1256
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن والأديار -> تقنية الحل
الفصل الخامس والعشرون
هنري الثامن والأديار
1535 - 47
1- تقنية الحل
كان هنري عام 1535 مشغولاً جداً بالحب والحرب فلم يستطع أن يلعب دور البابا جملة أو تفصيلاً، فعين كرومويل الذي يؤمن بفلسفة اللاأدرية(1) "نائباً للملك في كل قضائه الكنسي". ووجه كرومويل وقتذاك السياسة الخارجية التشريع الوطني والسلطة القضائية العليا والمجلس الخاص والمخابرات وقاعة النجم وكنيسة إنجلترا، ولم يكن لولزى في أوج مجده قط أصابع طويلة متشبثة بفطائر عضة بهذه الكثرة. وكان يراقب أيضاً كل الطباعة والنشر وأقنع الملك بأن يحرم طبع الكتب أو بيعها أو استيرادها إلا بعد الحصول على موافقة وكلاء التاج، وأمر بنشر الكتب المناهضة للبابوية على نفقة الحكومة.
وقام جواسيس كرومويل، وهم لا يحصون، بإبلاغ كرومويل بكل حركات أو بيانات المعارضين لهنري أو له. وكانت أية إشارة تدل على الإشفاق على فيشر أو مور وأي دعابة تدور حول الملك يمكن أن تؤدي إلى محاكمة سرية وسجن طويل(2)، وكان التنبؤ بوفاة الملك يعرض المرء لفقد حياته(3).
وقام كرومويل، في بعض القضايا الخاصة بدور ممثل الاتهام والمحلفين
والقاضي ليصل إلى نتائج محققة. وكان كل واحد في إنجلترا يخشاه ويكرهه.
وكانت أكبر معضلة واجهها هي أن هنري كان مفلساً، على الرغم من سلطانه العظيم. وكان الملك يتوق إلى زيادة حجم البحرية والإكثار من مرافئه وموانيه أو تحسينها، وكانت حاشيته تتجاوز الحدود ونفقاته الشخصية باهظة، ونظام كرومويل في الحكم يحتاج إلى نهر عريض من الأموال. فكيف يجمع المال؟ كانت الضرائب مرتفعة إلى الحد الذي تقابل فيه بمقاومة تجعل الجباية تكلف من النفقات أكثر مما تدر من الربح، وكان الأساقفة قد استنزفوا أبرشياتهم لتهدئة سورة الملك، ولم يكن هناك ذهب يتدفق من أمريكا، كما يتدفق يومياً لإغاثة الإمبراطور عدو إنجلترا. ومع ذلك كانت في إنجلترا مؤسسة واحدة ثرية وموضع ريبة وعاجزة لا تجد مَن يدافع عنها وهي الأديار. كانت موضع ريبة لأن ولاءها الأخير كان للبابا، واشتراكها في قانون السيادة يعد من قبيل المداهنة وغير تام، وكانت في نظر الحكومة هيئة أجنبية ملزمة بتأييد أي حركة كاثوليكية ضد الملك، وكانت عاجزة لأنها في كثير من الحالات كفت عن القيام بوظائفها التقليدية في مجالات التعليم والضيافة والبر، وكانت لا تجد مَن يدافع عنها لأن الأساقفة استاءوا من إعفائهم من المراقبة الأسقفية، ولأن الأشراف، وقد أفقرتهم الحرب الأهلية، طمعوا في ثروتها، ولأن طبقة رجال الأعمال كانوا يرون في الرهبان والاخوة من الرهبان متلفين كسالى للموارد الطبيعية، ولأن القسم الأكبر من العامة، ومنهم كثير من الكثالكة الصالحين، لم يعودوا يؤمنون بفاعلية المخلفات التي كان الرهبان يعرضونها، أو بالقداسات التي كان يقيمها الرهبان للموتى، إذا دفع لهم الأجر. وكانت هناك سوابق رائعة لإغلاق الأديار، فقد أغلقها زونجلى في زيورخ والأمراء اللوثريون في ألمانيا وولزى في إنجلترا. وكان المجلس النيابي قد صوت (1533)
بالموافقة على تخويل الحكومة سلطة التفتيش على الأديار وإجبارها على تقويم اعوجاجها.
وأرسل كرومويل في صيف عام 1535 ثالوثاً من "المفتشين" كل منهم معه عدد كبير من الموظفين لفحص حالة أديار الرهبان والراهبات في إنجلترا من النواحي البدنية والأخلاقية والمالية وتقديم تقرير عنها، وكذلك للتفتيش على الجامعات والكراسي الأسقفية كإجراء مقبول. وكان هؤلاء "المفتشون" شباناً متهورين، "من المرجح أن يقوموا بتنفيذ عملهم في إتقان أكثر مما يتوسلون في تنفيذه بالرقة(4)"، ولم يكونوا في عصمة من قبول "الهدايا"(5)، وكان "الهدف من مهمتهم الحصول على قضية للتاج، ولعلهم لجئوا إلى كل الوسائل المخولة لهم لحث الرهبان والراهبات على إدانة أنفسهم(6)". ولم يكن من الصعب أن يعثر في 600 دير في إنجلترا على عدد مقنع ويدل على وجود انحرافات جنسية - وأحياناً انحرافات جنسية شاذة(7) - ونظام متحلل واستغلال لمخلفات زائفة هدفه اكتناز المال، وبيع أوعية مقدسة أو مجوهرات مقدسة لإضافة المزيد إلى ثروة الدير، وما فيه من ضروب الراحة(8)، وإهمال الشعيرة أو الضيافة أو البر(9). ولكن التقارير أغفلت عادة ذكر نسبة الرهبان الآثمين إلى الرهبان الجديرين بالتقدير، والتمييز بوضوح بين الثرثرة والدليل(10).
وقدم كرومويل للمجلس النيابي الذي انعقد في 3 فبراير عام 1536 "كتاباً أسود"، ضاع الآن، يكشف عن الأخطاء في الأديار، وينصح، باعتدال استراتيجي، بإغلاق أديار الرهبان والراهبات التي يبلغ دخلها 200 جنيه (20.000 دولار) أو أقل في العام. فوافق المجلس النيابي الذي كان معظم أعضائه قد اختيروا بواسطة معاوني كرومويل(11). وعين الملك محكمة المزايدات لكي تتسلم لصالح خزانة الملك أموال وموارد هذه الأديار الصغرى البالغ عددها 376. وأطلق سراح ألفي راهب ليذهبوا لدور
أخرى أو يخرجوا إلى العالم - وفي الحالة الأخيرة كانوا يمنحون مبلغاً صغيراً أو معاشاً يسد رمقهم إلى أن يجدوا عملاً. ولم يكن بين 130 دير للراهبات سوى 18 ديراً يتجاوز دخلها 200 جنيه، ولكن لم يغلق منها وقتذاك إلا نصفها.
وقامت في الشمال ثورة ثلاثية قطعت دراما الحل. وكما نشأت المسيحية في المُدن ووصلت إلى القرويين - الوثنيين - فكذلك نهض الإصلاح الديني في المُدن بسويسرة وألمانيا وإنجلترا، ولقي مقاومة دامت طويلاً في الريف. وتقلص ظل البروتستانتية في إنجلترا وسكوتلندة كلما ابتعدت المسافة من لندن أو أدنبرة، ووصلت متأخرة إلى ويلز وشمالي إنجلترا، ولقيت ترحيباً ضئيلاً في إيرلندة. وفي المراكز الشمالية بإنجلترا أشعل سلب الأديار الصغرى نار الاستياء التي كانت مهيأة للاشتعال منذ وقت طويل بسبب الضرائب المتزايدة والحكم الملكي المطلق على رجال الأكليروس والتحريض الخفي للقساوسة. وانضم الرهبان، الذين جردوا من أموالهم ووجدوا أن من الصعب عليهم الحصول على مرتباتهم أو على عمل، إلى المتعطلين العديدين المكتئبين، أما الراهبات اللاتي جردن من أملاكهن واللاتي كن يتجولن من مأوى إلى مأوى فقد أثرن غضب الجمهور ضد الحكومة. وألهب معاونو كرومويل "نار" الغضب بتزيين أنفسهم بأسلاب المعابد بالأديار وصناعة صديريات من القباء، وسروج من صدرات القساوسة وقرابات خناجر من محافظ المخلفات(12).
وفي يوم 2 أكتوبر سنة 1536 هاجم جمهور في لوث مفتشاً، كان قد أغلق تواً ديراً للراهبات في لجبورن المجاورة لها، وتم الاستيلاء على سجلاته وأوراق اعتماده وأحرقت وصوب إلى صدره سيف وأكره على أن يحلف يمين الولاء للعامة. وحلف كل مَن كان حاضراً بين الجمهور يميناً بأن يكون مخلصاً للملك والكنيسة الرومانية المقدسة. وفي اليوم التالي احتشد
جيش ثائر في كايستور على مسيرة بضعة أميال، حرضه قساوسة ورهبان لا مأوى لهم، واضطر أعيان الجهة - ومنهم مَن فعل ذلك باختياره - إلى الانضمام لجيش الثوار. وفي اليوم نفسه تجمع حشد كبير من القرويين في هورن كاسل، وهي مدينة أخرى تقع في لنكولنشاير. واتهم حاجب أسقف لنكولن بأنه عميل لكرومويل، وانتزع من فراشه، وضرب حتى الموت بالهراوات. وصمم الثوار علماً يصور محراثاً وقدحاً وبوقاً، و"الكلمات الخمس الأخيرة" للمسيح، واستخلصوا مطالب أرسلت إلى الملك: يجب أن تعاد الأديار وتخفف الضرائب أو تيسر، وألا يدع رجال الأكليروس ضرائب العشور أو موارد السنة الأولى من التعيين إلى التاج، وأن يبعد "الدم الخبيث" (أي كرومويل) من المجلس الخاص، وأن يقال الأساقفة الهراطقة - وبخاصة كرانمر ولاتيمر - ويعاقبون.
وانضم إلى الثورة مجندون من الأقاليم الشمالية والشرقية. واحتشد في لنكولن حوالي 60.000 رجل، ولبثوا يرقبون رد الملك.
وكان رده عنيفاً لا يقبل التفاهم. واتهم الثوار بإنكار جميل حاكم كريم، وأصر على أن إغلاق الأديار الصغرى إنما تم بإرادة الأمة التي عبرت عنها عن طريق المجلس النيابي، وأمر الثائرين بتسليم زعمائهم، وأن يتفرقوا وينصرفوا إلى بيوتهم، وإلا تعرضوا لعقوبة الإعدام ومصادرة أموالهم. وفي الوقت نفسه أمر هنري أعوانه بحشد قواتهم والزحف بقيادة ايرل أف سفولك لمساعدة اللورد شروسبري، الذي كان قد نظم تابعيه لصد الهجوم، وكتب رسائل خاصة إلى الأشراف القلائل الذين كانوا قد انضموا إلى الثورة. وعندما أدرك هؤلاء وقتذاك أن الملك لا يمكن إرهابه، وأن الثوار المسلحين تسليحاً سيئاً سوف يقهرون وشيكاً، اقتنع الكثيرون منهم بالعودة إلى قراهم، وسرعان ما ذاب جيش الثوار فوق احتجاجات
القساوسة. وسلمت لوث خمسة عشر زعيماً وأسر مائة آخرون، وأعلن صدور عفو ملكي عن الباقين. وأخذ الأسرى إلى لندن والبرج وشنق ثلاثة وثلاثون، منهم سبعة قساوسة، وأربعة عشر راهباً، وأطلق سراح الباقين على مهل(13).
وفي غضون ذلك كانت هناك فتنة أشد خطورة قد نمت في يوركشاير. وجد رتشارد آسك، وهو محام شاب، نفسه متورطاً بدنياً وعاطفياً في الحركة. وأفزع محام آخر فتولى قيادة فرقة ثائرة في بفرلي، وأعار اللورد دارسي أف تمبلهرست، وهو كاثوليكي متحمس، الثورة تأييده الخفي، وانضم اثنان من أسرة برسي، وحذا حذوهم معظم أشراف الشمال.
وفي 15 أكتوبر سنة 1536 ضرب الجيش الرئيسي، المكون من 9.000 رجل، الحصار على يورك. وأجبر المواطنون في المدينة العمدة على فتح الأبواب. ومنع آسك رجاله من نهب المدينة، وحافظ بوجه عام على نظام ملحوظ في جيشه غير المدرب. وأعلن إعادة فتح الأديار، وعاد إليها الرهبان في اغتباط، وأدخلوا السرور على أفئدة الأتقياء بحرارة ترانيمهم الجديدة. وتقدم آسك واستولى على بومفريه، واستولى ستابلتون على هل دون إراقة دماء. وانضم آخرون إلى رجال لنكولنشير في تقديم المطالب وأرسلوا للملك: "أن يقمع كل الهراطقة وكتبهم، ويستأنف الروابط الكنسية مع روما، وأن يسبغ صفة الشرعية على ماري، ويعزل مفتشي كرومويل ويعاقبهم، ويلغي كل تسوير للأراضي العامة منذ عام 1489.
كانت هذه أحرج لحظة في عهد هنري. كان نصف البلاد يحمل السلاح ضد سياسته، وكانت إيرلندة في ثورة، وكان بولس الثالث
والكاردينال بول يحثان فرانسيس الأول وشارل الخامس على غزو إنجلترا وخلع الملك. واستجمع قواه المتخاذلة، وأرسل أوامر إلى كل الجهات بحشد فرق موالية، وفي الوقت نفسه أصدر تعليمات للدوق أف نورفولك بأن يتغفل الزعماء الثائرين بإجراء مفاوضات. ورتب الدوق مداولة مع آسك وعدة نبلاء وأغراهم بوعد منه بالعفو عنهم جميعاً. ودعا هنري آسك إلى لقاء شخصي ومنحه جواز أمان. فجاء إلى الملك وافتتن بعبير الملكية، وعاد وديعاً، ولم يلحقه أذى إلى يوركشاير (يناير سنة 1537)، وعلى أية حال فإنه قبض عليه هناك وأرسل سجيناً إلى لندن. وانقطعت صلة الجيش الثائر بقواده فانشعب إلى فرق غاضبة وساده اضطراب همجي، وتضاعفت حالات التمرد. وبينما كانت فرق الملك المتحدة تقترب اختفى الجيش الثائر كسراب تبدد (فبراير سنة 1537).
وعندما استوثق هنري من انهيار الثورة والغزو معاً أنكر وعد نورفولك بالعفو العام، وأمر بالقبض على مَن يمكن العثور عليه من الزعماء مثيري الفتنة، وأعدم الكثيرون منهم ومن ضمنهم آسك، وكتب إلى الدوق يقول: "يسرنا أن نراك قبل أن نطوي علمنا مرة أخرى أن تقوم بإعدام مروع لعدد لا بأس به من السكان في كل مدينة وقرية ومحلة تكون قد أجرمت، حتى يكون في هذا عبرة لكل مَن تسول له نفسه أن يقوم بمثل ذلك في المستقبل... ومادامت هذه الاضطرابات كلها قد نتجت من تحريض الرهبان والكنسيين في هذه البقاع ومؤامراتهم الغادرة، فإننا نريد منك في هذه الربوع التي تأمر فيها، ودافعوا عن بيوتهم بالقوة... أن تأمر بلا رحمة أو شفقة بشد وثاق هؤلاء الرهبان رجال الكنيسة الذين ثبت خطؤهم بأية وسيلة دون تأخير أو اجراء رسمي(14).
وعندما رأى كرومويل ما لحق بالمعارضة من رعب شديد مضى قدماً
في إغلاق الدور الدينية الباقية في إنجلترا. وحلت يوماً كل أديار الرهبان والراهبات التي كانت قد انضمت إلى الثورة وصودرت ممتلكاتها لمصلحة الدولة. وامتد مجال الزيارات التفتيشية، وأثمرت تقارير عن الخروج على النظام والفجر والخيانة والانحلال. وتوقع كثير من الرهبان سلفاً إغلاق الأديار فباعوا المخلفات والنفائس التي في دورهم إلى أعلى مزايد، وبلغ ثمن إصبع لسانت اندرو أربعين جنيهاً(15). وأدين الرهبان في والسنجهام بتزييف معجزات، وألقي تمثال العذراء، الذي كان يدر عليهم أرباحاً، في النار. وهدم ضريح سانت توماس بيكيت التاريخي في كانتربري، وأعلن هنري الثامن أنه في انتصاره على هنري الثاني لم يكن قديساً حقاً، وأحرقت المخلفات التي أساءت إلى كوليه، وتفكه بها أرازموس، ونقلت التحف الثمينة التي وهبها الحجاج الورعون في خلال 250 عاماً إلى الخزانة الملكية (1538)، ولبس هنري بعد ذلك في إبهامه خاتماً محلى بياقوتة كبيرة أخذت من الضريح. وسعت بعض الأديار إلى خداع القدر بإرسال المال والهدايا لكرومويل، وقبل كرومويل كل شيء وأغلقها جميعاً. وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل الأديار وكل الأملاك الديرية ما عدا كنائس دير الكاتدرائية قد انتقلت إلى الملك.
وعلى الجملة فقد أغلق 578 ديراً للرهبان وحوالي 139 ديراً للراهبات، ونشئت 6521 راهباً أو أخاً و 1560 راهبة. وتخلى حوالي خمسين راهباً وراهبتان من هؤلاء عن الرداء الديني، بيد أن الكثيرين توسلوا أن يسمح لهم بمتابعة حياتهم التي ألفوها في الدير في مكان آخر(16)، وفقد حوالي 12.000 شخص، كانت الدور الدينية تستخدمهم فيما مضى أو كانوا يعتمدون عليها في معيشتهم، وظائفهم أو مخصصاتهم من الصدقات، وكانت الأراضي والمباني المصادرة تدر دخلاً سنوياً قدره حوالي 200.000 جنيه
(20.000.000 دولار) غير أن عقود البيع التي أبرمت سريعاً خفضت الدخل السنوي للأملاك بعد التأميم إلى حوالي 37.000 جنيه، ولابد أن يضاف إلى هذا المبلغ 85.000 جنيه من المعدن الثمين المصادر، ومن ثم قد يبلغ ما حصل عليه هنري إبان حياته من جملة الأسلاب والدخل حوالي 1.423.500 جنيه(17).
وكان الملك سخياً بهذا الأسلوب. فقد وهب بعض هذه الممتلكات - ومعظمها باعه بأسعار بعد مساومة - لنبلاء صغار أو مواطنين أحرار كبار - تجار أو محامين - ممن أيدوه أو وجهوا سياسته. وتسلم كرومويل أو اشترى ستة أديار لها دخل سنوي قدره 2239 جنيهاً، وتسلم ابن أخيه سير رتشارد كرومويل سبعة أديار تدر دخلاً قدره 2552 جنيهاً(18) وكانت هذه أصل الثروة التي جعلت من أوليفر الحفيد الثاني لرتشارد رجلاً من رجال الثروة المادية والنفوذ في القرن التالي. وذهبت بعض الأسلاب لبناء سفن وحصون وموان وبعضها ساعد في تمويل الحرب وذهب بعضها إلى القصور الملكية في وستمنستر وتشلسي وهامبتون كورت، وفقد الملك بعضها في لعب النرد(19). وأعيدت ستة أديار إلى كنيسة الأنجليكانية لتستخدم كراسي أسقفية، وخصص مبلغ صغير لمواصلة أعمال البر العاجلة التي كان يقدمها فيما سبق الرهبان والراهبات، وأصبحت الأرستقراطية الجديدة التي نشأت بفضل هدايا هنري وعقود البيع التي أبرمها، عضداً قوياً للعرش التيودوري، ودعامة للمصلحة الاقتصادية ضد أي عودة للكاثوليكية. وقد أبادت الأرستقراطية الإقطاعية القديمة نفسها، أما الأرستقراطية الجديدة، التي تأصلت جذورها في التجارة والصناعة، فإنها غيرت طبيعة الأشراف من السلبية المحافظة إلى عمل إيجابي، وصبت دماً جديداً وطاقة جديدة في الطبقات العليا بإنجلترا. ولعل هذا - والأسلوب كان مصدر خصب العهد الإليزبيثي.
وكانت نتائج التحلل معقدة بلا حدود. ولعل الرهبان المتحررين قد أسهموا بدور متواضع أو لم يسهموا في زيادة عدد سكان إنجلترا من حوالي 2.500.000 عام 1485 إلى حوالي 4.000.000 عام 1547(20) وساعدت زيادة مؤقتة في عدد المتعطلين على تخفيض أجور الطبقات الدنيا جيلاً كاملاً، وأثبت ملاّك الأراضي الجدد أنهم أكثر جشعاً من القدامى(21).
وكانت النتيجة من الناحية السياسية هي زيادة سلطة الملكية، وفقدت الكنيسة آخر معقل للمقاومة، وكانت النتائج من الناحية الأخلاقية ازدياد الجرائم والخصاصة والتسول وتقلص الموارد اللازمة لأعمال البر(22). وأغلق ما يزيد على مائة مستشفى تديرها الأديار، وقامت السلطات البلدية بتزويد قلة منها بالحاجة. أما المبالغ التي أوصت بها الأرواح الخائفة أو الموقرة للقساوسة، كتأمين ضد نار جهنم أو نار المطهر، فقد صودرت على أساس أن هناك أملاً في ألا يلحق الموتى أذى، وانتزع الملك(23) 2374 من الهبات الموقوفة على إقامة قداسات للأرواح. وكانت أقسى النتائج في مجال التعليم. فقد كانت أديار الراهبات تهيئ مدارس للبنات، وكانت الأديار والقساوسة المشرفون على الهبات المخصصة للقداسات قد حافظت على مدارس وتسعين كلية للبنين، وحلت كل هذه المؤسسات.
وبعد أن ذكرنا الحقائق بإنصاف لا يشوبه إلا تحامل يصدر عن اللاوعي، فإنه يسمح للمؤرخ بإضافة تعليق افتراضي يعترف به. إن جشع هنري وجور كرومويل هما اللذان ساعدا في مدى جيل على تخفيض حتمي في عدد الأديار الإنجليزية وإضعاف نفوذها. وكانت هذه الأديار قد قامت يوماً بعمل يدعوا للإعجاب في مجالات التعليم والبر والعناية بالمرضى في المستشفيات، بيد أن إسباغ الصفة العلمانية على هذه الوظائف كان يسير قدماً في سائر أنحاء غربي أوربا، حتى في المناطق التي كانت تغلب عليها
الكاثوليكية. وكان ضعف الغيرة الدينية والنزعات الدنيوية الأخرى تحتجز تدفق المترهبين على المؤسسات الديرية. وانخفض عدد هؤلاء المترهبين إلى حد بدا أنه لا يتناسب مع فخامة مبانيهم والدخل الذي تدره أراضيهم. ومما يؤسف له أن الموقف قوبل بالاندفاع الفجائي الفظ من كرومويل، بدلاً من خطة ولزى الإنسانية، والأسلم، وتنحصر في تحويل المزيد من الأديار إلى كليات.
وكانت الوسيلة التي لجأ إليها هنري هنا، كما فعل من قبل في سعيه للحصول على ابن، أسوأ من الهدف الذي ينشده. لم يكن هنا بأس في وضع نهاية، إلى حد ما، لاستغلال ورع ساذج بغش يتظاهر بالورع. وإنا لنعرب عن عظيم أسفنا لما حدث للراهبات اللاتي كن في الغالب الأعم يشقين قياماً بالواجب في إقامة الصلوات والتدريس وأعمال البر، بل إن المرء الذي لا يستطيع أن يشاركهن إيمانهن الذي لا يتزعزع يجب أن يكون شاكراً لأن لهن مثيلات يمددن يد العون مرة أخرى، بإخلاص يدوم مدى الحياة، ويلبين حاجة المرضى والفقراء.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق