1341
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث وحاشيتها
4- إليزابث وحاشيتها
وجدت الملكة في تودد هذه الزمرة من رجال عصرها النشيطين المكتملين رجولة وقوة إليها وملاطفتهم إياها- نقول وجدت ارتياحاً ورضا أكثر مما هو في
مضاجعة شاب مريض بالزهري مثلاً. وان المغازلة لتبقى ما لم يقض عليها الزواج، ومن ثم تلذذت إليزابث بالزلفى والملق والتودد طوال الوقت واستطابت ذلك كله في نهم لا يشبع. وجر اللوردات الخراب على أنفسهم في سبيل الاحتفاء بها وتسليتها، وعبروا بالمواكب والمهرجانات ومظاهر الأبهة والمسرحيات التنكرية عن عظمة الملكة ومجدها، وأغرقها الشعراء بقصائدهم وإهداءاتهم، وداعب الموسيقيون أوتار آلاتهم شدوا بمديحها. ولقد تغنت قصيدة غزلية بعينيها على أنهما كرتان ملكيتان تأسران الناظر إليهما وتقهرانه، وصدرها على أنه "أكمة جميلة تكمن فيها الفضيلة والبراعة القدسية(30)" وقال لها رالي إنها تحكي في مشيتها فينوس، وفي صيدها ديانا، وفي ركوبها الخيل الإسكندر، وفي غنائها ملاكاً، وفي لعبها أورفيوس(31). وكادت إليزابث تصدق هذا. وكانت مزهوة، وكأن كل مزايا إنجلترا وفضائلها لم تكن إلا الثمار المباركة لأمومتها، وهذا حق إلى درجة ما. ولما كانت ترتاب في مفاتن جسمها، فقد لجأت إلى ارتداء أثمن الثياب التي تغيرها كل يوم تقريباً، حتى لقد تركت عند موتها ألفي ثوب. وقد تحلت بالمجوهرات في شعرها وذراعيها ومعصميها وأذنيها وأثوابها، وإذا ما استنكر أحد الأساقفة حبها للمجوهرات، بعثت إليه بمن ينذره بالا يطرق هذا الموضوع ثانية، وإلا لقي ربه قبل الأوان(32).
وقد يكون سلوكها وعاداتها مفزعة. فقد صفعت رجال حاشيتها أو لاطفتهم وداعبتهم، بل حتى المبعوثين الأجانب. ولقد وخزت رقبة ددلي من الخلف حين انحنى ليتسلم براءة لقب ارل ، وبصقت أنى شاءت-وذات مرة على معطف ثمين. وكانت عادة أليفة يسهل الوصول إليها. ولكنها تحدثت بلسان ذرب، وربما غدت سليطة لا يمكن الرد عليها، وأقسمت كما يقسم القرصان (وكانت كذلك بالوكالة) وكان من أخف الأيمان التي تقسم بها "بحق وفاة الرب". وكان في مقدورها أن تكون قاسية، كما هو الحال في لعبة القط والفأر، التي لعبتها مع ماري ستيوارت،
أو في ترك ليدي كاترين جراي تذبل وتهن حتى الموت في "برج لندن". ولكنها كانت أساساً عطوفة رحيمة، وخلطت بين رقتها وضربتها. وكثيراً ما ثارت وفقدت صوابها، ولكن سرعان ما استعادت ضبط النفس والسيطرة على الأعصاب. وكانت تنفجر ضاحكة إذا تسلت، وكثيراً ما حدث ذلك. واولعت بالرقص فرقصت على قدم واحدة حتى بلغت التاسعة والستين وكانت تثب وتغامر وتصطاد. كما أحبت المسرحيات والحفلات التنكرية، واحتفظت بروح معنوية عالية حتى حين هبطت مواردها.
وكانت غاية في الشجاعة والذكاء عند مواجهة الخطر. وكانت معتدلة في طعامها وشربها، شرهة في المال والمجوهرات، وكانت تجد لذة كبيرة في مصادرة ممتلكات العصاة الأثرياء، ودبرت أن تحصل على مجوهرات التاج في إسكتلندة وبرجندي والبرتغال وتقتنيها، بالإضافة إلى ذخيرة من الجواهر والأحجار الكريمة أهداها إليها اللوردات المرتقبون نفعاً أو المرشحون للمناصب، لوم تشتهر بعرفان الجميل ولا بسخاء، وحاولت بعض الأحيان أن تدفع أجور العاملين لديها كلمات حلوة بدلاً من النقود، وقد كان ثمة شيء من حب الوطن في تقتيرها وكبريائها على السواء. وعندما تولت العرش، لم تكد توجد أمة بلغت من الفقر حداً تنظر معه إلى إنجلترا بعين الإجلال والتقدير، أما عند مماتها كانت لإنجلترا السيادة على البحار. كما كانت تتحدى سيطرة إيطاليا وفرنسا في مجال الفكر والعقل.
وأي نوع من العقل كان لهذه المرأة؟ لقد حصلت من التعليم على القدر الذي يمكن أن تحصل عليه ملكة دون عناء، وقد استمرت أثناء حكمها في دراسة اللغات. وتبادلت الرسائل بالفرنسية مع ماري ستيوارت، وتحدثت بالإيطالية مع أحد سفراء البندقية، ووبخت مبعوثاً بولنديا بلغة لاتينية قوية. وترجمت سالوست Sallust وبوثيوس Boethius، وألمت بقدر من اليونانية يكفي لقراءة سوفوكليس ولترجمة إحدى مسرحيات يوريبيدس. وزعمت أنها قرأت من الكتب عدد ما قرأ أي أمير في العالم المسيحي، والأرجح أن يكون الأمر كذلك. ودرست التاريخ كل يوم تقريباً، ونظمت الشعر وألفت الموسيقى، وعزفت، مع شيء من التسامح، على العود والعذراوية (آلة موسيقية تشبه البيان الصغير بدون قوائم)، ولكن كان
عندها من الإدراك ما تسخر به من منجزاتها، وتميز به بين التعليم والذكاء. وإذا ما أطرى سفير معرفتها باللغات ردت عليه قائلة: "ليس غريباً أن تعلم امرأة أن تتكلم، بل الأصعب منه كثيراً أن تعلمها كيف تكف عن الكلام(34)." وكان ذهنها حاداً قدر حدة كلامها وكان ذكاؤها يجاري الزمن ولا يتخلف عنه. وقال فرنسيس بيكون: "إنه كان من عادتها أن تقول عن توجيهاتها لكبار موظفيها إنها مثل الثياب، تكون محكمة محبوكة لأول مرة يلبسها الإنسان، ولكنها تصبح يوماً بعد يوم فضفاضة(35)" وكانت رسائلها وخطبها بلغة إنجليزية من إنشائها وحدها: معقدة ملتوية متكلفة، ولكنها زاخرة بالصيغ الغريبة، ساحرة في فصاحتها وأسلوبها.
وتحلت إليزابث بالذكاء أكثر منها بسداد الرأي. قال عنها ولسنهام: "أنها غير صالحة لمعالجة أي موضوع له وزنه(36)". ولكنه ربما تحدث في مرارة التفاني الذي لم يلق جزاءه. لقد كمنت براعتها في الرقة الأنثوية ودقة الإدراك الحسي، لا في المنطق المرهف. وفي بعض الأحيان كشفت نتيجة هذا كله عن حكمة أكبر في تصرفاتها الماكرة منها في تعليلها لها، أنها روحها التي يتعذر تحديدها أو تعريفها هي التي يعتد بها، وهي التي حيرت أوربا وسحرت إنجلترا، وأمدت بلادها بالقوة والقدرة على الازدهار والنمو. وأعادت إليزابث بناء الإصلاح الديني من جديد، ولكنها مثلت عصر النهضة-التلهف على أن يحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا إلى أبعد مدى، ينعم بها ويزينها كل يوم. ولم تكن نموذجاً للفضيلة، ولكن كانت مثالاً للحيوية والنشاط. إن سير جون هايوارد الذي كانت زجت به في السجن لتزويده اسكس الأصغر ببعض الأفكار الثورية، غفر لها ذلك فكتب عناه، بعد تسع سنوات من مكافأتها إياه (بالإفراج عنه)-كتب يقول:-
إذا كان ثمة إنسان أوتي من الموهبة أو الأسلوب ما يستطيع أن يكسب به قلوب الناس، فهو هذه الملكة. وإذا أظهرت شيئاً مثل هذا يوماً، فقد ظهر في أنها تجمع بين اللطف والجلال كما كانت تفعل، وفي تواضعها الموسوم بالفخامة حتى مع أقل الناس شأناً. وكانت كل قدراتها في حركة دائبة، وبدت وكأن كل حركة بمثابة
عمل موجه أحس توجيه. فقد تكون عيناها عالقتين بشخص ما، على حين أرهفت أذنيها لآخر وأصدرت أمراً لشخص ثالث، ووجهت حديثها لرابع، وكأنما روحها تحوم في كل مكان، ومع ذلك تبدو منطوية على نفسها وكأنها غير موجودة في أي مكان آخر. وكانت ترثى لبعض الناس، وتطوي آخرين، وتقدم الشكر لغيرهم، وتداعب فريقاً آخر في سرور وسخرية، دون أن تزدري أحداً، أو تغفل واجباً، وكانت توزع ابتساماتها ونظراتها ولفتاتها بقدر من الدهاء والفطنة يضاعف معه الناس من مظاهر اغتباطها(37).
وتطبعت حاشيتها بطباعها-يحبون ما تحب، ويقوون من ميلها إلى الموسيقى والروايات والعبارات المشرقة، ويرقون به إلى نشوة القصيد والغزليات والتمثيليات وحفلات الرقص. والنثر الذي لم تشهد إنجلترا مثيلاً له فيما بعد. وفي قصورها-هويتهول، وندسور، جرينتش، رتشموند، هامبتون كورت، تنقل اللوردات والسيدات والفرسان والسفراء والمغنون والخدم والحشم بين ألوان عدة من المراسم الملكية والمرح الأنيق. وكان ثمة دائرة خاصة تعد ألوان التسلية ابتداء بالأحاجي والنرد إلى حلبات الرقص الصاخبة وروايات شكسبير، وأقيمت الاحتفالات بانتظام في عيد الصعود وعيد الميلاد وعيد رأس السنة والليلة الثانية عشرة، وكاندلماس (عيد العذراء)، وشروفتيد (عيد قبل الصوم الكبير)، وزخرت بألوان الملاهي والتسلية، والمباريات الرياضية، والمقارعة بالسيوف، والتمثيل التنكري والمسرحيات وحفلات الرقص. وكانت الحفلات التنكرية شيئاً من الأشياء التي استوردت من إيطاليا إلى إنجلترا في عهد إليزابث، وكانت خليطاً براقاً من المهرجانات والشعر، والموسيقى والقصص الرمزي والتهريج والباليه، ضمها بعضها إلى بعض الروائيون والفنانون، وكانت تقدم في البلاط أو في ضياع الأثرياء، بأجهزة ووسائل وحركات معقدة، تؤديها سيدات ورجال متنكرون يرتدون أغلى الثياب في تصميم بسيط، وكانت إليزابث مولعة بالتمثيليات، وبخاصة الهزلية منها. ومن يدري كم من روايات شكسبير كان يصل إلى المسرح أو إلى الأعقاب والأجيال القادمة، لو لم تقف الملكة وليستر إلى جانب
المسرح وتدعمانه ضد كل الهجمات التي شنها عليه البيوريتانز.
ولم تقنع إليزابث بقصورها الخمسة، فانطلقت كل صيف تقريباً في جولات تجوب البلاد، لترى الناس ويروها وتراقب اللوردات التابعين وتستمتع بما يبذلون لها من إجلال وتكريم كارهين. وكان يتبعها بعض رجال البلاط، فرحين بالتغيير، متذمرين لعدم توفر وسائل الراحة والبيرة. وارتدى أهالي المدن ثياباً من القطيفة والحرير ليرحبوا بها بالخطب والهدايا، وكم أفلس النبلاء في سبيل الاحتفاء بها، وابتهل اللوردات المعسرون إلى الله ألا تعرج عليهم. وامتطت الملكة في جولاتها صهوة جواد أو تنقلت في محفة مكشوفة، تحي في روح وسرور الجموع التي احتشدت على الطريق. وابتهج الناس لرؤية مليكتهم التي لا تقهر، وافتتنوا بتحياتها الكريمة وسعادتها التي إليهم فغمرتهم ودفعتهم إلى تجديد الولاء لها.
وانتهج الحاشية نهجها في مرحها وحريتها في السلوك، وترفعها في الثياب وولعها بالمراسيم، ومثلها الأعلى في الكياسة، فقد أحبت أن تسمع خشخشة المجوهرات ونافس الرجال المحيطون بها النساء في تشكيل ما يحصلون عليه من منتجات الشرق على طرز إيطالية. وكان السرور واللهو يشكلان البرنامج المعتاد ولكن على المرء أن يكون على أهبة الاستعداد في أية لحظة لأية مغامرات عسكرية فيما وراء البحار. وينبغي على من يقدم على إغواء الفتيات أن يكون على أشد الحذر، لأن إليزابث كانت تحس بأنها مسئولة أمام آباء وصيفات الشرف اللائى يعملن لديها عن شرفهن. ومن ثم أبعدت ارل بمبروك عن البلاط لأن ماري فتون حملت منه سفاحاً(38). وف بلاطها-مثل أي بلاط آخر، حيكت الدسائس مثل نسيج العنكبوت، وتنافس النساء على الرجال، وتنافس الرجال على النساء، دون وازع من ضمير أو خلق، وكل ذلك إرضاء للملكة وكسباً لعطفها، وللمنح التي تغدقها نتيجة لذلك. إن هؤلاء السادة الذين رفعوا، شعراً، من شأن نقاوة الحب والأخلاق، تلهفوا نثراً على المناصب التي تدر ريحاً بلا عمل، وقدموا الرشاوى أو أخذوها، وعضوا بالنواجذ على الاحتكارات، وشاركوا في أسلاب القرصنة، ونظرت الملكة الشرهة بعين التسامح إلى الرشوة التي تزيد من الأجر
الضئيل الذي يحصل عليه خدمها. وبفضل هباتها أو بإذن منها أصبح ليستر أغنى لوردات إنجلترا، واستولى سير فيليب سدني على أراض شاسعة في أمريكا، وأخذ رالي أربعين ألف فدان في إيرلندة، ونعم ارل اسكس الثاني باحتكار استيراد النبيذ الحلو، وارتفع سير كرستوفر هاتون من مجرد "كلب مدلل" لدى الملكة إلى أكبر منصب في الدولة وحامل خاتم الملكة. ولم تعد إليزابث تحس بالعقول الجبارة قدر إحساسها بالسيقان الرشيقة-لأن عمد المجتمع هؤلاء لم يكونوا قد غطوا سيقانهم بالبنطلونات بعد، وعلى الرغم من كل أخطاء الملكة، فإنها اتخذت خطوة وشقت الطريق بغية إبراز الطاقات المختزنة في رجال إنجلترا الأفذاذ، واستثارت هممهم وشجاعتهم للقيام بالمشروعات الضخمة، وعقولهم إلى التفكير الجريء، وسلوكهم نحو الكياسة والفطنة، وإلى نظم الشعر والدراما والفن. وحول هذه الحاشية، وهذه المرأة تكاد تكون قد تجمعت كل عبقرية إنجلترا في أزهى عصورها.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق