1272
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هجرات الإصلاح الديني -> شارل الخامس والأراضي
5- شارل الخامس والأراضي المنخفضة
كانت تجارة نافقة في بلاد الفلاندرز إبان نضج شارل أفضل من الانصراف إلى صناعة ضعيفة مشتتة. وساد الكساد في بروجس وغنت، وعاشت بروكسل باعتبارها قصبة فلمنكية، وكانت لوفان تشكل اللاهوت وتصنع الجعة وأنتورب تتحول - وسوف تكون عند حلول عام 1550 - أغنى مدينة في أوربا وأكثرها حركة وعملاً. وحولت التجارة الدولية والمال ذلك الميناء الهزيل على نهر شلدت العريض الصالح للملاحة بفضل انخفاض المكوس الجمركية على الواردات والصادرات والارتباط السياسي مع أسبانيا وبورصة متخصصة، وشعارها يقول بأنها أنشئت ad usum mercatorum cuiusque gentis ac linguae (ليفيد منها التجار القادمون من كل البلاد والمتحدثون بجميع الألسنة(11)". وكان القيام بمشروع أي عمل حراً من قيود الطائفة الحرفية والحماية البلدية، التي أبقت الصناعة القروسطية غير متقدمة لحسن الحظ. وفتح المصرفيون الإيطاليون هناك وكالات وأقام "التجار المغامرون" الإنجليز مستودعاً وركز آل فوجر وجوه نشاطهم التجاري، وبنى الهانز مؤسستهم العظيمة بيت الشرقيين (1564). وشهد الميناء 500 سفينة تدخل إليها أو تغادرها كل يوم و 5.000 تاجر يشتغلون بتبادل السلع. وكانت حوالة مالية مسحوبة على أنتورب وقتذاك أشيع شكل للعملة الدولية. وفي هذه الفترة حلت أنتورب بالتدريج محل لشبونة، وأصبحت أكبر ميناء أوربي لتجارة التوابل، وكان الوكلاء الفلمنكيون يشترون حمولات السفن الداخلة إلى لشبونة قبل أن تفرغ ثم ترسل مباشرة إلى أنتورب لتوزيعها في شمالي أوربا. وكتب سفير البندقية يقول: "لقد حزنت لرؤية أنتورب لأني شهدت مدينة تبز البندقية(12)"، وكان يشهد التحول التاريخي للزعامة التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى شمال الأطلنطي. وحفزت هذه التجارة الصناعة الفلمنكية فانتعشت حتى في غنت،
وأمدت الأراضي المنخفضة شارل الخامس بمبلغ 1.500.000 جنيه (37.500.000 دولار) سنوياً، وهو يعادل نصف دخله الكلي(13).
واستجاب بمنح الفلاندرز وهولندة حكماً صالحاً معتدلاً، اللهم إلا في مجال الحرية الدينية - وهي هبة لم يكد يدركها أصدقاؤه أو أعداؤه. وكانت سلطته من الناحية الدستورية مقيدة بتعهده الذي أقسم على تنفيذه بمراعاة مواثيق المُدن والمقاطعات وقوانينها المحلية، وبالحقوق الشخصية والعائلية، التي حافظ عليها سكان المُدن بشجاعة، وبمجالس الدولة والمالية، ومحكمة للاستئناف أنشئت لتكون جزءاً من الإدارة المركزية. وكان شارل بوجه عام يحكم الأراضي المنخفضة حكماً غير مباشر عن طريق نواب يقبلهم المواطنون: أولاً عمته، وحاضنته ومربيته مرجريت النمساوية، ثم شقيقته ماري، ملكة هنغاريا السابقة، وهما امرأتان تتمتعان بكفاءة وإنسانية ومهارة. ولكن شارل أصبح أشد استبدادً باتساع رقعة الإمبراطوريّة وأقام حرساً أسبانياً في المُدن المتكبرة، وقمع بقسوة أي مخالفة خطيرة لسياسته الدولية، فعندما رفضت غنت أن تصوت على قرار بالاعتمادات العسكرية التي طلبها ومنحتها له المُدن الأخرى، أخمد شارل الثورة باستعراض قوة لا جدال فيها، واقتضى إعانة مالية وتعويضاً، وألغى الحريات التقليدية التي كانت تتمتع بها البلدية، واستُبْدِل بالحكومة المختارة محلياً موظفون معينون من قبل الإمبراطور (1540)(14). ولكن لم يكن هذا المتبع في الأغلب. وعلى الرغم من هذه القسوة العارضة فقد ظل شارل يحظى بشعبية بين رعاياه في الأراضي المنخفضة، ونال الثقة لما حققه من استقرار سياسي ونظام اجتماعي، وطدا دعائم الرخاء الاقتصادي، وعندما أعلن تنازله عن العرش حزن كل المواطنين تقريباً(15).
وسلم شارل بالنظرية المتداولة القائلة بأن السلام القومي والقوى يتطلبان حدة المعتقد الديني، وخشي أن تؤدي البروتستانتية في الأراضي المنخفضة
إلى تعريض جناحه للخطر في نزاعه مع فرنسا وألمانيا اللوثرية، فأيد الكنيسة تأييداً كاملاً في قمع الهرطقة في الفلاندرز وهولندة. وكانت حركة الإصلاح الديني هناك معتدلة قبل لوثر، ودخلت بعد عام 1517، مثل ما دخلت اللوثرية ومذهب المنكرين للتعميد من ألمانيا، والزونجيلية والكالفينية من سويسرة والألزاس وفرنسا. وسرعان ما ترجمت رسائل لوثر إلى الهولندية وشرحها وعاظ في انتورب وغنت ودوردرخت واترخت وتسفولى ولاهاي. وتزعم الأخوة الرهبان الدومنيكان حركة معارضة نشيطة دحضوا فيها آراء خصومهم، وقال أحدهم إنه يود لو استطاع أن ينشب أسنانه في زور لوثر، وإنه لن يتردد في أن يذهب لتناول العشاء الرباني والدم يلطخ فمه(16). ورأى الإمبراطور، وهو لا يزال شاباً، أن يخمد الهياج بنشر "إعلان ملصوق" بناء على طلب البابا، يحرم طباعة مصنفات لوثر أو قراءتها. وفي العام نفسه أمر الحاكم العلمانية بتنفيذ منشور ورمس في سائر الأراضي المنخفضة ضد كل مَن يعرض آراء لوثر. وفي اليوم الأول من يوليو عام 1523 أرسل هنري فوس وجوهان إيك، وهما راهبان أوغسطينيان إلى المحرقة في بروكسل، فكانا أول شهيدين من البروتستانت في الأراضي المنخفضة. وسجن هنري الزتفيني، وهو صديق وتلميذ للوثر، ورئيس الدير الأوغسطيني في أنتورب، وفر، وقبض عليه في هولستاين وأحرق هناك (1524) وكان تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام بمثابة إعلان لآراء المصلحين الدينيين.
وعلى الرغم من الرقابة فإن ترجمة لوثر للعهد الجديد انتشرت على نطاق واسع، وتداولها الناس في هولندة بحماسة أكثر من الفلاندرز الغنية. وكانت هناك أمنية لإعادة المسيحية إلى بساطتها الأولى، فنشأ عنها أمل، بعد مرور ألف عام، في عودة المسيح مبكراً، وإنشاء أورشليم جديدة لا تكون فيها حكومة، ولا زواج ولا ملكية، وامتزجت بهذه الأفكار نظريات
شيوعية عن المساواة وتبادل العون بل "والحب الحر(17)". وتكونت جماعات تنكر التعميد في أنتورب وماسترخت وأمستردام. وجاء ملشيور هوفمان من أمدن إلى أمستردام عام (1531) وأعاد جون الليدني عام 1534 الزيارة يحمل معه يحمل معه عقيدة المنكرين للتعميد من هارلم إلى منستر. وقدر أن ثلثي السكان في بعض المُدن الهولندية كانوا من المنكرين للتعميد. بل إن العمدة في ديفنتز تحول لنصرة القضية. وشحذت المجاعة الحركة، فأصبحت ثورة اجتماعية. وكتب صديق لأرازموس عام 1534 يقول "إن اشتعال حماسة المنكرين للتعميد في هذه المقاطعات يجعلنا نشعر بقلق بالغ لأنه يتصاعد مثل ألسنة اللهب ولا تكاد توجد بقعة أو مدينة لا تتأجج فيها سراً شعلة التمرد(18"). وحذرت ماري الهنغارية الإمبراطور؛ وكانت وقتذاك نائبة له، من أن الثوار قد وضعوا خطة لانتهاب كل ضروب الملكية من النبلاء ورجال الأكليروس والأرستقراطية التجارية، وتوزيع الغنائم على كل رجل حسب حاجته(19). وفي عام 1535 أرسل جون الليديني مبعوثين لتدبير ثورة في نفس الوقت يقوم بها المنكرون للتعميد في عدة محلات هولندية، وبذل الثوار جهود الأبطال، فقد استولت جماعة على دير في فريزلاند الغربية، وحصنته، وحاصرهم الحاكم بالمدفعية الثقيلة، ومات 800 وهم يدافعون دفاعاً لا أمل فيه، (1535) وفي 11 مايو اقتحم بعض المنكرين للتعميد المسلحين قاعة المدينة في أمستردام واستولوا عليها، فطردهم سكان المدينة، ونكلوا بالزعماء، وانتقموا منهم انتقاماً مفزعاً من رجال مفزعين، فاستلت الألسنة، ومزقت القلوب من أجساد الأحياء، وألقي بها في وجوه المحتضرين أو الموتى(20).
وظن شارل أن ثورة شيوعية تتحدى البناء الاجتماعي بأكمله، فاستقدم محكمة التفتيش إلى الأراضي المنخفضة، وخول موظفيها سلطة سحق الحركة وكل الهرطقات الأخرى، مهما قضى ذلك على الحريات المحلية. وأخذ
بين عامي 1521 و 1555 يصدر الإعلان الملصق بعد الإعلان ضد الانقسام بين الطبقات الاجتماعية أو الانشقاق الديني. وقد كشف أعنف هذه الإعلانات (25 سبتمبر سنة 1550) عن تدهور الإمبراطور، ووضعت الأسس التي قامت عليها ثورة الأراضي المنخفضة ضد ابنه:
لا يحق لأحد أن يطبع أو يكتب أو ينسخ أو يخفي أو يبيع أو يشتري أو يعطي في الكنائس أو في الشوارع أو غير ذلك من الأماكن أي كتاب أو رسالة من تأليف مارتن لوثر، أو جون أو يكولا مباديوس، أو أولريخ زونجلى، أو مارتن بوسر، أو جون كالفن، أو غيرهم من الهراطقة، الذين استهجنت أعمالهم الكنيسة المقدسة... ولا يحق له أن يحطم أو يؤذي بأي صورة أخرى تماثيل العذراء المقدسة، أو القديسين الذين اعترفت بهم الكنيسة... وليس له أن يعقد اجتماعات سرية أو اجتماعات غير قانونية، أو يحضر أي اجتماع من هذه الاجتماعات، التي يدعو فيها أنصار الهراطقة المذكورين ويعمدون ويدبرون مؤامرات ضد الكنيسة المقدسة والصالح العام... ونحن نمنع جميع الأشخاص العلمانيين من أن يتحدثوا أو يجادلوا في أمر يتعلق بالكتب المقدسة جهراً أو سراً... أو أن يقرأوا أو يعلموا أو يفسروا الكتب المقدسة، ما لم يكونوا قد درسوا اللاهوت في حينه، أو اعترفت بهم إحدى الجامعات المشهورة، أو يرحبوا بأي رأي من آراء الهراطقة المذكورين... وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها فيما يلي... الرجال (تقطع رؤوسهم) بالسيف والنساء يدفن أحياء إذا لم يصررن على أخطائهن، وإذا أصررن عليها فإنهن يعدمن حرقاً، وفي كلتا الحالتين تصادر أملاكهن كلها لمصلحة التاج.
وتمنع كل الأشخاص أن ينزلوا عندهم أو يستضيفوا أو يزودوا بالطعام أو الدفء أو الملابس أو يؤيدوا بأية طريقة أخرى أي امرئ يعتقد أنه هرطيق، أو يشتبه في أن له سمعة سيئة كهرطيق، وكل من يتخلف
عن التنديد بأي واحد من هؤلاء الذين نأمر بإدانتهم يكون عرضة للعقوبات المذكورة آنفاً... وكل مَن يعرف شخصاً موصوماً بالهرطقة يجب أن يبلغ عنه ويسلمه... ويكون للمبلغ، في حالة الإدانة، الحق في نصف أملاك المتهم... ولكي لا يكون لدى القضاء والموظفين أي ذريعة - بحجة أن العقوبات جسيمة جداً وشديدة، ولم ينص عليها إلا لإثارة الفزع في قلوب المجرمين - ليوقعوا عليهم عقوبة أقل مما يستحقون (نأمر) بأن يعاقب المجرمون حقاً بالعقوبات التي أعلنا عنها سابقاً، ونحظر على جميع القضاة أن يغيروا أو يخففوا العقوبات بأية طريقة، ونحظر على أي أحد، في أي ظرف أن يطلب منا، أو من أي أحد أو سلطة، أن يمنح عفواً عن، أو أن يقدم التماس في صالح، هؤلاء الهراطقة أو المنفيين أو الهاربين، وإلا تعرض للحكم عليه إلى الأبد بعدم الأهلية لتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، ولأن يعاقب بعقوبة يقضى بها عليه بطريقة تحكمية(21).
وعلاوة على هذا كان يطلب من أي شخص يدخل البلاد المنخفضة أن يوقع على تعهد بالولاء للعقيدة المحافظة بحذافيرها(22).
وتحولت الأراضي المنخفضة عن طريق هذه المنشورات اليائسة، إلى ساحة قتال بين الشكلين للقديم والجديد من المسيحية، وقدر سفير البندقية في بلاط شارل أن 30.000 شخص، وهم كل المنكرين للتعميد تقريباً، هلكوا عام 1546 في هذه المذبحة الإمبراطوريّة الطويلة(23)، التي قتل فيها الآمنون من المواطنين، وخفض تقدير آخر أقل إثارة عدد الضحايا إلى 10.000 شخص(24). وبقدر ما كان الهولنديون المنكرون للتعميد مهتمين، بقدر ما نجحت محكمة التفتيش الكارولينية، وظل بقية منهم على قيد الحياة في هولندة بإبداء عدم المقاومة، وهرب بعضهم إلى إنجلترا، حيث أصبحوا من أنصار البروتستانتية النشطين في عهد إدوارد السادس
وإليزابث. وانهارت الحركة الشيوعية في الأراضي المنخفضة بعد أن روعها الاضطهاد وخنقها الرخاء.
ولكن عندما انحصرت موجة المنكرين للتعميد تدفق نهر من الهوجينوت المطاردين إلى الأراضي المنخفضة من فرنسا، وجاءوا معهم بإنجيل كالفن، وراقت الحماسة الصارمة القائلة بالحكم الديني للهرطقة الجديدة، لمن ورثوا تقاليد المتصوفة وإخوان الحياة المشتركة، وكان قبول كالفن للعمل باعتباره كرامة بدلاً من أن يعد لعنة، وللثورة باعتبارها بركة بدلاً من أن تعد جريمة، وللنظم الجمهورية باعتبارها أكثر موافقة من الملكية للمطامح السياسية لطبقة رجال الأعمال، يحتوي على أجزاء تلقى ترحيباً متفاوتاً من كثير من العناصر بين السكان. وما أن حل عام 1555 حتى كانت هناك جماعات كالفينية للمصلين في إيبرس وتورناي وفالنسينس وبروجس وغنت وأنتروب، وكانت الحركة تنتشر في هولندة ويرجع الفضل إلى الكالفينية لا إلى اللوثرية، أو مذهب المنكرين للتعميد، في أن ابن شارل سوف يحصر خلال جيل مرير، في صراع قدر له أن يشطر الأراضي المنخفضة إلى قسمين، ويحرر هولندة من السيطرة الإسبانية، ويجعلها موطناً وملجأ من أعظم المواطن والملاجئ للفكر الحديث.
وفي عام 1555 طرح شارل الخامس كل أحلامه ما عدا حلمه بأن يموت في طهارة، وتخلى عن أمله في قمع البروتستانتية في ألمانيا والأراضي المنخفضة أو مهادنة الكاثوليكية في مجلس ترنت، وتخلى عن طموحه في زعامة البروتستانت والكاثوليك والألمان والفرنسيين، في زحف رائع يقوم به ضد سليمان والقسطنطينية والتهديد التركي للعالم المسيحي. وقد أدى إفراطه في الطعام والشراب والعلاقات الجنسية وحملاته المنهكة وأعباء منصب واجه صدمة تغيير ثوري إلى تحطيم جسده وتبلد سياسته وتحطيم
إرادته. وكان يشكو من قروح، وهو في الثالثة والثلاثين، واكتهل في الخامسة وأصيب وهو في الخامسة والأربعين بالنقرس والربو وسوء الهضم والتأتأة، وكان وقتذاك يقضي نصف وقت يقظته في ألم، ووجد أنه من الصعب عليه أن ينام، وكثيراً ما كانت الصعوبة التي يجدها في التنفس تجعله يجلس منتصباً طوال الليل، وكانت أصابعه مشوهة بداء المفاصل، إلى درجة أنه لم يكد يستطيع أن يقبض على القلم، الذي وقع به على صلح كريبي. وعندما قدم كوليني رسالة من هنري الثاني، لم يستطع شارل أن يفتحها إلا بصعوبة وقال متسائلاً: "ما رأيك في يا سيدي أمير البحر؟ ألست فارساً رائعاً يستطيع أن يهاجم ويحطم حربة، أنا الذي لا أستطيع أن أفتح خطاباً إلا بعد مشقة كبيرة؟(25)". ولعل قسوته العارضة وشيئاً من الوحشية التي هاجم بها البروتستانتية في الأراضي المنخفضة، ترجع إلى نفاد صبره بسبب آلامه. وأمر بقطع أقدام الأسرى من الجنود الألمان المرتزقة، الذين حاربوا في صفوف فرنسا، على الرغم من أن ابنه الذي قدر له أن يكون فيليب الثاني الصلب الرأي، طلب لهم الرحمة(26)، وقد حزن حزناً مريراً دام طويلاً لوفاة زوجته الحبيبة إيزابلا (1539)، ولكنه سمح في حينه بحضور عذارى لا حول لهن ولا طول إلى مخدعه(27).
ودعا في خريف عام 1555 إلى عقد اجتماع لمجلس الطبقات في الأراضي المنخفضة، يوم 25 أكتوبر، واستدعى إليه فيليب من إنجلترا. وفي قاعة دوقات برابانت الواسعة المغطاة بالسجاجيد في بروكسل حيث اعتاد فرسان الجزة الذهبية أن يعقدوا اجتماعاتهم، اجتمع النواب والنبلاء والحكام من سبع عشرة مقاطعة في نطاق حرس من الجند المدججين بالسلاح. ودخل شارل يستند على كتف وليام أف أورانج، الذي قدر له أن يكون عدواً لابنه في المستقبل. وتبعه فيليب مع نائبة الإمبراطور ماري الهنغارية، ثم أمانويل فيليبرت أف سافوي، ومستشارو الإمبراطور، وفرسان الجزة
الذهبية، وكثير من الأعيان الآخرين الذين أقبلت عليهم الدنيا يوماً قبل أن تنساهم. وعندما جلس الجميع نهض فيليبرت وشرح في إسهاب ووضوح اغتبط لهما شارل، الأسباب الصحية والعقلية والسياسية التي حدت بالإمبراطور إلى إبداء رغبته في أن يتنازل عن حكم الأراضي المنخفضة لابنه. ثم وقف شارل نفسه وهو يتكئ من جديد على أمير أورانج الوسيم فارع القامة، وتحدث ببساطة، وفي صميم الموضوع، ولخص كيف ارتقى إلى أن بلغ آفاقاً متسعة من السلطان على التعاقب وتحدث عن ذوبان حياته في الحكم. وتذكر أنه زار ألمانيا تسع مرات وإسبانيا ستاً وفرنسا أربعاً وإنجلترا وأفريقية مرتين، وقام بإحدى عشرة رحلة بالبحر واستأنف كلامه قائلاً:
هذه هي المرة الرابعة التي أفكر فيها في الذهاب لإسبانيا من الآن... ولم يسبق أن جربت شيئاً سبب لي مثل هذا الألم العظيم... الذي أشعر به وأنا أفترق عنكم من اليوم دون أن أترك خلفي ذلك السلام والهدوء اللذين طالما رغبت في تحقيقهما... ولكني لم أعد قادراً على مباشرة شئوني دون أن أشعر بتعب شديد يسري في بدني، وبالتالي ألحق بالدولة الضرر... وإن ما يتطلبه تحمل المسؤولية من اهتمام عظيم، وما تسببه خور بالغ للعزيمة، وصحتي التي تدهورت من قبل، كل هذه لم تعد تترك لي القوة اللازمة للحكم... وينبغي لي في حالتي هذه أن أقدم لله والانسان حساباً خطيراً إذا لم أطرح السلطة عن كاهلي... وأن ابني، الملك فيليب قد وصل إلى سن تكفي لأن يكون قادراً على حكمكم، وهو، كما ارجو، أمير صالح لكل رعاياي المحبوبين(28).
وعندما تهالك شارل متألماً في مقعده نسى الحاضرون خطاياه واضطهاده وهزائمه، رثاء لرجل عمل جاهداً مدى أربعين عاماً، حسب ما أملته عليه آراؤه وسمحت به قدرته، تحت وطأة أثقل الالتزامات في عصره، وبكى كثير من السامعين. ونصب فيليب رسمياً حاكماً للأراضي المنخفضة، وحلف
يميناً مغلظة (كما سوف يذكر بها فيما بعد) أن يراعى كل القوانين والحقوق التقليدية للمقاطعات. وفي أوائل عام 1556 سلم له شارل تاج إسبانيا، بكل ممتلكاته في العالم القديم والعالم الجديد، واحتفظ شارل باللقب الإمبراطوري، وكان يأمل أن ينقله لابنه قريباً، ولكن فرديناند احتج، وفي عام 1558 تنازل الإمبراطور عن لقبه لأخيه. وسافر شارل بحراً في السابع عشر من سبتمبر سنة 1556 من فشلنج إلى أسبانيا.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق