1280
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> عبقرية الإسلام -> تيمور
3- تيمور
1336- 1405
عرفنا أول عرفنا عن التتار أنهم قوم رحل من آسيا الوسطى، وأنهم أنسباء وأقرباء، وجيران للمغول، وشاركوهم في الحملات على أوربا، ووصف كاتب صيني من القرن الثالث عشر تحدرهم، وصفاً كثير الشبه بما صور به المؤرخ جوردانيز أمة الهون قبل ذلك بألف سنة، فالتتار قصار القامة، كريهو الطلعة والمحيا للغرباء عنهم، يجهلون القراءة والكتابة، مهرة في الحرب، يسددون سهامهم دون أن تطيش من فوق ظهر جواد مسرع، ويحافظون على استمرار جنسهم أو عرقهم بالمواظبة على تعدد الزوجات. وكانوا في هجراتهم وحملاتهم ينقلون معهم كل متاعهم وأسراتهم - الزوجات والأولاد والجمال والخيول والغنم والكلاب، ويرعون الحيوانات
فيما بين المعارك، ويتغذون بلحومها وألبانها، ويتخذون الملابس من جلودها. وكانوا يأكلون بنهم وشراهة عند توافر المؤن، ولكن كانوا يحتملون الجوع والعطش والقيظ والقر، "بصبر أكثر من أي شعب آخر في العالم "(17). وكانوا يتسلحون بالسهام المكسوة أطرافها أحياناً بالنفط الملتهب، وبالمدافع، وبكل معدات العصور الوسطى للحصار، ومن ثم كانوا أداة صالحة مستعدة لكل من كان يحلم بتأسيس إمبراطورية منذ كان في المهد صبياً.
وعندما مات جنكيزخان (1227) وزع ملكه على أبنائه الأربعة. فأعطى جغتاي الاقليم المحيط بسمرقند، وحدث أن أطلق اسم هذا الابن على قبائل المغول أو التتار التي حكمها. وولد تيمور (أي الحديد)، في مدينة "كش Kesh" في بلاد ما وراء النهر، لأمير إحدى هذه القبائل. وطبقاً لما رواه كلافيجو Clavijo أدى "سوط الله" الجديد هذه المهمة منذ نعومة أظفاره: فنظم عصابات من صغار اللصوص لسرقة الغنم والماشية من المراعي المجاورة (18). وفقد في إحدى هذه المغامرات إصبعيه الوسطى والسبابة من يده اليمنى، وفي مغامرة أخرى أصيب بجرح في عقبه، ومن ثم عرج بقية أيام حياته (19) فلقبه أعداؤه Timur-i-Lang أى تيمور الأعرج، ولكن الغربيين غير المدققين، مثل مارلو حرفوا هذا الاسم إلى Tamburlane أو Tamerane. وقد وجد تيمور فسحة من الوقت لتلقي قليل من التعليم، وقرأ الشعر، وعرف الفرق بين المبادئ والانحلال. ولما بلغ سن السادسة عشرة ولاه أبوه زعامة القبيلة. وآوى إلى أحد الأديار، لأن هذا الرجل العجوز (الوالد) قال عن الدنيا إنها ليست "أفضل من زهرية من الذهب مليئة بالثعابين والعقارب" وقيل إن الوالد نصح ابنه أن يرعى الديانة دوماً،
واتبع تيمور هذه الوصية إلى حد تحويل الرجال إلى مآذن (تكديس بعضهم فوق بعض للتنكيل بهم).
وفي سنة 1361 عين خان المغول "خوجة الياس" حاكماً على بلاد ما وراء النهر، وعين تيمور مستشاراً له، ولكن الشاب النشيط لم يكن قد نضج بعد لممارسة فن الحكم، وتشاجر بعنف مع سائر موظفي خوجة الياس، وأجبر على الهروب من سمرقند إلى الصحراء... فجمع حوله عدداً من المحاربين الشبان، وضم عصبته إلى عصبة أخيه الأمير حسين الذي كان في مثل ظروفه. وتجولوا من مكمن إلى مكمن، حتى تحجرت أجسامهم ونفوسهم بسب الأخطار والتشرد والفقر، إلى واتاهم بعض الحظ حين استخدموا لقمع فتنة في سيستان Sistan ، وما أن اشتد عود الأخوين حتى أعلنا الحرب على خوجة الياس وخلعاه وذبحاه. وأصبحا حاكمين في سمرقند على قبائل جغتاي (1365)، وبعد ذلك بخمس سنوات تآمر تيمور على ذبح الأمير حسين، وأصبح السلطان الوحيد.
وتروى سيرة حياته المشكوك فيها، عن عام 769هـ (1367م): "دخلت عامي الثالث والثلاثين، ولما كنت دوماً قلق البال لا يقر لي قرار، فقد كنت تواقاً إلى غزو بعض البلاد المجاورة"(20). وكان يقضي أيام الشتاء في سمرقند، وقل أن انقضى ربيع دون أن يخرج فيه إلى حملة جديدة. وقد لقن المدن والقبائل في بلاد ما وراء النهر أن تتقبل حكمه طواعية أو سلماً لا حرباً. وفتح خراسان وسيستان، واخضع المدينتين الغنيتين هراة وكابول، وأحبط المقاومة والتمرد بما كان ينزل من عقاب وحشي. ولما استسلمت مدينة سبزاوار Sabzawar بعد حصار كلفه كثيراً، أسر ألفين من رجالها، "وكدسهم أحياء، الواحد فوق الآخر، وضرب عليهم بنطاق من الآجر والطين، وأقام منهم مئذنة، حتى إذا استقين الرجال جبروت غضبه، لا يعود يغويهم شيطان الصلف والكبرياء". وهكذا روى القصة مادح
معاصر(21). وغفلت مدينة زيرية Zirih عن هذه الحقيقة وأبدت مقاومة، فأقام الغازي من رؤوس أبنائها عدداً أكبر من المآذن. واجتاح تيمور أذربيجان واستولى على لورستان وتبريز، وأرسل فنانيهما إلى سمرقند. واستسلمت أصفهان في 1387 وارتضت بقاء حامية من التتار بها، فلما غادر تيمور المدينة انقض السكان على الحامية وذبحوا رجالها. فعاد تيمور بجيشه وانقض على المدينة وأمر كل فرد في جيشه أن يأتيه برأس واحد من الفرس. وقيل إن سبعين ألفاً من رءوس الأصفهانيين علقت على أسوار المدينة أو أقيمت منها أبراج تزين الشوارع (22). فلما سكن روع تيمور وهدأت نفسه خفض الضرائب التي كانت المدينة تدفعها لحاكمها، ودفعت سائر مدن فارس الفدية دون ضجة.
وتقول أسطورة أطراف من أن تصدق، إنه في شيراز في 1387، دعا تيمور أشهر مواطني المدينة إلى المثول بين يديه، وقرأ عليه غاضباً سطوراً (من الشعر) كانت قد قدمت فيها مدينتا بخاري وسمرقند من أجل الخال في خد سيدة، وقيل إن تيمور شكا غاضباً وهو يقول: "إني بضربات سيفي اللامع الصقيل أخضعت معظم الأرض المعمورة لأزين بخاري، وسمرقند، مقر حكومتي، وأنت أيها التعس الحقير تريد أن تبيعهما من أجل شامة سوداء في خد سيدة تركية في شيراز!" وتؤكد الرواية أن حافظ انحنى أمام الأمير وقال: "وا أسفاه أيها الأمير، أن هذا التبذير هو سبب البؤس الذي تراني فيه". واستساغ تيمور هذا الجواب فأبقى على حياة الشاعر ومنحه هدية سنية. ومما يؤسف له أن أحداً من كتاب سيرة تيمور المتقدمين لم يورد ذكر هذه الحادثة الطريفة(23).
وعند ما كان تيمور في جنوبي فارس جاءته الأبناء بأن طقطميش خان القبيلة الذهبية انتهز فرصة غيابه ليغزو بلاد ما وراء النهر، بل حتى ليعمل السلب والنهب في المدينة الجميلة بخاري التي قدرها حافظ بنصف خال على
خد سيدة، فسار تيمور ألف ميل إلى الشمال (تصور مشاكل التموين في مثل هذه المسيرة)، ورد طقطميش إلى الفولجا. وسار جنوباً وغرباً وأغار على العراق وجورجيا وأرمينية، وهو يذبح في طريقه كل السادة الذين دمغهم بأنهم "شيوعيون مضللون"(24). واستولى في 1393 على بغداد بناء طلب سكانها الذين لم يعودوا يحتملون جور سلطانهم أحمد بن أويس. ولما رأى تدهور العاصمة أمر معاونيه بإعادة بنائها، وفي نفس الوقت أضاف إلى حريمه نخبة من الزوجات، وغلى حاشيته واحداً من اشهر الموسيقيين، ولجأ السلطان أحمد إلى بايزيد الأول سلطان العثمانيين في بروسة. وطلب تيمور تسليم السلطان أحمد، فرد بايزيد بأن هذا أمر يخدش تقاليد الضيافة عند الأتراك.
وكان من الممكن أن يتقدم تيمور إلى بروسه، لولا أن طقطميش عاود غزو بلاد ما وراء النهر، فاكتسح التتري المهتاج جنوبي روسيا، وبينما كان طقطميش مختبئاً في البرية، اجتاح مدينتي القبيلة الذهبية: سراي واستراخان. ولما لم يجد تيمور أية مقاومة، تقدم بجيشه غرباً من الفلجا إلى الدون، وربما كان من خطته أن يضم روسيا كلها إلى مملكته. وأقسام الروس في البلاد الصلوات في حرارة وحمية، وحملت "عذراء فلاديمير" إلى موسكو، بين صفوف الضارعين الراكعين وهم يصيحون: "يا أم الاله، خلصي روسيا". وساعد فقر السهوب على إنقاذها. ولما وجد تيمور أنه لا غناء في هذه السهول الجرداء ولا شيء فيها يمكن سلبه، ارتد إلى الدون وقاد جنوده المنهوكين الجياع إلى سمرقند (1395-1396).
وتجمع كل الروايات على أنه كان في الهند ثروات تشتري مائة روسيا، وأعلن تيمور أن حكام المسلمين في شمال الهند شديدو التسامح مع الهندوس الوثنيين الذين يجب عليهم اعتناق الاسلام أو تحويلهم إليه. وسار تيمور، وهو في الثالثة والستين من العمر على رأس جيش قوامه 92.000 رجل
(1398). وعلى مقربة من دلهي التقى بجيش سلطانها محمود، فهزمه، وذبح مائة ألف (؟) سجين، ونهب العاصمة، وجلب معه إلى سمرقند كل ما استطاعت جنوده ودوابه أن تحمل من ثروات الهند الأسطورية.
وفي 1399، ولم تكن قد محيت من ذاكرته قصة أحمد وبايزيد الأول، تقدم مرة ثانية، وعبر فارس إلى أذربيجان، وخلع ابنه المبذر المضيع الذي كان حاكماً عليها، وشنق الشعراء والوزراء الذين كانوا قد أغروا الشاب بالانغماس في اللهو، واجتاح جورجيا. ولما دخل آسيا الصغرى حاصر سيواس، واغتاظ لطول مقاومتها، فدفن أربعة آلاف جندي مسيحي أحياء- أو أن مثل هذه القصص من دعاية الحرب؟ ورغبة منه في حماية جناح جيشه عند مهاجمة العثمانيين، أرسل رسولاً إلى مصر مقترحاً ميثاق عدم اعتداء، ولكن سلطان المماليك أودع الرسول السجن، واستأجر سفاحاً لقتل تيمور. وباء المشروع بالإخقاق. وبعد إخضاع حمص وحلب وبعلبك ودمشق، سار التتري إلى بغداد التي طردت كل الموظفين الذين عينهم هو. واستولى عليها بثمن باهظ، وأمر جنوده البالغ عددهم عشرين ألفاً بأن يحضر إليه كل منهم رأس واحد من الأهالي. وتم له ما أراد- أو هكذا قيل: أغنياء وفقراء، رجالاً ونساء، شيباً وشباناً، فكلهم دفعوا ضريبة الرأس هذه، وكدست رءوسهم على شكل أهرام مروعة أمام أبواب المدينة (1401). وأبقى الغزاة على مساجد المسلمين وعلى أديار الرهبان والراهبات ، وسلبوا ودمروا ما عداها تدميراً تاماً، حتى العاصمة التي كانت يوماً مدينة زاهرة باهرة لم تعد سيرتها الأولى إلا في أيامنا هذه بفضل زيت البترول .
وإذا أيقن آنذاك تيمور أنه يمكنه أن يطمئن على ملكه عن اليمين وعن الشمال ،أرسل إلى بايزيد إنذاراً نهائياً للتسليم . ولكن سلطان الأتراك الذي زادت ثقته بنفسه يفضل انتصاره في معركة نيقوبوليس 1396،
أجاب بأنه سوف يسحق جيش التتار ويتخذ من زوجة تيمور الأثيرة جارية له (25) والحم أقدر قائدين في زمانهما في أنقرة 1401، وأرغمت استراتيجية تيمور أعدائه الأتراك على القتال بعد أن أرهقتهم وأنهك قواهم طول السير. وهزم الأتراك هزيمة منكرة وأخذ بايزيد أسيراً. وابتهجت القسطنطينية، وظل العالم المسيحي بمنجاة من الأتراك لمدة نصف قرن بفضل التتار. وواصل تيمور سيره في اتجاه أوربا إلى بروسه واحرقها، وحمل معه من المدينة المكتبة البيزنطية والأبواب الفضية. وتقدم نحو البحر المتوسط، وانتزع أزمير من أيدي فرسان رودس، وذبح السكان،وقدمت جنوه التي كانت لا تزال تحتفظ بخيوس وفوشيا وميتلين خضوعها ودفعت الجزية. وأفرج سلطان مصر عن رسول ملك التتار، وانخرط في الزمرة الممتازة، زمرة التابعين الخاضعين لسلطان تيمور. وعاد تيمور أدراجه الى سمرقند، وهو أقوى حكام عصر، حيث امتد ملكه من أواسط آسيا إلى النيل ومن البسفور إلى الهند. وبعث إليه هنري الرابع ملك إنجلترا بالتهنئة، كما أوفدت إليه فرنسا أسقفاً يحمل الهدايا. وأرفد إليه هنري الثالث ملك قشتالة بعثة شهيرة برياسة روى جونزاليز كلافيجو.
وإنا لمدينون لمذكرات كلافيجو بمعظم ما نعلمه عن بلاط تيمور. فقد غادر قادس في 13 مايو 1403، ومر بالقسطنطينية وطرابزون وأرضروم, وتبريز وطهران (التي وردت الآن لأول مرة على لسان أحد الأوربين) ونيسابور، ومشهد، حتى وصل سمرقند في 31 أغسطس 1404. وكان قد توقع لسبب ما، أن هناك قوماً من السفاكين الكريهى الطلعة. وما كان أشد دهشته لكبر عاصمة تيمور وازدهارها، وفخامة المساجد والقصور، وسلوك سادتها وعاداتهم الحميدة، وثراء البلاط وترفه، واحتشاد للفنانين والشعراء حول تيمور احتفاء به وتكريماً له.
وكانت المدينة آنذاك قد مضى على بنائها أكثر من ألفى عام، وكانت تضم نحو مائة وخمسين ألف نسمة مع "مجموعة من أعظم الدور وأجملها"، مع كثير من القصور "التي تضللها الأشجار"، بهذا كله رجح كلافيجو أن سمرقند "أكبر من أشبيلية"، هذا بخلاف الضواحي المترامية. وكان الماء يرفع إلى البيوت من نهر يجري بالقرب من المدينة، وكست مياه الري المنطقة الخلفية بالخضرة. وتضوع الهواء بعبير البساتين والكروم. وتوافرت المراعي للأغنام والماشية، ونمت المحاصيل الكثيرة. وكان في المدينة مصانع للمدافع والدروع والأقواس والسهام والزجاج والخزف، والمنسوجات المتناهية في اللمعان بما فيها "القرمزي" وهو الصباغة الحمراء، ومنه اشتقت اللفظة الإنجليزية Crimson. وكانت المدينة تضم التتار والأتراك والعرب والفرس والعراقيين والأفغانيين والكرجيين والأرمن والكاثوليك والنساطرة والهندوس، ممن يعملون في الحوانيت أو في الحقول، ويسكنون في بيوت من الطوب أو من الطين أو الخشب، أو يسرحون ويمرحون في المدينة على ضفة النهر، كل يمارس شعائره الدينية في حرية تامة، ويدعو لعقيدته المتعارضة مع سائر العقائد. وكانت تحف على جوانب الشوارع الرئيسية الأشجار والحوانيت والمساجد والمدارس والمكتبات، وكان هناك مرصد، وكان ثمة جادة رئيسية عريضة تقطع، في خط مستقيم، المدينة من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر، وكان القطاع الرئيسي من هذا الطريق العام مغطى بالزجاج(26).
وفي 8 سبتمبر استقبل إمبراطور التتار كلافيجو، الذي مر بساحة فسيحة "نصبت فيها خيام كثيرة من الحرير"، وسرادقات مطرزة بالحرير، وكانت الخيمة هي المسكن المألوف لدى التتار، وكان لتيمور نفسه في هذه الساحة خيمة يبلغ 300 قدم، كما كان هناك أيضاً قصور ذوات أرضية من الرخام أو القرميد، مزودة بأثاث متين مرصع بالأحجار
الكريمة، وكله مصنوع أحياناً من الفضة أو الذهب. ووجد كلافيجو ملك التتار جالساً القرفصاء على وسائد من الحرير "تحت مدخل أجمل قصر" قبالة نافورة يندفع منها عامود من الماء الذي انصب في حوض يتحرك فيه التفاح بلا انقطاع. وكان تمور يرتدي عباءة من الحرير ويلبس قبعة عالية واسعة مرصعة بالياقوت واللآلىء. وكان هذا العاهل طويل القامة نشيطاً يقظاً، أما الآن وهو في سن الثامنة والستين، فقد كان منحنياً ضعيفاً متوجعاً، وكاد أن يكون كفيفاً. وكان يستطيع بشق النفس أن يرفع جفنيه ليرى السفير.
وحصل تيمور من الثقافة على ما يمكن أن يحتمله رجل عمل، فقرأ التاريخ؛ وجمع الفن والفنانين، وصادق الشعراء والعلماء، واستطاع عند الاقتضاء أن يتحلى بأجمل العادات. واستوى غروره مع قدرته، مما لم يتفوق فيه أحد عليه في زمانه. وقدر تيمور على العكس من قيصر، أن القسوة جزء ضروري من الاستراتيجية، ولكنه، إذا صدقنا ضحاياه، غالباً ما يبدو آثماً متهماً بالقسوة لمجرد الانتقام. فإنه حتى في إدارته المدنية كان يسرف في الحكم بالإعدام، حتى على محافظ اتبع سياسة الظلم في المدينة، أو على جزار تقاضي للحم ثمناً أكثر مما ينبغي (27). إنه نفذ سياسة القسوة والعنف بوصفها ضرورية لحكم شعب لم يألف القانون بعد. وبرر مذابحه على أنها وسيلة لإرغام القبائل المخالفة للقانون والنظام على اتباع النظام ومتطلبات الأمن في دولة موحدة قوية. ولكنه مثل سائر الغزاة والفاتحين أحب القوة لذاتها، وأحب الغنائم والأسلاب من أجل العظمة التي يمكن أن تغطي الغنائم تكاليفها.
وفي 1405 شرع في فتح منغوليا والصين، يراوده حلم إنشاء دولة تضم نصف العالم، وتربط بين البحر المتوسط وبحر الصين. وكان جيشه يتألف من مائتي الف من الرجال الأشداء. ولكنه قضى نحبه في أتار
Ottar على الحدود الشمالية من مملكته، وكانت آخر أوامره أن يتابع جيشه سيره، ولبرهة بسيطة تقدم جواده الأشهب المسرج، دون أن يمتطيه صاحبه، وهو يسير الهوينا في خطى متزنة - تقدم الحشد. ولكن جنوده كانوا على يقين من أن عقل قائدهم وإرادته كانتا تشكلان نصف قوتهم، فعادوا على عجل إلى أوطانهم وهم في حداد على موت القائد، وقد كتب لهم الخلاص من هذه المهمة. وشيد له بنوه في سمرقند مقبرة فخمة هي "مقبرة الأمير"، وهي عبارة عن برج تعلوه قبة ضخمة بصلية الشكل، مكسوة واجهتها بالآجر ذي الطلاء الأزرق الجميل الفيروزي المائل للخضرة.
وتحطمت إمبراطورية تيمور بموته، وكادت الأقاليم الغربية أن تنهار في الحال. وكان لزاماً أن يقنع أولاده بالشرق الأوسط. وكان أعقل أفراداً أسرة تيمور هو شاه رخ الذي رخص لابنه أو لوج في أن يحكم بلاد ما وراء النهر من سمرقند، على حين حكم الوالد نفسه خراسان من هراة، وتحت حكم خليفتي تيمور هذين أصبحت العاصمتان مركزين متنافسين على ازدهار التتار وثقافتهم، ازدهاراً وثقافة تعدلان أياً من مثيلاتهما في أوربا في ذات العصر (1405-1449). وكان شاه رخ قائداً قديراً يحب السلام، وقد شجع الفنون والآداب، وأسس في هراة مكتبة ذائعة الصيت. وقال أحد أمراء أسرة تيمور "إن هراة هي جنة الدنيا" (28). أما أولوح بك فقد رعى رجال العلم، وشيد في سمرقند أعظم مرصد في ذاك العصر. وقال أحد كتاب السير المنمقين من المسلمين:
"كان عالماً، عادلاً، بارعاً نشيطاً، على درجة كبيرة من المعرفة بعلم الفلك، على حين أنه في علوم البلاغة كان شديد التدقيق. وسمت مكانة رجال العلم في عصره إلى ذروتها. وفي الهندسة فسر أدق المسائل، أما في علم الظواهر الكونية
(الكوزموجرافيا) فقد شرح كتاب بطلمبوس. ولم يجلس على العرش ملك مثله قط حتى اليوم. وسجل ملاحظات عن النجوم بالتعاون مع العلماء الأولين. وأسس في سمرقند كلية لا يمكن أن يوجد لها الأقاليم المتاخمة السبعة مثيل من جمالها ومكانتها وقيمتها"(29).
ولكن هذا النموذج الفريد للرعاية قتل في 1449 بيد ابن غير شرعي له. واستمرت هذه الثقافة العالية التي تميزت بها أسرة تيمور على عهد السلطان "أبو سعيد" والسلطان "حسين بن بيقره" في هراة حتى نهاية القرن الخامس عشر. وفي 1501 استولى مغول الأوزبك على سمرقند وبخارى، وفي 1510 انتزع الشاه الصفوى هراة وبابور، وفر آخر حكام أسرة تيمور إلى الهند وأسس هناك أسرة مغولية جعلت من دلهي الإسلامية بعاصمة رائعة في روعة رومه على عهد أسرة مديتشي.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق