1284
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> عبقرية الإسلام -> الفكر الإسلامي
8- الفكر الإسلامي
أفلت شمس العلم والفلسفة وضاع مجدها، لأن الدين كان قد كسب معركته ضدهما، في الوقت الذي كان فيه يتراجع ويستسلم في الغرب المراهق. وكان الذين يحظون بالشرف الرفيع هم رجال الدين والدراويش والنساك والأولياء، أما العلماء فقد قصدوا إلى استيعاب نتائج أبحاث أسلافهم، أكثر مما قصدوا إلى إمعان النظر في الطبيعة من جديد. وكان آخر تقدم أو محاولة نشيطة في الفلك الإسلامي في سمرقند حين صاغ راصد النجوم في مرصد أولوج بك في سنة 1437 الجداول الفلكية التي حظيت بأعظم التقدير في أوربا حتى القرن الثامن عشر. وقاد ملاح عربي مزود بجداول وخريطة عربية، فاسكودا جاما من أفريقية إلى الهند في المرحلة التاريخية التي وضعت نهاية لسيطرة الإسلام الاقتصادية(49).
وفي الجغرافيا أنجب المسلمون شخصية عظيمة فذة في هذا العصر. ففي سنة 1304 ولد في طنجة محمد عبد الله بطوطة الذي طاف بدار الإسلام- العالم الإسلامي- لمدة أربع وعشرين سنة ثم عاد إلى المغرب
ليقضي نحبه في فاس. وإن يوميات هذا الرحالة لتوحي بمدى انتشار الإسلام الواسع، فهو يذهب إلى أنه قطع في رحلته 75.000 ميل (أكثر من أي إنسان آخر قبل عصر البخار)، كما زعم أنه رأى غرناطة وشمال أفريقية وتمبكتو ومصر والشرقين الأدنى والأوسط وروسيا والهند وسيلان والصين، وأنه زار كل حاكم مسلم في هذا العصر. وفي كل مدينة كان يقدم احتراماته أولا إلى العلماء ورجال الدين ثم بعد ذلك إلى الملوك والحكام. وإنا لنرى النزعة الإقليمية عندنا منعكسة عليه حين يعدد "الملوك السبعة العظام في العالم"، وكأنهم مسلمون فيما عدا واحداً صينياً(50). إنه لا يصف الأشخاص والأماكن فحسب، بل يصف كذلك حيوان كل منطقة ونباتها والمعادن والأطعمة والأشربة والأسعار في مختلف البلاد، وكذلك المناخ ومظاهر الطبيعة والعادات، والأخلاق والطقوس الدينية والمعتقدات،وهو يتحدث بكل إجلال عن السيد المسيح والسيدة العذراء. ولكنه يشعر ببعض الارتياح والرضا حين يشير إلى أن "كل حاج يزور كنيسة القيامة في القدس يدفع رسوماً للمسلمين"(51). وعندما عاد إلى فارس روى كل تجاربه ومشاهداته، فأنزله سامعوه منزلة القصاص، ولكن الوزير أمر أحد سكرتيريه بتدوين ما أملاه ابن بطوطة من مذكرات. وضاع الكتاب وكاد أن ينسى، حتى وجد أخيراً أثناء الاحتلال الفرنسي الحديث للجزائر.
وفيما بين سنتي 1250 ، 1350 كان أعظم الكتاب إنتاجاً في التاريخ الطبيعي من المسلمين. فكتب محمد الدميري بالقاهرة كتاباً في علم الحيوان يقع في 1500 صفحة وكان الطب لا يزال قلعة سامية، (أي علماً برز فيه الجنس السامي). فكانت المستشفيات كثيرة في العالم الإسلامي. وشرح طبيب من دمشق هو علاء الدين بن النفيس الدورة الدموية الرئوية (1260) قبل سرفيتس (طبيب أسباني، القرن 16) بنحو 270سنة،
ونسب طبيب من غرناطة هو ابن الخطيب "الموت الأسود"إلى مرض معد، وأشار بالحجر الصحي للمصابين- معارضاً بذلك قول رجال الدين بأنه انتقام إلهي من خطايا الإنسان وآثامه. واشتمل بحثه "في الطاعون" (حوالي 1360 على هرطقة مشهورة: "يجب أن يكون من القواعد المقررة لدينا أن أي برهان مأخوذ من تقاليد "أتباع محمد" ينبغي أن يخضع للتعديل إذا تعارض تعارضاً واضحاً صريحاً مع الدليل الذي تأتي به الحواس (53).
وكان العلماء والمؤرخون كثيرين مثل الشعراء. وكانوا يكتبون باللغة العربية وهي لغة الاسبرانتو في العالم الإسلامي، كما جمعوا كثير من الأحوال بين الدرس والتأليف وبين النشاط السياسي والإداري. ومثال ذلك أبو الفداء الدمشقي، فقد اشترك في اثنتي عشرة حملة حربية، وكان وزيراً للملك الناصر في القاهرة، ثم عاد إلى سوريا حاكماً على حماه، وجمع مكتبة ضخمة، وألف مجموعة من الكتب تعتبر قمة مثيلاتها في هاتيك الأيام.وفاق بحثه في الجغرافيا "تقويم البلدان" في اتساع مداه، أي مؤلف أوربي من نوعه في عصره، وقد قدر فيه أن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، وأشار إلى السائح حول العالم يكسب أو يفقد يوماً في مسيرة غرباً أو شرقاً، وكان كتابه "المختصر في أخبار البشر" هو التاريخ الإسلامي الأساسي المعروف لدى الغرب.
ولكن الاسم اللامع في كتابة التاريخ في القرن الرابع عشر هو عبد الرحمن ابن خلدون. فهنا نجد رجلاً ذا وزن وقيمة حتى في أعين أهل الغرب رجلاً عركته التجارب والسياحة وفن الحكم الذي مارسه عملياً، وهو مع ذلك حسن الاطلاع على الفن والأدب والعلوم والفلسفة في عصره، يكاد يحيط بالجوانب الإسلامية في هذا كله في "تاريخ للعالم". وإن مولد مثل هذا الرجل في تونس (1332) وارتفاع مكانته هناك، ليوحيان إلينا
بأن ثقافة شمالي أفريقية لم تكن مجرد صدى للإسلام في آسيا، بل كان لها طابع وحيوية خاصتان بها، وتقول سيرة حياة ابن خلدون: "لم أزل منذ نشأت وناهزت منكباً على تحصيل العلم، حريصاً على اقتناء الفضائل، متنقلاً بين دروس العلم وحلقاته....".
وقضى الموت الأسود على أبوابه وعلى كثير من المعلمين، ولكنه تابع دراسته "إلى أن شددت بعض الشيء"(54). وهذا ضرب من الوهم يتميز به الشباب. وعين في العشرين من عمره سكرتيراً لسلطان تونس، ثم لسلطان فاس في الرابعة والعشرين، وفي سن الخامسة والعشرين دخل السجن. ثم انتقل إلى غرناطة وأرسل سفيراً لها لدى بطرس القاسي في أشبيلية. وعندما عاد إلى أفريقية أصبح الوزير الأول للأمير أبى عبد الله في "بجاية" ولكن كان لزماً عليه أن يفر لينجو بنفسه عندما خلع سيده وقتل. وأرسلته مدينة تلمسان في سنة 1370 مبعوثاً لها إلى غرناطة، ولكن اعتقله في الطريق إليها أحد أمراء المغرب العربي، وبقى ابن خلدون أربع سنوات في خدمة هذا الأمير ثم لجأ إلى حصن بالقرب من وهران، وهناك (1377) كتب "مقدمة تاريخه" وهي مقدمة "لتاريخ العمران". ولما كان في حاجة إلى كتب أكثر مما استطاعت وهران أن تمده بها فإنه عاد إلى تونس، ولكن هناك تألب عليه من ذوي النفوذ فيها، فانتقل إلى القاهرة (1384)، وكانت شهرته كعالم قد طبقت الآفاق، وازدحم حوله الطلاب حين كان يحاضر في الجامع الأزهر، وأجرى عليه السلطان برقوق راتباً "كما كانت عادته مع العلماء"(55). وعين قاضياً للمالكية، فطبق القوانين بصرامة شديدة وأغلق الملاهي مما أدى إلى هجوه وعزله من منصبه، فاعتزل الحياة العامة ثانية. ثم أعيد إلى منصب قاضي القضاة، وصحب السلطان ناصر الدين فرج في حملة ضد تيمور، وهزمت القوات المصرية، فالتمس ابن خلدون ملجأ له في دمشق، وحاصرها تيمور،
وكان مؤرخاً آنذاك في سن الشيخوخة، فرأس وفداً يلتمس من التتري المنتصر شروطاً لينة رفيقة وأحضر- مثل أي مؤرخ آخر، مخطوطة تاريخه معه، وقرأ على تيمور الجزء الخاص به وسأله أن يصحح له معلوماته، وربما كان قد تعمد مراجعة الصفحات قبل ذلك لهذا الغرض نفسه. ونجحت الخطة، وأطلق تيمور سراحه، وما لبث أن عاد لبن خلدون مرة أخرى قاضياً للقضاة في القاهرة، ومات وهو في هذا المنصب، في سن الرابعة والسبعين (1406).
وألف ابن خلدون وسط هذه الحياة القلقة موجزاً عن فلسفة ابن رشد، وأبحاثاً في المنطق والرياضيات، ومقدمة ابن خلدون، وتاريخ البربر، وشعوب الشرق، والكتب الثلاثة الأخيرة فقط هي الباقية، وهي تشكل في مجموعها "تاريخ العالم" (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر). والمقدمة واحدة من الروائع في الأدب الإسلامي وفي فلسفة التاريخ، فهي إنتاج "حديث" إلى درجة مذهلة لعقلية عاشت في العصور الوسطى. ويرى ابن خلدون أن التاريخ "فرع هام من الفلسفة"(56)، وينظر نظرة عريضة واسعة إلى مهمة المؤرخ:
"اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال" (57). (ص 33 من مقدمة ابن خلدون طبعة كتاب الشعب- القاهرة 1969).
واعتقاداً منه بأنه أول من كتب التاريخ بهذه الطريقة، فإنه يسأل القارئ الصفح عن أية أخطاء لم يكن في الإمكان تجنيها فيقول:
"وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف
بالعجز عن المضاء في هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء،
والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد، لا بعين
الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء.
فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة،
والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة
لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل"(58).
(المصدر السابق، ص 10)
ثم هو يأمل في أن يكون كتابه هذا عوناً على الأيام الحالكة التي تنبأ بها:
وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله،
وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم
محدث. فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليفة والآفاق
وأجيالها، والعوائد والنحل لأهلها، ويقفو مسلك المسعودى
لعصره، ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده (59)".
(المصدر السابق، ص 31).
ويخصص ابن خلدون بعض صفحات يملؤها الزهو والفخر، يشير فيها إلى أخطاء بعض المؤرخين. ويحس بأنهم ضلوا في مجرد ترتيب الأحداث ترتيباً زمنياً، وقل أن ارتفعوا إلى مستوى إيضاح الأسباب والنتائج. وتقبلوا الخرافة بمثل الارتياح الذي تقبلوا به الحقيقة تقريباً، وقدموا إحصاءات مبالغ فيها، وفسروا أشياء كثيرة جداً بقوى خارقة
للطبيعة، أما بالنسبة له، فهو يعتزم أن يعول كلية على العوامل الطبيعية في تفسير الحوادث. ولسوف يحكم على ما يكتبه المؤرخون في ضوء التجارب الراهنة للجنس البشري، ويرفض أي حدث مزعوم يعتبر الآن مستحيل الوقوع. فإن التجربة يجب أن تفصل في صحة التقاليد أو فسادها(60). وكان منهجه في "المقدمة" هو أن يعالج أولاً فلسفة التاريخ، ثم يتناول أشغال الناس ومهمتهم وبراعاتهم، وأخيراً يعرض لتاريخ العلوم والفنون، وهو يدون في مجلدات متعاقبة التاريخ السياسي لمختلف الأمم، الواحدة تلو الأخرى، متعمداً التضحية بوحدة الزمان في سبيل وحدة الحضارة، كيف تنشأ، وكيف يحتفظ بها وكيف تنمي الآداب والعلوم والفنون، ولماذا تبلى(61)، فالإمبراطوريات- مثل الأفراد- لها حياة ولها مسارات خاصة بها. إنها تنشأ وتنضج وتضمحل(62) فما هي أسباب هذا التعاقب؟
والأحوال الأساسية في هذا التعاقب هي أحوال جغرافية. ذلك أن للمناخ تأثيراً عاماً ولكنه أساسي. فالشمال البارد ينتج آخر الأمر، حتى في أناس أصلهم من الجنوب، جلداً أبيض اللون وشعراً خفيفاً، وعيوناً زرقاء وميلاً إلى الجدية. أما الأقاليم المدارية فتنتهي بمرور الزمن إلى الجلد الأسمر والشعر الأسود، "وتغلب الروح الحيوانية"، وخفة في العقل والمرح وسرعة التنقل بين المسرات مما يؤدي إلى الغناء والرقص (63). ويؤثر الطعام في الخلق. فالغذاء الثقيل المكون من اللحوم والتوابل والحبوب بسبب بلادة الجسم والعقل، والاستسلام السريع للقحط أو العدوى. أما الغذاء الخفيف، مثل هذا الذي تتناوله شعوب الصحراء، فإنه يساعد على رشاقة الأجسام وصحتها، وعلى سلامة العقول. وعلى مقاومة المرض (64). وليس ثمة تفاوت فطري في القدرة الكامنة بين شعوب الأرض: فإن تقدمهم
أو تأخرهم تحدده الأحوال الجغرافية، ويمكن تغييره بتغيير هذه الأحوال، أو بالهجرة إلى مكان آخر (65).
أما الأحوال الاقتصادية فهي أقل قوة فقط من الجغرافية. ويقسم ابن خلدون المجتمعات إلى رحل ومقيمة أو مستقرة تبعاً لوسائل الحصول على القوت، ويعزو معظم الحروب إلى الرغبة في الحصول على مصدر للغذاء أكثر وفرة. فالقبائل الرحل لابد أن تغزو إن عاجلاً أو آجلاً، الجماعات المستقرة المتوطنة، لأن هؤلاء الرحل مرغمون بحكم ظروف حياتهم على التمسك بالصفات الحربية مثل الشجاعة وقوة الاحتمال والجلد والتماسك. وقد يدمر الرحل حضارة، ولكنهم لا يستطيعون إقامة حضارة قط. فإن الشعب المقهور يمتص دماء الرحل وثقافتهم. ولا يستثنى من ذلك العرب الرحل. والحرب أمر طبيعي طالماً أن الشعب غير قانع أبداً لأمد طويل بما لديه من غذاء. إن الحرب هي التي تنشىء السلطان السياسي وتجدده، ومن ثم كانت الملكية هي الشكل المألوف للحكومة. وقد سادت في كل حقب التاريخ تقريباً (66). وقد تنشىء السياسة المالية مجتمعاً أو تهدمه، فإن فرض الضرائب الباهظة أو دخول الحكومة إلى مجال الإنتاج والتوزيع، يمكن أن يخمد أو يقضي على الحوافز والمغامرة والمنافسة، ويقتل البقرة الحلوب التي تدر الدخل (67). ومن جهة أخرى فإن الإفراط في تركيز الثروة قد يمزق المجتمع إرباً بإذكاء نار الثورة(68).
وثمة قوى معنوية في التاريخ.وفي تماسك الناس تدعيم للإمبراطوريات، وأفضل وسيلة لتأمين هذا هو غرس عقيدة واحدة وممارستها. ويتفق ابن خلدون مع البابوات ومحاكم التفتيش والمصلحين الدينيين البروتستانت على عقيدة واحدة.
وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب . والتغلب إنما يكون
بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم". وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل التنافس وفشا الخلاف. وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف ، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبالله التوفيق، لا رب سواه (69). المصدر السابق، ص 142).
وليس الدين عوناً في الحرب فحسب، بل إنه كذلك خير عون على النظام في المجتمع، وعلى اطمئنان النفس وهدوء البال عند الناس فرادى. ولا يتأنى هذا إلا بعقيدة دينية تتقرر بلا مساءلة ولا جدال. إن الفلاسفة ليبتدعون مئات الأساليب، ولكن واحداً منهم لم يقع على بديل للدين، كمرشد ومصدر إلهام للبشر في حياتهم "وما دام الإنسان لا يستطيع فهم الدنيا، فإن من الخير له أن يتقبل العقيدة التي ينقلها إليه مشرع ملهم تلقى الوحي، يعرف ما فيه خيرنا ونفعنا أكثر مما تعرف نحن، ويشرع لنا ما ينبغي علينا أن نؤمن به وما ينبغي علينا أن نفعل (70)، وبعد هذه المقدمة الرشيدة ينتقل مؤرخنا الفيلسوف إلى تفسير للتاريخ قائم على المذهب الطبيعي.
إن كل إمبراطورية تمر بأطوار متعاقبة:
1- تحط قبيلة متنقلة منتصرة رحالها لتنعم بما أفاء الله به عليها من فتح رقعة من الأرض أو ولاية. "إن أقل الأقوام حضارة أعظمها فتوحاً"(71).
2- وكلما ازدادت العلاقات الاجتماعية تعقيداً، اقتضى الأمر سلطة أكثر تركيزاً بغية المحافظة على النظام، فيصبح الرئيس القبلي ملكاً.
3- وفي هذا النظام المستتب، تنمو الثروة، وتتصاعد المدن، ويرتقي التعليم والآداب ،وتجد الفنون من يرعاها، وتبزغ شمس العلوم والفلسفة. ويؤذن التوسع في سكنى المدن والحياة الناعمة بفضل الثراء، ببداية الاضمحلال.
4- إن المجتمع الذي أثرى يبدأ في إيثار المسرة والترف والدعة على العمل أو المغامرة أو الحرب ، ويفقد الدين سيطرته على الإنسان وعقيدته، وتنحط الفضائل والأعمال الحربية، ومن ثم يكون الاتجاه إلى استخدام الجنود المرتزقة للدفاع عن المجتمع، ومثل هؤلاء تعوزهم حماسة الروح الوطنية والعقيدة الدينية، وكأن الثروة التي لا يحسن الدفاع عنها تغري بمهاجمتها ملايين الجياع المضطربين فيما وراء الحدود.
5- إن الحملات الخارجية أو الدسائس الداخلية، أو كلتيهما معاً تسقط الدولة (72).
تلك كانت دورة الزمن بالنسبة لرومه، والمرابطين والموحدين في أسبانيا، والإسلام في مصر وسوريا والعراق وفارس، وهي تجري دائماً على هذا المنوال(73).
تلك هي قلة قليلة من آلاف الأفكار التي جعلت من "مقدمة ابن خلدون" أشهر نتاج فلسفي في القرن الذي عاش فيه. وكان لابن خلدون أفكاره الخاصة به كل شيء تقريباً، فيما عدا الدين الذي يرى أنه ليس من الحكمة أن يكون فيه مبتكراً. وعلى حين أنجز عملاً ضخماً من أمهات الكتب في الفلسفة يصرح بأن الفلسفة خطيرة، وينصح قراءه بأن يتركوها وشأنها (74). ويحتمل أنه قصد ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) واللاهوت، أكثر مما قصد
الفلسفة بمعناها الأوسع، كمحاولة لرؤية أحوال الإنسان من وجهة نظر أكثر شمولاً. إنه يتحدث في بعض الأحيان كما تتحدث أبسط امرأة عجوز في السوق، فيسلم بالمعجزات والسحر، و "العين الشريرة"، والخواص الغامضة لحروف الهجاء، ونبوءات الأحلام، والأمعاء، أو طيران الطيور (75). وهو مع ذلك يعجب بالعلوم، ويقر بتفوق اليونان على المسلمين في هذا المضمار، ويرثى لتدهور الدراسات العلمية في الإسلام (76). ويستنكر الكيمياء القديمة- ويعترف بشيء من الإيمان بالفلك (77).
وثمة سقطات معينة أخرى يجدر إيرادها. ذلك أنه على الرغم من ابن خلدون كان رحب الأفق، قدر رحابة الإسلام، إلا أنه شاطر الإسلام كثيراً من تحديداته، فلم يجد في مجلدات مقدمته الثلاثة إلا سبع صفحات للكلام عن المسيحية. ولم يورد ذكر اليونان والرومان وأوربا في العصور الوسطى غلا عرضاً. وعندما دون تاريخ شمال أفريقية ومصر الإسلامية والشرقين الأدنى والأوسط، اعتقد ذلك أنه قد روى "تاريخ الشعوب"(78). وهو في بعض الأحيان جاهل جهلاً معيباً يؤاخذ عليه، فيذهب إلى أن أر سطو كان يعلم من رواق وسقراط من دن (79).أن كتابته الفعلية في التاريخ تتخلف كثيراً عن مقدمته النظرية، ومجلداته عن البربر والشرق عبارة عن سجل جاف موحش لأنساب الأسرات وتسلسلها، ودسائس القصر، والحروب الصغيرة. ومن الواضح أنه قصد أن تكون هذه المجلدات تاريخاً سياسياً فحسب، وكتب المقدمة بوصفها تاريخاً للثقافة ، ولو أنها على الأرجح نظرة عامة في الثقافة.
ولكي تستعيد تقديرنا وإجلالنا لبن خلدون، جرى بنا أن نتساءل فقط عن أي عمل مسيحي في القرن الرابع عشر يمكن أن يضارع "المقدمة". وربما كان بعض المؤلفين القدامى قد تناولوا جانباً من هذا الميدان الذي طرقه ابن خلدون. وكان أحد أبناء جلدته، وهو المسعودى (المتوفى 956) قد
عالج في كتاب مفقود الآن، تأثير الدين والاقتصاد والسلوك والبيئة علة شخصية الشعب وقوانينه، كما تناول أسباب الاضمحلال السياسي(80). ومهما يكن من أمر فقد أحس ابن خلدون، وله بعض الحق، أنه خلق علم الاجتماع. إننا لا نستطيع، في أي أدب كان قبل القرن الثامن عشر، العثور على فلسفة للتاريخ، أو على منهج لعلم الاجتماع، يمكن أن يباري في قوته ومداه ودقة تحليله منهج ابن خلدون. إن رائد فلسفة التاريخ في عصرنا قد حكم على مقدمة ابن خلدون بأنها أعظم تأليف من نوعه أنتجه عقل بعد في أي زمان أو مكان (81). وقد يقارن به كتاب هربرت سبنسر "مبادىء علم الاجتماع" 1876-1896، ولكن كان لسبنسر معاونون كثيرون. إننا على أية حال قد نتفق مع مؤلف ممتاز مشهور في تاريخ العلوم "على أن أهم مؤلف تاريخي في العصور الوسطى"(82) هو مقدمة ابن خلدون.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق