودة بآذان صناعية، ليقلد الحمار الذي قيل إن السيد المسيح كان يركبه عند دخوله أورشليم، وسار القيصر على قدميه يقود حصان المطران في تواضع وخشوع ممسكاً بلجامه، وكانت تحف بالموكب الأعلام والصلبان والأيقونات وحملة المباخر، على حين ردد الأطفال عبارات الشكر والثناء تضرعاً إلى السماء لتبارك الحياة في روسيا. وما أن وافى عام 1580 حتى بدا أن إيفان قد انتصر على كل أعدائه. وكان قد بقى على قيد الحياة عدد من الزوجات، وبنى بزوجة سادسة. وفكر في اتخاذ زوجة أخرى عن طريق المضارة الودية(18) (الزواج باثنين في وقت واحد).وكان له أربعة أولاد، مات أولهم في طفولته، وكان الثالث فيودور يعاني من تخلف عقلي. أما الرابع ديمتري، فزعموا أنه كان بنوبات صرع. وفي أحد أيام شهر نوفمبر 1580 أنب القيصر زوجة ابنه الثاني " إيفان" وضربها، لما بدا له من أنها ترتدي ثوباً ينافي الحشمة والوقار، فأجهضت، فما كان من ابن القيصر إلا أن وجه اللوم إلى أبيه، فضرب القيصر ابنه في سورة الغضب دون ترو بالعصا الملكية على رأسه فمات الابن لتوه من أثر الضربة. فجن جنون القيصر ندماً على فعلته، وقضى أيامه ولياليه يصرخ صراخاً عالياً من الحزن والأسى. وكان يقدم
تنحيه عن العرش صباح كل يوم، ولكن حتى أعضاء المجلس أنفسهم أصبحوا الآن يؤثرونه على أبنائه. وعاش إيفان ثلاث سنين بعد ذلك، ثم أصابه مرض غريب، جعل جسمه يتورم وتنبعث منه رائحة منتنة. وفي 18 مارس 1584 قضى نحبه وهو يلعب الشطرنج مع بوريس جودونوف، وتناثرت الاشاعات تتهم بوريس بأنه دس له السم، واعد المسرح لأوبرا عظيمة في تاريخ القياصرة.
ويجدر بنا ألا نظن أن إيفان الرابع كان مجرد غول متوحش. ونظراً لطول قامته وقوته كان يمكن أن يكون وسيماً، لولا أنفه العريض المسطح الذي كان يعلو شارباً منتشراً ولحية كثة حمراء. لقد ترجمت خطأ لفظة Groznyi بلفظة الرهيب Terrible والأرجح أنها تعني "المرعب" Awesome ،مثل لفظة أغسطس التي أطلقت على القياصرة (الرومان). وقد أطلق على إيفان الثالث نفس اللقب كذلك. وفي نظرنا، وحتى في نظر معاصريه القساة، كان إيفان الرابع قاسياً تواقاً إلى الانتقام بشكل يدعو إلى الاشمئزاز، وقاضياً لا يستشعر الرحمة.لقد عاصر محاكم التفتيش في أسبانيا، وإحراق سرفيتس ، وعادة هنري الثامن في ضرب العنق، واضطهاد الملكة ماري، ومذبحة سانت برثلميو. ويقال إنه عندما سمع بهذه المذبحة أنكر همجية الغرب(19) (ولو أن أحد البابوات رحب بالمذبحة وامتدحها). لقد كان ثمة أشياء تثير غيظه وحنقه، وتذكى النار في مزاج سريع الانفعال أكسبته الوراثة والبيئة عنفاً. ويقول شاهد عيان إنه كان في بعض الأحيان "يرغى من فمه - كما يفعل الحصان"(20) نتيجة مضايقة صغيرة أو انزعاج يسير. ولقد اعترف القيصر بخطاياه وجرائمه بل بالغ فيها أحياناً ولم يكن على أعدائه إلا أن ينتحلوا منها اتهاماتهم له.
وأكب على الدرس والتحصيل في حماسة، وجعل من نفسه أحسن متعلم من غير رجال الدين في بلده وفي زمانه. وكان يتميز بروح المرح والدعابة، ويضحك ضحكات عالية بملء شدقيه، ولكن غالباً ما كانت ابتسامته تنم على الدهاء المخيف. غطى شروره بالنيات والمقاصد الرائعة، فكان يريد أن يحمي الفقير والضعيف من الغني والقوي، ويحابي التجار والطبقات الوسطى كبحاً لجماح الأرستقراطية الاقطاعية المشاكسة، كما كان يرغب في فتح باب للتجارة والأفكار على الغرب، ويزود روسيا بطبقة جديدة من الاداريين الذين لا يتقيدون- كما تفيد أعضاء المجلس من ابناء الطبقة العليا- بالأساليب العتيقة الجامدة، ويحرر من ربقة التتار، وينتشلها من وهدة الفوضى إلى الوحدة. وكان القيصر همجياً يناضل نضالاً وحشياً ليرقى سلم الحضارة.
وأخفق إيفان لأنه لم ينضج قط إلى حد السيطرة على النفس. وكادت أن تنسى في غمرة الانقلاب تلك الاصلاحات التي كان قد خططها. وترك الفلاحين خاضعين لملاك الأرض خضوعاً أشد وأنكى من ذي قبل. وأوصد بالحروب أبواب التجارة، وساق الرجال القادرين إلى أسلحة العدو، وشطر روسيا إلى قسمين متناحرين، وسار بها إلى الفوضى. وضرب لشعبه مثلاً مفسداً للقسوة المتسمة بالورع وللأهواء الجامحة. وقتل أحسن أبنائه مقدرة وكفاية، وأسلم عرشه إلى شخصية ضعيفة أدى عجزها إلى الحرب الأهلية. لقد كان إيفان واحداً من كثيرين من رجال عصره، الذين يمكن أن يقال عنهم إنه كان من الخير لبلادهم وللإنسانية جمعاء ألا يولدوا قط.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق