1328
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> العلم في عصر كوبرنيق -> راموس والفلاسفة
9- راموس والفلاسفة
كانت حياة بتروس راموس- بيير دلاراميه- لا تقل شاعرية عن حية لابوييتي، وموته أشد عنفاً. لقد آلى على نفسه أن يخلع نير أرسطو.، إذ رأى فيه حكم رجل واحد دام نيفاً وثلاثة قرون، لا على أمة واحدة فحسب بل على أنن كثيرة، لا على الجسد بل على العقل، بل كاد يبسط سلطانه على الروح. أو لم ينصب هذا المفكر الوثني فيلسوفاً رسمياً للكنيسة؟ لقد فكر إنسانيو النهضة في إحلال أفلاطون محله، ولكن حركة الإصلاح البروتستنتي- أو الخشية من الحركة- أخذت تخنق الحركة الإنسانية، وظلت الكلامية الأرسطاطالية، سواء في ألمانيا
البروتستنتية أو في فرنسا الكاثوليكية، متربعة على العرش حين مات لوثر (1546) الذي لعنها. وبدا خلع هذا المقدوني عن عرشه في نظر الشاب المفكر أحل صورة من صور قتل الطغاة. فلما تقدم راموس لدرجة الأستاذية من جامعة باريس عام 1536، وكان يومها في عامه الواحد والعشرين، اتخذ موضوعاً لرسالته هذه الدعوى القاطعة التي كان عليه أن يدافع عنها يوماً بطوله أمام من تحدوه من الكلية وخارجها: "كل ما قاله أرسطو باطل".
كانت حياة راموس أشبه بنشيد يتغنى بالتعليم. فقد ولد قرب مدينة كالفن "نوايون" في إقليم بيكاردي، وحاول مرتين السفر إلى باريس على قدميه يحدوه تعطش إلى كلياتها، ولكنه أخفق في المرتين وقفل إلى قريته مهزوماً. ثم حالفه التوفيق في عام 1528، حين بلغ الثانية عشرة، إذ التحق بخدمة طلب غني يحضر للجامعة في كلية نافار- وهي نفس الكلية التي سرقها فيون. وشق بيير طريقه في منهج كلية الآداب العسير طوال سنوات ثمان، يخدم نهاراً ويذاكر ليلاً. وكاد يفقد بصره خلال ذلك، ولكنه عثر على أفلاطون. يقول:
"حين جئت باريس وقعت فريسة لتدقيقات السفسطائيين، فعلموني الآداب الحرة بالأسئلة والمجادلات، دون أن يدلوني على أية فائدة أو منفعة أخرى. فلما تخرجت... انتهيت إلى أن هذه المجادلات لم تكن سوى مضيعة لوقتي. ولما أفزعتني هذه الفكرة، وهداني ملك كريم، وقعت على زينوفون ثم على أفلاطون، ووصلت إلى معرفة فلسفة سقراط"(102).
ما أكثر من وصلوا منا في عهد الشباب إلى هذا الكشف المبهج، وسعدوا يوم التقوا في أفلاطون بفيلسوف سرت الخمر والشعر في عروقه، وسمع صوت الفلسفة في هواء أثينا نفسه، وأمسك بها وهي محلّقة، وأسلمها
إلى الأجيال التالية وهي لا تزال تحمل نسمة الحياة، وأصوات سقراط وتلاميذه لا تزال تجلجل بقوة النقاش ونشوة الجدل حول أشد المسائل إثارة في العالم! يا لها من راحة يستمتع بها المرء بعد صفحات أرسطو المملة، بعد الإسهاب في حديث "توسط الطريق"، "والوسط غير الأمثل"! بالطبع كنا- وكان راموس- غير منصفين لأرسطو، إذ نقارن مذكرات محاضراته المحكمة بمحاورات أستاذه الميسرة، ولا يستطيع تقدير الفيلسوف المقدوني سوى الراسخين في العلم. فلقد كان أرسطو الذي عرفه راموس هو أولاً منطق "الأورجانون"، أرسطو المدارس، الذي لا يكاد يثبت لمحنة الترجمة إلى لاتينية الكلاميين، ومحنة التحويل السحري إلى أكوينية تقليدية مسيحية طيبة. ويقول راموس إنه أنفق ثلاث سنين في دراسة منطق أرسطو دون أن يبصره أحد بفائدة واحدة أو تطبيق واحد له في العلم أو الحياة(103).
وأنها لمفخرة لكلية باريس، ولعلم راموس وحذقه وشجاعته، أن يمنح درجة الأستاذية التي تقدم لنيلها، ولعل الأساتذة أيضاً كانوا قد سئموا المنطق والاعتدال. ولكن بعضهم صدموا وأحسوا أن بضاعتهم لحقها ضرر من نقاش ذلك اليوم. وبدأت عداوات لم تفتأ تلاحق راموس حتى مماته.
وخولت له درجة الأستاذية الاشتغال بالتدريس، فبدأ لفوره في الجامعة سلسلة من المحاضرات مزج فيها الفلسفة بأدب اليونان والرومان. وكثر تلاميذه، وتضاعف كسبه، واستطاع أن يرد لأمه الأرملة ما بذلته من مدخراتها لتدفع رسوم تخرجه. وبعد سبعة أعوام من التحضير أصدر سنة 1543 (وهي نفس "سنة العجائب" التي صدرت فيها كتب كوبرنيق وفيساليوس)، كتابين واصلا حملته لإسقاط منطق أرسطو. وكان أحدهما، وهو: Aristotelicae animadversiones" هجوماً مباشراً صاغه أحياناً
في عبارات من القدح لا هوادة فيها، أما الآخر عن أقسام المنطق فقد قدم نسقاً جديداً يحل محل القديم. فأعاد تعريف المنطق باعتباره فن الحديث، وجمع بين المنطق والأدب والخطابة في طريقة إقناع فنية واحدة. وتوجس المهيمنون على الجامعة- ولهم العذر في توجسهم- مما قد يجر إليه هذا المأخذ من أخطار. يضاف إلى هذا ارتيابهم في بعض قضايا راموس التي شموا منها رائحة الهرطقة، كقوله مثلاً: "إن عدم التصديق بداية المعرفة"(104)- وهذا تشكك ديكارتي سابق لديكارت، أو طلبه مزيداً من دراسة الكتب المقدسة بدلاً من دراسة مجلدات الفلاسفة الكلاميين- وكان لهذا الطلب رنين بروتستنتي، أو تعريفه اللاهوت بأنه doctrina bene vivendi وهو تعريف هدد بإحالة الدين أخلاقاً. ثم هناك طرق راموس المثيرة للغيظ، وكبرياؤه ومشاكسته، وأسلوبه الجدلي العنيف، وترفعه القاطع على القطع بالعقيدة.
وما إن نشر الكتابان حتى دعا مدير الجامعة راموس للمثول أمام رئيس بلدية باريس بوصفه عدواً للدين، ومكدراً للسلام العام، ومفسداً للشباب بالبدع الخطرة وعقدت المحاكمة أمام لجنة ملكية من خمسة أعضاء- اثنان عينهما راموس، واثنان متهموه، وخامس فرانسوا الأول. ولم يرض رامواس عن إجراءات للمحاكمة، فسحب مندوبيه. وأصدر الثلاثة الباقون حكمهم ضده (1544)، فمنع بأمر ملكي من المحاضرة، أو النشر، أو المزيد من مهاجمة أرسطو. وعلقت صورة الحكم في أرجاء عديدة من المدينة، وأرسلت إلى الجامعات الأخرى. وأخرى الطلاب هزليات تهكموا فيها براموس، وسخر رابليه من هذا الشجار بإشراك الآلهة فيه.
ولزم راموس الصمت فترة، ثم بدأ سلسلة من المحاضرات في كلية آفي ماريا، ولكنه اقتصر على تدريس البلاغة والرياضيات، وأغضت الحكومة عن المخالفة. وفي عام 1545 أصبح المدير المساعد لكلية بريسل،
وما لبثت قاعة محاضراته أن ازدحمت بالطلاب. فلما تولى هنري الثاني العرش بعد فرانسوا الأول ألغى الحكم الصادر على راموس وتركه "حر اللسان والقلم"، وبعد عام في كرسي بالكلية حيث يعفى من أشراف الجامعة.
أما وقد بلغ راموس قصاراه إذ غدا أشهر معلم في باريس، فإنه خصص الكثير من وقته وجهده لإصلاح الطرق التربوية. وإذا كان قد اتكأ على "البلاغة"- وكانت آنئذ تعني الأدب- فلم يكن هذا لتنشيط الفلسفة بالشعر فحسب، بل لبث إنسانية نابضة بالحياة في مناهج صيرتها التجريدات والقواعد الكلامية جافة عسيرة. وفي خمس مقالات عن النحو طبق المنطق على اللغة، ورجا أن يصبح الهجاء الفرنسي صوتياً، ولكن هذا الهجاء واصل سيره المترنح، على أنه نجح في أن يدخل في الأبجدية الفرنسية حرفي j وv ليحلا محل الحرفين الساكنين I وu. ثم شجع تقرير المنح الدراسية لفقراء الطلبة، ذاكراً كفاحه وهو مملق في سبيل التعليم، وندد بالرسوم الباهظة التي تقاضاها الجامعات عن التخرج، وناضل في الوقت نفسه لرفع رواتب المدرسين.
وفي عام 1555 نشر كتابه Dialectique، وهو أول كتاب في المنطق بالفرنسية. وكان يحاج الآن لا عن الإقناع بالجدل والمنطق فحسب، بل دفاعاً عن العقل. كان بفطرته عدواً للنزعة التقليدية ولمجرد الاستشهاد بالثقاة، وقد رأى في العقل المرجح الوحيد الذي يحتكم إليه، وآمن في حماسة رجال النهضة أن العقل سيبلغ بالعلوم جميعها مرتبة تقرب من الكمال في قرن واحد له أطلق له العنان(105). كتب يقول: "كان شغلي الشاغل أن أزيح من طريق الآداب الحرة... كل العقبات والمعوقات الفكرية، وأن أعبد هذا الطريق وأقومه، لا تيسيراً للتفكير فحسب، بل لممارسة الآداب الحرة واستخدامها(106)".
وأغراه خلقه وفلسفته بالتعاطف مع الثورة البروتستنتية. فلما حصل الهيجونوت حيناً على التسامح مع الحكومة، بل وعلى الاشتراك فيها، أعلن راموس إتباعه المذهب الإصلاحي الجديد (1561). وفي بواكير عام 1562 مزق بعض تلاميذه الصور الدينية المعلقة في كنيسة كلية بريسل. وواصلت الحكومة دفع راتبه، ولكن مركزه كان يزداد حرجاً. فلما نشبت الحرب الأهلية (1562) غادر باريس بترخيص مرور من كاترين دي مديتشي، ثم عاد بعد عام حين وقعت معاهدة الصلح. وقد رفض في أدب دعوة وهت إليه ليشغل كرسياً في جامعة بولونيا، معتذراً بأن فرنسا طوقت عنقه بدين لا يسمح له بالرحيل عنها.
أما المعركة التي أفضت إلى موته فقد أصبحت علنية حين أفلح ألد أعدائه المدعو جاك شاربنتييه، في أن يشتري بالمال كرسي الرياضيات بالكلية الملكية (1565)(107)، على الرغم من اعترافه صراحة بجهله في العلوم الرياضية. وندد راموس بهذا التعيين، فهدد شاربنتييه، ولجأ راموس إلى المحاكم لتحميه، فأودع شاربنتييه السجن، ولكن أفرج عنه بعد قليل، وحاول بعضهم اغتيال راموس مرتين، فلما استؤنفت الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستنت (1567) غادر باريس ثانية. وقضت الحكومة الآن بألا يقوم بالتدريس في الجامعة أو الكلية الملكية غير الكاثوليك. فلما عاد راموس إلى باريس اعتزل الحياة العامة، ولكن كاترين واصلت دفع راتبه وضاعفته، وأصبح حراً في أن يفرغ للدرس والتأليف.
وفي يوليو 1572 دعاه مونلوك أسقف فالانس للانضمام إلى بعثة موفدة لبولنده، ولعل الأسقف توقع حدوث مذبحة القديس بارتولوميو، وفكر في حماية الفيلسوف الشيخ. ولكن راموس رفض، إذ لم يرقه مشروع تنصيب الأمير هنري أنجو على عرش بولندة. وسافر مونلوك في 17 أغسطس،
وبدأت المذبحة يوم 24. وفي اليوم السادس والعشرين اقتحم رجلان مسلحان كلية بريسل وصعدا إلى الطابق الخامس حيث مكتب راموس. ووجداه يصلي فرماه أحدهما برصاصة في رأسه، وطعنه الآخر بسلاحه، ثم قذفه الاثنان معاً من النافذة. وجر الطلبة أو الرعاع الجسد الذي ما زال ينبض بالحياة إلى نهر السين وألقوه فيه، وأخرجه نفر آخر منهم وقطعوه إرباً(108). أما من الذي استأجر القتلة فعلمه عند الله، ويبدو أنها ليست الحكومة، فالظاهر أن شارل التاسع وكاترين ظلا راضيين عن راموس إلى النهاية(109). واغتبط شاربنتييه بالمذبحة وبقتل خصمه: "هذه الشمس الساطعة التي أضاءت فرنسا خلال شهر أغسطس... لقد زال الهراء بزوال صاحبه. وكل الناس الطيبين يفيضون بشراً(110)". وبعد عامين مات شاربنتييه نفسه، بتأنيب الضمير كما يقول بعضهم، ولكن ربما كان هذا شرفاً لا يستحقه.
لقد بدا راموس مهزوماً سواء في الحياة أو التأثير. فأعداؤه انتصروا عليه، ومع أن بعض "الراموسيين" سمعت أصواتهم في الجيل التالي في فرنسا وهولندة وألمانيا، فإن الفلسفة الكلامية التي حاربها استعادت تفوقها، ونكست الفلسفة الفرنسية رأسها حتى جاء ديكارت. ولكن إذا كانت الفلسفة لم تحرز في هذه الحقبة إلا كسباً ضئيلاً، فإن الخطوات التي خطاها العلم كانت خطيرة؛ لقد بدأ العلم الحديث بكوبرنيق وفيساليوس. وتضاعفت المساحة المعروفة من الدنيا، وتغير منظر العالم كما لم يتغير قط من قبل في التاريخ المدون. وأخذت المعرفة تنمو سريعاً من حيث المجال والانتشار، وراح استعمال اللغات الوطنية في العلم والفلسفة- على نحو ما فعل باريه وباراسيلسوس في الطب، وراموس في الفلسفة- يتسع فيشمل تعليم الطبقات الوسطى وأفكارها التي اقتصرت من قبل على المتخصصين من العلماء والقساوسة. وتحطمت "كعكة التقاليد"، وانكسر قالب العقيدة، وتهاوت قبضة الاستناد إلى السلف. وحل الإيمان من مراسيه فتدفق بحرية جديدة متخذة أشكالاً لا حصر لها.
كان كل شيء يجري متدفقاً إلا الكنيسة. ووقفت حيناً وسط هذه الثورة حائرة مشدوهة، لا تكاد أول الأمر تدرك خطورة الأحداث. ثم تصدت في عزيمة وتصميم لذلك السؤال الخطير الذي واجهها: أمن واجبها أن تكيف تعاليمها وفق مناخ الأفكار وسيولتها الجديدين، أم تقف جامدة وسط كل التقلبات، وتنتظر حتى يرد بندول الفكر والعاطفة الناس، في تواضع وتعطش، إلى تعزياتها وسلطانها؟ وكان جوابها عن هذا السؤال هو الفيصل في تاريخها الحديث.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق