1306
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الأدب في عصر رابليه -> النهضة الفرنسية
4- النهضة الفرنسية
(الميلاد الجديد)
من الأشياء المألوفة والمغتفرة أن تطلق عبارة "الميلاد الجديد"، وهي عبارة حافلة بالمعاني الإضافية، على الفترة الممتدة بين ارتقاء فرانسوا الأول العرش (1515) واغتيال هنري الرابع (1610). كان هذا الازدهار البهي للشعر والنثر والعادات الاجتماعية والفنون والملابس الفرنسية في جوهره نضجاً أكثر منه ميلاداً جديداً. فقد استطاع الاقتصاد الفرنسي والروح الفرنسية أن يفيقا من حرب المائة عام بفضل ما أتيح للناس من مرونة صابرة وما استجد من نمو التربة التي ألقيت فيها البذار حديثاً. وكان لويس الحادي عشر قد منح فرنسا حكومة منظمة ممركزة قوية، ومنحها لويس الثاني عشر عقداً مثمراً من السلام. وظلت إبداعية العصر القوطي الحرة، الطليقة، الغريبة الأطوار، حية متوازنة غالبة على رابليه، الذي بلغ إعجابه بالآداب القديمة مبلغاً جعله يقتبس منها كلها تقريباً. ولكن اليقظة الكبرى كانت كذلك ميلاداً جديداً. فقد تأثر الأدب والفن الفرنسيان تأثراً لا ريب فيه بما أتيح لها من علم أوثق بالثقافة القديمة والأشكال الكلاسيكية. واستمرت هذه الأشكال وهذا المزاج الكلاسيكي- الذي يغلب الفكر المنظم على العاطفة المشبوبة- في الدراما والشعر والتصوير والنحت والمعمار الفرنسي زهاء ثلاثة قرون. أما العوامل المخصبة في هذا الميلاد الجديد فهي الكشف والغزو الفرنسيان لإيطاليا، والدراسة الفرنسية لآثار والفقه والآداب الرومانية وللآداب والفنون الإيطالية، وتدفق الفنانين والشعراء الإيطاليين على فرنسا. وأسهمت عوامل كثيرة أخرى في بلوغ هذه النهاية السعيدة: كالطباعة ونشر النصوص القديمة وترجمتها، والرعاية التي حظي بها العلماء والشعراء والفنانون من الملوك الفرنسيين ومن عشيقاتهم ومن مارجريت النافارية ومن رجال الكنيسة والأشراف، ومن إلهام النساء القادرات
على تذوق ألوان أخرى من الجمال غير جمالهن. كل هذه العناصر تضافرت للعمل على ازدهار فرنسا.
كان لفرانسوا الأول- الوريث لهذا التراث كله- تابع هو الشاعر الذي أدى مهمة الانتقال من القوطي إلى الكلاسيكي ومن فيون إلى النهضة. دخل هذا الشاعر- واسمه كليمان مارو- التاريخ صبياً مرحاً في الثالثة عشرة يروح عن الملك بالقصص الظريفة والردود الذكية البارعة. وبعد سنوات هش فرانسوا لأنباء مغامرات الفتى ومشاجراته مع "جميع سيدات باريس"، فقد وافقه على أنهن في الحق فاتنات جداً:
"إن المرأة الفرنسية كاملة لا عيب فيها
فالسرور رائدها، وهي لا تعبأ المال،
والفرنسيات- مهما قلت فيهن أو سخرت منهن-
هن أروع أعمال الطبيعة"(22).
كان مارو يثرثر بالشعر كأنه النبع الفوار، وقلّما اتصف شعره بالعمق، ولكنه كان في الكثير الغالب مشوباً بالعاطفة الرقيقة. كان شعر مناسبات، وحديثاً في أبيات قصيرة، أو أغنيات شعبية، أو قصائد غزلية صغيرة، أو أغنيات ذوات لوازم متكررة، أو هجائيات ورسائل تذكرك بهوراس أو مارتيال، وقد لاحظ في شيء من الغيظ أن النساء (برغم اعتراضه على هذا السلوك) يسهل إغراؤهن بالماس أكثر من القصائد العاطفية:
"حين تجد الغواني عشيقاً ثرياً يلوح بماسة أمام عيونهن الضاحكة الخضراء فإن رءوسهن تدور. أتضحك مما أقول؟ ملعون من يخطئ هنا. فالفضيلة العظمى لهذا الحجر الكريم هي التي تنشر الضباب أمام عيونهن. وإن عطايا وهدايا كهذه لأفضل من الجمال والحكمة والتوسلات. إنها تنوم الوصيفات، وتفتح الأبواب الموصدة كأنها السحر، وتعمي
عيون المبصرين، وتسكت نباح الكلاب. والآن أما زلت تكذبني؟".
وفي 1519 أصبح مارو وصيفاً خاصاً لمارجريت ووقع في غرامها ممتثلاً، وذكرت الأقاويل أنها بثته شكوى بشكوى، وأكبر الظن أنه لم ينل منها غير مذهبها. فقد عود نفسه الآن على التعاطف المعتدل مع قضية البروتستنت في فترات غرامياته. وتبع فرانسوا إلى إيطاليا، وحارب في بافيا وأبلى فيها بلاء الأبطال، ونال شرف الأسر مع مليكه، ثم أطلق سراحه- ولا عجب، فإن أحداً لا يتوقع أن يفتدي شاعر بالمال. ولما عاد إلى فرنسا جهر بأفكاره البروتستنتية في صراحة حملت أسقف شارتر على أن يستدعيه ويعتقله اعتقالاً كريماً في القصر الأسقفي. ثم أطلق سراحه بشفاعة مارجريت، ولكن سرعان ما قبض عليه لمساعدته المسجونين على الفرار من البوليس. وأطلق فرانسوا سراحه بكفالة وأخذه إلى بايون ليتغنى بمفاتن عروسه الجديدة إليانور البرتغالية. وبعد أن قضى في السجن فترة أخرى لأكله لحم الخنزير في الصوم الكبير تبع مارجريت إلى كاؤر ونيراك.
وسرعان ما تجددت الحملة على البروتستنت الفرنسيين نتيجة لحركة الملصقات. ونمى إلى مارو أن مسكنه في باريس فتش، وأن أمراً صدر بالقبض عليه (1535). وخاف ألا يجد مخبأ يكفي لإخفائه ولو كان مخدع مارجريت. ففر إلى إيطاليا لاجئاً إلى الدوقة رينيه في فررا. ورحبت به الدوقة، كأن فرجيلاً جديداً قد وصل من مانتوا، ولعلها كانت تعلم أنه يحب أن يربط اسمه باسم بوبليوس فرجيليوس مارو، ولكنه كان أكثر شبهاً بأوفيد العاشق المرح، أو بشاعره المفضل فيون، الذي أشرف على نشر قصائده، وترسم خطاه في حياته. ولما أذاع الدوق إركولي الثاني أنه اكتظ بالبروتستنت، انتقل كليمان إلى البندقية. وهناك بلغ فرانسوا عرض العفو عن المهرطقين المرتدين
عن ضلالهم. فأعلن مارو ارتداده، لأنه رأى أن نساء باريس جديرات بتضحية العقيدة،. ومنحه الملك بيتاً وحديقة، وحاول كليمان أن يعيش عيشة السادة البرجوازيين.
ثم طلب إليه فرانسوا فاتابل الذي كان يدرس العبرية في الكلية الملكية أن يترجم المزامير شعراً فرنسياً، وشرحها له كلمة كلمة. فترجمها شعراً رخيماً ونشرها مشفوعة بإهداء جميع العبارة إلى الملك. وأعجب بها فرانسوا إعجاباً حمله على أن يهدي نسخة خاصة منها إلى شارل الخامس، الذي كان صديقاً له في تلك الفترة. وبعث شارل إلى الشاعر بمائتي كراون (5000 دولار؟). وترجم مارو مزيداً من المزامير ونشرها في 1543 مع إهداء إلى غرامه الأول "سيدات فرنسا". ووضع لها جوديميل موسيقي كما رأينا، وبدأ نصف فرنسا ينشدها. ولكن إعجاب لوثر وكالفن أيضاً بها شكك السوربون، فشمت فيها رائحة البروتستنتية، أو لعل مارو عاد إلى التمتمة بهرطقاته في محنة نجاحه. وتجددت الحملة عليه، ففر إلى جنيف، ولكنه وجد المناخ اللاهوتي فيها أشد صرامة مما تحتمله صحته، فتسلل إلى إيطاليا ومات في تورين (1544) في التاسعة والأربعين، تاركاً ابنة غير شرعية لرعاية ملكة نافار.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق