1330
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> الكنيسة والإصلاح -> المصلحون الكاثوليك ا
2- المصلحون الكاثوليك الإيطاليون
ونتيجة لهذا كله اتجه الإجماع في إيطاليا إلى ضرورة الإصلاح داخل الكنيسة. والحق أن رجال الكنيسة المخلصين ظلوا قروناً يسلمون بالحاجة إلى الإصلاح الكنسي بل ويطالبون به. ولكن تفجر حركة الإصلاح البروتستنتي وتقدمها أضافا إلحاحاً جديداً على الحاجة والمطالبة "وانصب على رأس الأكليروس سيل غامر من الشتائم في المئات والألوف من النبذ والصور الساخرة"(6). ومس "نهب وما" ضمير الكرادلة وجماهير الشعب المرتاعين كما س دخولهم. وأعلن عشرات من القساوسة أن هذه الكارثة نذير من الله. وفي عظة للأسقف ستافيليو أمام الروتا (وهو فرع قضائي
من الإدارة البابوية) عام 1528 علل ضرب الله لعاصمة العالم المسيحي بعبارات أشبه ما تكون بلغة البروتستنت فقال "لأن البشر كلهم فسدوا؛ إننا لسنا مواطني مدينة روما المقدسة، بل مواطني بابل، مدينة الفساد"(7). وهو ما قاله لوثر.
قبيل عام 1517، في تاريخ غير مؤكد، أسس جوفاني بييترو كارافا والكونت جاتانو داتيني "مصلى الحب الإلهي" في روما للصلاة وإصلاح الذات. واختلف إلى المصلى الخمسون من الرجال النابهين، منهم إياكوبو سادوليتو، وجانماتيو جيبرتي، وجوليانو داتي. وفي عام 1524 أسس جاتانو طريقة للأكليريكيين النظاميين، وهم قساوسة علمانيون يخضعون نفسهم للنذور الديرية. وفض المصلى بعد "نهب روما"، والتحق كارافا وآخرون بالطريقة الجديدة التي اتخذت لها اسماً هو التياتية، نسبة إلى تياتي أوتشييتي، مقر أسقفية كارافا. وقبل في الطريقة رجال مرموقون مثل: بييتر وبيميو، وماركانطونيو فلامينيو، ولويجي بريولي، وجاسبارو كونتاريني، وريجينالد بولي... وكلهم نذروا أنفسهم للفقر، والعناية بالمرضى، وحياة الفضيلة الصارمة، وكان هدفهم كما قال أول مؤرخ لهم: "تعويض ما في الأكليروس من نقص، بعد أن أفسدت رجاله الرذيلة والجهل مما أفضى إلى خراب الشعب"(5). وانتشر أعضاء الطريقة في شتى أنحاء إيطاليا، وأسهم المثل الذي ضربوه كما أسهمت الإصلاحات البابوية والمجمعية، والمثل الذي ضربوه الكبوشيون والجزويت، في إصلاح خلق الأكليروس الكاثوليكي والبابوات. وضرب كارافا المثل بالتخلي عن كل وظائفه الكنسية ذات الموارد، وتوزيع ثروته الكبيرة على الفقراء.
وكان جيبرتي في شخصه وسيرته صورة للإصلاح الكاثوليكي. فهو في بلاط ليو العاشر من أئمة الإنسانيين، وفي عهد كلمنت السابع أمين أول للإدارة البابوية. وإذ هزته كارثة عام 1527، اعتكف في
أسقفيته بفيرونا، وعاش عيشة الراهب المتقشف وهو بدير أسقفيته. وأزعجه انحلال الدين هناك-فالكنائس متهدمة، والوعظ نادر، والقساوسة يجهلون اللاتينية التي يتلون بها القداس، والشعب لا يجلس إلى كرسي الاعتراف إلا نادراً. واستطاع بالقدوة الحسنة والمبدأ القويم والنظام الحازم أن يصلح أكليروسه. يقول مؤرخ كاثوليكي "وسرعان ما ملئت السجون بالقساوسة ذوي الخليلات"(9) وأعاد جيبرتي إنشاء أخوة البر Confraternita della Carita التي أسسها الكردينال جوليانو دي مديتشي عام 1519، وبنى ملاجئ للأيتام، وفتح مصارف الشعب لإنقاذ المقترضين من براثن المرابين. وقام بمثل هذه الإصلاحات الكردينال إركولي جوزانجا (ابن إيزابللا دستي) في مانتوا، وماركو فيدا في ألبا، وفابيو فجيلي في سبوليتو، وكثير غيرهم من الأساقفة الذين أدركوا أن على الكنيسة أن تصلح ذاتها أو تموت.
وسلكت الكنيسة في تاريخ لاحق العديدين من أبطال الإصلاح الكاثوليكي، الذين عاونوا على إنقاذها، في عداد قديسيها. ومن هؤلاء القديس فيليب نيري، وهو نبيل فلورنسي شاب، أسس في روما (حوالي عام 1540) جماعة غريبة تدعى Trinita de Pellegrini ويقضي نظام هذه المجموعة أن يحضر اثنا عشر علمانياً قداس الأحد، ثم يحجون إلى إحدى الباسلقات، أو إلى أحد المروج الريفية، وهناك يلقون أو يسمعون أحاديث التقوى والورع، ويرنمون بالموسيقى الدينية. وقد أصبح كثير من أعضاء الجماعة قساوسة، وسموا أنفسهم "آباء المصلى"، ومن ميولهم الموسيقية أضافت كلمة oratorio- التي تعني في الأصل مكان الصلاة-معنى جديداً إلى معناها القديم، وهو الترنيمة الكورالية. ومنهم القديس شارل بوروميو-ابن أخي البابا بيوس الرابع- الذي استقال من وظيفة الكردينال الرفيعة في روما ليطهر الحياة الدينية في ميلانو.
فأقر النظام بين رجال الأكليروس بوصفه رئيساً للأساقفة هناك، وكان لهم في تقشفه وتعبده الأسوة الحسنة. وقد لقي في سبيل الإصلاح بعض المقاومة. ذلك أن طريقة دينية تدعى "أوميلياتي"، كانت من قبل تفخر بتواضعها، انحدرت إلى درك الراحة والدعة بل الإباحية. وأمر الكردينال رهبانها أن يطيعوا قانون رهبنتهم، فأطلق أحدهم النار عليه وهو يصلي في الكنيسة. وكانت نتيجة هذه الفعلة أن تحولت رهبة الشعب إلى إجلال لهذا الرجل الذي رأى في الإصلاح خير رد على حركة الإصلاح البروتستنتي. وبفضل جهوده إبان حياته وفي أرجاء أبرشيته أصبح الخلق المهذب القاعدة الفاشية بين الأكليروس والعلمانيين على حد سواء. وأحس الناس بتأثيره في جميع أنحاء إيطاليا، وقد أسهم هذا التأثير في تحويل الكرادلة من نبلاء متعلقين بنعيم الدنيا إلى كهنة أتقياء.
وبدأ البابوات يوجهون اهتمامهم الصادق إلى الإصلاح الكنسي بعد أن حفزهم أمثال هؤلاء. ففي وسط عهد البابا بولس الثالث قدم له الفقيه الشهير جوفان باتيستا كاتشيا بحثاً في إصلاح الكنيسة قال في ديباجته "أرى أن الكنيسة أمنا المقدسة... قد اعتراها من التغير الكبير ما تبدو معه وقد تجردت من سمات طابعها التبشيري؛ وليس فيها أثر للتواضع وضبط النفس والتعفف والقوة الرسولية"(10). وأظهر البابا بولس ميله بقبوله إهداء الكتاب إليه. وفي 20 نوفمبر 1534 عهد إلى الكرادلة بيكولوميني، وسانسفيرينو، وتشيزي، أن يضعوا برنامج تجديد خلقي للكنيسة، وفي 15 يناير 1535 أمر بتنفيذ مراسيم الإصلاح التي أصدرها البابا ليو العاشر عام 1513 تنفيذاً دقيقاً. على أنه أجل الإصلاح الإيجابي بعد أن وقع في شراك السياسة البابوية والإمبراطورية، وأحدق به خطر زحف العثمانيين، وكره وسط هذه الأزمات أن يهز بنيان الإدارة البابوية أو أداءها لوظيفتها بتغييرات جذرية؛ ولكن الرجال
الذين رفعهم إلى مرتبة الكردينالية كانوا كلهم تقريباً معروفين بالنزاهة والتقوى. وفي يوليو عام 1536 قرر عقد مؤتمر إصلاحي في روما دعا إليه كونتناريني، وكارافا، وسادوليتو، وكورتيزي، وألياندر، وبولي، وتومازو باديا، وفيديريجو فريجوزي أسقف جوبيو، وكلهم رجال ملتزمون بالإصلاح، وأمرهم أن يكتبوا تقريراً عن الرذائل الفاشية في الكنيسة، والوسائل التي يشيرون بها للتخفيف منها. وافتتح سادوليتو المؤتمر بأن قرر في جرأة أن البابوات أنفسهم كانوا أهم سبب في تدهور الكنيسة بخطاياهم وجرائمهم وشرههم للمال(11). وظل المؤتمر يجتمع يومياً على مدى ثلاثة شهور. أما روحه الكبير، وهو جاسبارو كونتاريني، فكان ألمع رجال الإصلاح الكاثوليكي. ولد في البندقية (1483) من أسرة شريفة، وتلقى علومه في بادوا المتحررة، وما لبث أن تقلد منصباً مرموقاً في حكومة البندقية. وقد أوفد سفيراً لدى شارل الخامس في ألمانيا، وصحبه إلى إنجلترا وأسبانيا، ثم مثل مجلس الشيوخ في البلاط البابوي (1527-30). واعتزل السياسة وانقطع للدرس، وجعل من بيته ملتقى لخيرة رجال الدولة والكنيسة والفلاسفة والإنسانيين في البندقية. ومع أنه كان علمانياً فإنه كان يطيل التفكير في الإصلاح الكنسي، وتعاون تعاوناً نشيطاً مع كارافا. وجيبرتي، وكورتيزي، وبولي. وعرفته إيطاليا كلها مزيجاً نادراً من الذكاء والخلق، وفي عام 1535، ودون أي التماس منه، عينه بولس الثالث كردينالاً مع أنه لم يلتق به قط(12).
وفي مارس 1537 قدمت اللجنة للبابا "نصيحة الكرادلة المعينين لإصلاح الكنيسة"، وقد فضحت هذه النصيحة الاجتماعية، بحرية مذهلة، مفاسد الحكم البابوي، وعزتها بشجاعة أولاً "إلى مغالاة الفقهاء الكنسيين عديمي الضمير في سلطة البابا مغالاة مستهترة". ورأى التقرير "أن بعض
البابوات ادعوا الحق في بيع الوظائف الكنسية، وقد أفشت هذه المتاجرة بالرتب الكهنوتية الرشوة والفساد في الكنيسة على نطاق واسع بحيث أشرفت هذه المنظمة العظمى على الخراب بسبب انعدام الثقة في نزاهتها. وحث التقرير على فرض رقابة صارمة على كل نشاط تقوم به الإدارة البابوية، وعلى فرض رقابة على الإعفاءات الكنسية، وعلى وقف دفع المال لنيلها، وعلى مستوى أعلى في جميع الوظائف وفي شروط اختيار الكرادلة والقساوسة، وحظر الجمع بين عدة وظائف كنسية ذات دخل أو الانتفاع بهذه الوظائف غيابياً. وأضاف التقرير "لقد هجر معظم الرعاة قطعانهم في العالم كلها ووكلوها إلى الأجراء". أما الطرق الديرية فيجب تجديدها، وأما أديار الراهبات فيجب إخضاعها للرقابة الأسقفية، لأن زيارة الرهبان لها أفضت إلى الفضائح وتدنيس المقدسات. وأما صكوك الغفران فيجب الإعلان عنها مرة واحدة في العام فقط. واختتم التقرير بهذا النداء الحار للبابا.
"لقد أرضينا ضمائرنا، ولنا وطيد الأمل في أن نرى كنيسة الله وقد صلحت حالها تحت رياستكم.... لقد تسميتم باسم بولس، فلعلكم تحاكونه في محبته. لقد اختير أداة لحمل اسم المسيح إلى الوثنيين، وأملنا أن تكونوا قد اخترتم لتحيوا في قلوبنا وأعمالنا ذلك الاسم الذي نسى منذ أمد بعيد بين الوثنيين ومنا نحن الأكليروس، ولتشفوا علتنا، وتجمعوا خراف المسيح من جديد في حظيرة واحدة، ولتصرفوا عنا غضب الله وانتقامه الذي يتهددنا"(13).
وتقبل بولس بروح طيبة هذه "النصيحة الذهبية" كما سماها الكثيرون، وأرسل صورة منها لكل كردينال. أما لوثر فقد ترجمها إلى الألمانية، ونشرها تبريراً كاملاً لاختصامه روما، على أنه حكم على كاتبي الوثيقة بأنهم "كذابون... وأوغاد يائسون، يصلحون الكنيسة بالتملق"(14). وفي
20 أبريل 1537 عين بولس أربعة كرادلة-كونتاريني، وكارافا، وسيمونيتا، وجينوتشي-لإصلاح قسم الوثائق، وهو ذلك القسم من الإدارة البابوية الذي استشرت فيه الرشوة في منح تلك الإعفاءات، والإنعامات، والامتيازات، والترخيصات، والوظائف ذات الدخل، المحجوزة لتصرف السلطة البابوية. وكانت المهمة تتطلب الشجاعة، لأن قسم الوثائق كان يسلم البابا كل سنة 50.000 دوكاتية (1.250.000 دولار؟)-وهي نصف دخله تقريباً(15). وللفور تعالت صرخة ألم من موظفي القسم ومن يلوذ بهم، فشكوا من غلاء المعيشة في روما، وزعموا أن أسرهم سيحل بها العوز سريعاً لو أنهم أكرهوا على مراعاة حرفية القانون. ومضى بولس في حذر، ومع ذلك كان "عمل الإصلاح يسير بهمة" كما كتب ألياندر إلى موروني (27 أبريل 1540). وفي 13 ديسمبر دعا بولس ثمانين من رؤساء الأساقفة والأساقفة المقيمين بروما، وأمرهم بالعودة إلى كراسيهم. وهنا ارتفعت مئات الاعتراضات مرة أخرى. وحذر موروني البابا من أن العجلة في تنفيذ هذا الأمر قد تحمل بعض الأساقفة على الانضمام إلى اللوثريين إذ يعودون إلى مناطق غلب عليها الآن المذهب البروتستنتي، وهذا ما حدث فعلاً في عدة حالات. وسرعان ما تاه بولس في ميدان السياسة الإمبراطورية، وترك الإصلاح لخلفائه من بعده.
وانتصرت الحركة المطالبة بالإصلاح الداخلي حين ارتقى زعيمهما كارافا كرسي البابوية (1555) باسم بولس الرابع. وصدر الأمر إلى الرهبان الغائبين عن أديارهم دون موافقة رسمية وضرورة واضحة بالعودة إليها فوراً. وفي ليلة 22 أغسطس 1558 أمر البابا بإغلاق جميع أبواب روما والقبض على جميع الرهبان الآبقين. واتبعت إجراءات مماثلة في جميع الولايات البابوية، وأرسل بعض المدنيين للعمل في سفن تشغيل الأسرى.
وأبطل الاحتفاظ برياسة الأديار لإعالة الموظفين الغائبين بدخولها. وطلب إلى الأساقفة ورؤساء الأديار الذين لا يخدمون الإدارة البابوية فعلاً في وظيفة ثابتة أن يعودوا إلى وظائفهم وألا حرموا من دخلهم. وحظر الانتفاع بالدخول الكنيسة المتعددة. وأمرت كل أقسام الإدارة البابوية بخفض رواتبها، وإبعاد كل شبهة اتجار في التعيين للوظائف الكهنوتية، وبعد أن خفض البابا بولس موارده على هذا النحو، بذل تضحية أخرى فوقع دفع رسم التثبيت الذي كان يؤديه من يرقون رؤساء أساقفة. وصدرت عدة مراسين بابوية ضد المرابين، والممثلين، والبغايا؛ أما القوادون فتقرر إعدامهم. وطلب إلى دانييل دا فولتيرا أن يغطي بطريقة العضلات الخياطية أكثر الملامح التشريحية افتضاحاً في لوحة ميكل أنجيلو "الدينونة الأخيرة"؛ ويجب التسليم بأن ذلك المجزر الرهيب، مجزر الأجساد الهالكة أو المخلصة، لم يجد له من قبل مكاناً مناسباً فوق مذبح البابوات. واتخذت روما الآن مظهراً من التقوى والفضيلة الخارجية لا يلائم طبيعتها. وأصلحت الكنيسة أكليروسها وأخلاقها في إيطاليا، ووراء إيطاليا بصورة أقل وضوحاً، تاركة عقائدها سليمة في كبرياء. لقد تأخر الإصلاح طويلاً، ولكنه حين أتى كان مخلصاً وباهراً.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق