1334
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> البابوات والمجتمع -> البابوات يكرهون على
الفصل التاسع والثلاثون
البابوات والمجمع
1517-1565
1- البابوات يكرهون على الدفاع
لقد أرجأنا إلى آخر هذا المجلد هذه المهمة الشاقة على كاتب غير كاثوليكي، مهمة فهم رد فعل البابوات للتحدي الذي واجههم به الإصلاح البروتستنتي، ثم وصفه في غير ميل ولا تحيز.
لقد كان رد فعل أول الأمر دهشة متألمة. ولا عجب، فبابوات فترة الإصلاح البروتستنتي، ربما باستثناء واحد، كانوا رجالاً طيبين، على قدر ما يتاح لرجال دولة أن يكونوا، لا مجردين من حب الذات أو خالين من الخطايا، بل في جوهرهم مهذبين رحماء أذكياء، مقتنعين في إخلاص بأن الكنيسة مؤسسة ليست رائعة في إنجازاتها فحسب، ولكنها ما زالت ضرورة لا غنى عنها لصحة الإنسان الأوربي الخليقة وسلامه النفسي. وإذا سلمنا بأن خدام الكنيسة البشريين قد سقطوا في رذائل خطيرة، أفلا نجد عيوباً كهذه أو شراً منها في كل إدارة علمانية؟ وإذا كنا نحجم عن الإطاحة بالحكومة المدنية عقاباً لها على جشع أمرائها واختلاسات موظفيها، فهل يكون إحجامنا أقل من هدم كنيسة ظلت ألف سنة الأم التي غذت الحضارة الأوربية بالدين والتعليم والأدب والفلسفة والفن؟. وأي ضير في أن تبدو بعض العقائد التي رؤى عنها معوان على النهوض بالفضيلة والنظام عسيرة الهضم على المؤرخ أو الفيلسوف- وهل
التعاليم التي يقترحها البروتستنت أكثر منطقاً أو أسهل تصديقاً إلى الحد الذي يبرر أن تقلب أوربا رأساً على عقب بسبب هذا الخلاف؟. إن التعاليم الدينية على أية حال لا يحددها منطق القلة بل حاجات الكثرة، إنها إطار للعقيدة يمكن في نطاقه تنشئة الإنسان العادي الميال بطبيعته إلى ارتكاب عشرات الأفعال غير الاجتماعية، ليكون مخلوقاً يملك من الدربة وضبط النفس ما يكفي لجعل المجتمع والحضارة أمراً ممكناً. ولو أن هذا الإطار حطم، لكان لزاماً بناء إطار آخر، ربما بعد قرون من الفوضى الخلقية والمادية. أليس دعاة الإصلاح البروتستنتي متفقين مع الكنيسة على أه لا جدوى من الدستور الخلقي ما لم يعززه الإيمان الديني؟ أما الطبقات المفكرة فهل تراها حققت أي مزيد من الحرية أو السعادة تحت إمرة الأمراء البروتستنت عنها تحت إمرة البابوات الكاثوليك ؟ ألم يزدهر الفن تحت زعامة الكنيسة، وألا يذوي تحت خصومة المصلحين البروتستنت الذين أرادوا أن ينتزعوا من الناس تلك العصور التي تغذي ما في حياتهم من شعر وأمل؟ وأي مبررات قاهرة تدعو في رأي العقول الناضجة إلى تفتيت العالم المسيحي إلى مذاهب لا تحصى، متنابذة، مبطل بعضها للبعض، عاجزة بمفردها أمام غرائز البشر؟.
إننا لا نستطيع أن نعرف هل كانت هذه مشاعر البابوات المعاصرين لحركة الإصلاح البروتستنتي، لأن القادة النشطين قلّما يذيعون على الناس فلسفاتهم. ولكن لنا أن نتصور الموقف النفسي للبابا ليو العاشر (1513-21) على هذا النحو، إذ وجد البابوية تهتز تحت قدميه بمجرد أن دعي للاستمتاع بها. كان رجلاً يشبه الكثيرين منا-مذنب بالخطيئة وبالإهمال
الإجرامي، ولكنه في جملته جدير بالصفح عنه. كان عادة ألطف الناس وأكثرهم عطفاً، عليه رزق نصف شعراء روما، ومع ذلك فقد لاحق مهرطقي بريشة حتى الموت، وحاول أن يؤمن بأن الأفكار الممزقة للكنيسة يمكن أن تنتزع من البشر بحرق أصحابها. وقد أظهر من الحلم مع لوثر قصارى ما ننتظر من بابا ومن عضو في أسرة مديتشثي، ولنتصور أن الوضع انعكس، وكيف كان البابا مارتن يمحق المتمرد ليو محقاً! لقد حسب ليو حركة الإصلاح البروتستنتي نزاعاً غير مهذب بين رهبان أجلاف. ومع ذلك ففي بواكير عام 1517، وفي بدايته رياسته البابوية، ألقى جيانفرانشسكو بيكو ديللا ميراندولا (ابن أخي بيكو الأشهر منه) أمام البابا والكرادلة خطاباً يسترعي الاهتمام "يرسم فيه بأحلك الألوان ذلك الفساد الذي تسلل إلى الكنيسة" ويتنبأ بأنه "لو أن ليو... أبى إبراء الجراح، فإنه يخشى أن الله نفسه لن يستعمل بعد اليوم علاجاً بطيئاً، بل سيبتر ويبيد الأعضاء المريضة بالنار والسيف"(1). ولكن ليو انصرف على الرغم من هذا الإنذار إلى الاحتفاظ بتوازن للقوى بين فرنسا والإمبراطورية حماية للولايات البابوية. يقول مؤرخ كاثوليكي: "لم يفكر قط في إصلاح على النطاق الواسع الذي أصبح ضرورياً... وظلت الإدارة البابوية في روما دنيوية شأنها في أي وقت مضى(2)".
وخير برهان على أنه لم يعد سبيل للإصلاح إلا أن يأتي بضربة من الخارج هو إخفاق أدريان السادس (1522-23). ذلك أنه سلم بهذه المفاسد واضطلع بإصلاحها في القمة، ولكن أهل روسا سخروا منه وسبوه لأنه يهدد مواردهم من ذهب الأقطار الواقعة وراء الألب. وبعد عامين من النضال ضد هذه الأنانية الجاهلة مات أدريان قهراً.
بيد أن العاصفة المتجمعة تفجرت على رأس كلمنت السابع (1523-34). لقد كان من خيرة البابوات فكراً وخلقاً، رحيماً كريماً، دافع عن اليهود المطاردين، ولم يشارك في الانحلال الجنسي أو المالي المحيط به،
وواصل غلى نهاية حياته المضطربة تغذية الفن والأدب الإيطاليين برعايته الذكية المميزة. ولعل ما حظي به من تعليم رفيع حال بينه وبين أن يكون إدارياً ناجحاً، وكان في ذكائه من الحدة ما أتاح له رؤية المبررات الحسنة لكل مسلك في كل أزمة؛ وأوهن علمه من شجاعته، وأغضبت ذبذباته الدولة تلو الدولة. على أننا لا نملك إلا التعاطف مع رجل توافر له حسن النية الشديد، رجل رأى روما تنهب تحت بصره، ورأى نفسه سجين غوغاء وإمبراطور؛ رجل منعه ذلك الإمبراطور من محاولة الوصول إلى صلح معقول مع هنري الثامن؛ رجل أكره على أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، أن يخسر إما هنري وإنجلترا، وإما شارل وألمانيا؛ رجل قيل له حين احتج على تحالف فرانسوا مع العثمانيين، والقائل هو ذلك الملك. "المسيحي جداً"، إنه إذا بدر منه مزيد من الاحتجاج فإن فرنسا ستطلق البابوية. إن أحداً من البابوات لم يتجرع مثله كأس المنصب حتى هذه الثمالة المرة.
وكانت أخطاؤه وبيلة. فهو حين أساء تقدير خلق شارل وموارده، وبهذا شجع على "نهب روما" أصاب البابوية بلطمة شجعت شمال ألمانيا على نبذ الولاء لروما. وحين توج الرجل الذي أذن بذلك الهجوم فقد احترام العالم، حتى العالم الكاثوليكي. وقد أذعن لشارل من جهة لافتقاره إلى القوة المادية اللازمة للمقاومة، ومن جهة أخرى لخشيته من أن إمبراطوراً أقصاه البابا عن وده قد يدعو مجمعاً عاماً من العلمانيين ومن رجال الدين، ويمسك بزمام السلطتين الكنسية والزمنية جميعاً، ويتم إخضاع الكنيسة للدولة المتمردة، بل ربما يخلعه باعتباره ابناً غير شرعي(3). ولو أتيحت لكلمنت الشجاعة التي أبداها عمه لورنزو مديتشي في نابلي عام 1479، لبادر بدعوة مجمع قد يوفق تحت قيادته المتحررة في إصلاح أخلاقيات الكنيسة وتعاليمها، وفي إنقاذه وحدة العالم المسيحي الغربي.
أما خليفته فقد بدا لأول وهلة حائزاً على جميع شروط الذكاء والخلق. وأقر الجميع بأن أليساندرو فارنيزي، الذي اتخذ اسم بولس الثالث، هو الرجل الصالح لأرفع منصب في العالم المسيحي، فقد ولد في أسرة غنية مثقفة، وتعلم الآداب القديمة على يد بومبونيوس لايتوس، ونضج أديباً إنسانياً وسط أسرة مديتشي بفلورنسة، وقربه بابا أوقعته أخته من قبل في شباك شعرها الذهبي، ورسم كردينالاً في الخامسة والعشرين (1493)، وأثبت كفايته في مهام دبلوماسية عسيرة، وارتقى إلى مقام مرموق وغير منازع في مجمع الكرادلة، ثم انتخب للبابوية بالإجماع في عام 1534. ولم ينل من قدره كثيراً إنجابه أربعة أبناء قبل أن يرسم قسيساً في عام 1519، ومع ذلك فقد ظهر في خلقه، كما ظهر في مجرى حياته العملية، تقلب وتناقضات، وبعض هذا راجع لأنه وقف كعمود مهزوز بين النهضة التي أحبها وبين حركة إصلاح بروتستنتي لم يستطع فهمها أو اغتفارها. ومع أنه كان رفيق البدن، فقد سلخ خمسة عشر عاماً من الزعازع السياسية والداخلية. ومع أنه تزود بكل ثقافة عصره، فإنه كان يلجأ بانتظام إلى المنجمين ليحددوا له أكثر الساعات مواتاة لرحلاته أو قراراته بل ومقابلاته(4). ومع أنه كان رجلاً شديد الحساسية، ميالاً بين الحين والحين غلى نوبات الغضب، فقد كان معروفاً بضبطه لنفسه. وقد وصفه تشلليني-الذي اضطر لإيداعه السجن-بأنهر جل "لا إيمان له بالله ولا بغيره"(5). وهذا يبدو غلواً في الحكم عليه، فما من شك في أن بولس كان يؤمن بنفسه، غلى أن أضعف مسلك ذريته في سنوات عمره الأخيرة إرادة الحياة فيه. وقد عوقب حيث أثم، فقد أعاد محاباة الأقرباء التي كانت طابع بابوية عصر النهضة، وأعطى بياتشنزا وبارما لولده بيرلويجي، وكاميرينو لحفيده أوتافيو، وخلع القبعة الحمراء على ابني أخيه البالغين من العمر أربعة عشر وسبعة عشر عاماً ورقاهما على الرغم
مما ذاع عنهما من فساد خلق. لقد كان يملك شخصية بلا خلق، وذكاء بلا حكمة.
وقد اعترف بعدالة النقد الذي وجهه دعاة الإصلاح البروتستنتي إلى إدارة الكنيسة، ولو كان الإصلاح الكنسي هو العقبة الوحيدة في سبيل المصالحة لجاز أن ينهي حركة الإصلاح هذه. ففي عام 1553 أوفد بيير باولو فرجيريو ليسبر القادة البروتستنت حول حضورهم مجمعاً عاماً، ولكنه أبى أن يعد بالسماح بأي تغيير جوهري في العقيدة المعرفة أو في سلطة البابوات. وعاد فيرجيريو من ألمانيا بخفي حنين، فقد أبلغ البابا أن الكاثوليك هناك انضموا إلى البروتستنت في التشكك في إخلاص البابا في اقتراح عقد المجمع(6)، وأن الأرشيدوق فرديناند شكا من أنه لا يستطيع العثور على أب اعتراف لم يكن زانياً أو سكيراً أو جهولاً(7). وكرر بولس المحاولة في عام 1536، وكلف بيتر فان درفورست أن يتفق مع اللوثريين على شروط عقد مجمع، ولكن ناخب سكسونيا صد بيتر فلم يظفر بشيء. وأخيراً بذل بولس قصارى جهد الكنيسة في الوصول إلى تفاهم مع ناقديها، فأرسل إلى مؤتمر براتسبون الكردينال جاسبارو كونتاريني، وكان رجلاً لا يتطرق الشك إلى إخلاصه في الحركة الكاثوليكية الداعية للإصلاح.
ونحن لا نملك غير العطف على الكردينال الشيخ الذي اقتحم ثلوج الأبنين والألب في فبراير ومارس 1541 وهو يتوق لتتويج حياته بتنظيم السلام الديني. وقد تأثر كل من كان في راتسبون بتواضعه، وبساطته، وحسن نيته. وقد توسط في صبر القديسين بين الكاثوليك إيك وفلوج وجروبر، والبروتستنت ملانكتون وبوكر وبيستوريوس. وأمكن التوصل إلى إنفاق حول الخطية الأصلية، والإرادة الحرة، والعماد، والتثبيت، والرسامة. وفي 3 مايو كتب كونتاريني إلى الكردينال فارنيزي مغتبطاً
"حمداً لله؛ بالأمس وصل اللاهوتيون الكاثوليك والبروتستنت إلى اتفاق حول عقيدة التبرير"، ولكن لم يتيسر الوصول إلى حل وسط مقبول حول سر القربان، فقد أبى البروتستنت الاعتراف بأن في استطاعة قسيس أن يحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وشعر الكاثوليك أن التخلي عن عقيدة التحول هذه معناه التخلي عن صميم القداس وطقوس كنيسة روما. وقفل كونتاريني عائداً إلى روما وقد أضناه الإخفاق والحزن، ليدمغه أتباع الكردينال كارافا المتزمتين في الكثلكة التقليدية بتهمة اللوثرية. ولم يفصح بولس نفسه عن استطاعته قبول الصيغ التي وقع عليها كونتاريني، على أنه استقبله استقبالاً ودياً وعينه ممثلاً للبابا في بولونيا. وهناك مات بعد وصوله بخمسة أشهر.
وأصبحت سياسة الدين أشد اكفهراراً واختلاطاً. وتساءل بولس ألا يظفر الإمبراطور شارل الخامس من وراء تصالح البروتستنت مع الكنيسة بدولة ألمانية موحدة، يسود السلام ربوعها، بحيث تطلق يده في أن يولي وجهة صوب الجنوب، ويربط أملاكه في شمالي وجنوبي إيطاليا بالاستيلاء على الولايات البابوية والقضاء على سلطة البابوات الزمنية؟ أما فرانسوا الأول فإنه لخشيته أيضاً من تهدئة ألمانيا اتهم كونتاريني بالاستسلام المخزي للمهرطقين، وتعهد بتأييد بولس تأييداً كاملاً إن هو رفض في حزم مصالحة اللوثريين(8)-الذين كان فرانسوا يسعى إلى التحالف معهم. ويبدو أن رأي بولس استقر على أن التفاهم الديني سيكون مجلبة خراب سياسي. وفي عام 1538 استطاع بالدبلوماسية البارعة أن ينع شارل وفرانسوا بتوقيع هدنة في نيس، ولما أمن شر شارل في الغرب على هذا النحو حرضه على الهجوم على اللوثريين. وحين قارب شارل الانتصار 1546 سحب بولس الفرقة البابوية التي كان قد أرسلها إليه، لأنه هنا أيضاً أي ارتعد فرقاً من أن يكون في خلاص الإمبراطور من وجود
مشكلة بروتستنتية في مؤخرته ما يغريه بإخضاع إيطاليا كلها لسلطانه. وأصبح البابا بروتستنتياً مؤقتاً، ونظر إلى اللوثرية كأنها حامية إلى البابوية-تماماً كما كان سليمان القانوني حامياً للوثرية. وفي هذه الأثناء كان فرانسوا الأول-درعه الثاني ضد شارل-يحالف العثمانيين الذين هددوا المرة بعد المرة بغزو إيطاليا والهجوم على روما. ولعلنا نغتفر بعض هذا التذبذب لبابا أرهقه الخصوم وأحدقت به المشكلات على هذا النحو، وما من عدة لديه غير حفنة من الجند، ولا دفاع غير إيمان لا يعمر فيما يبدو إلا قلوب الضعفاء. وفي وسعنا أن ندرك ضآلة الدور الذي لعبه الدين في هذه الصراعات على القوة حين نسمع تعليق شارل للسفير البابوي إذ علم أن بولس حول وجهه شطر فرنسا: قال الإمبراطور إن البابا أصابته في شيخوخته عدوى مرض يصيب الناس عادة في شبابهم، هو المرض الفرنسي(9).
ولم يصد بولس البروتستنتية ولا أدخل أي إصلاحات جوهرية، ولكنه نفخ الحياة في البابوية ورد لها عظمتها ونفوذها، وظل إلى النهاية واحداً من بابوات النهضة. فقد شجع جهود ميكل أنجيلو وغيره من الفنانين وأمدهم بالمال، وجمل روما بالمباني الجديدة، وزين الفاتيكان بـ "الصالاريجيا" و "الكابيلاباولينا"، وشارك في حفلات الاستقبال الفخمة، ورحب بالجميلات من النساء على مائدته، واستقبل الموسيقيين والمهرجين والمغنيات والراقصات في بلاطه(10)، وحتى في ثمانيناته لم يكن سليل فارنيزي هذا ليفسد اللعبة على لاعبيها. وقد نقله لنا تيشان في سلسلة من اللوحات القوية. وفي أفضل هذه اللوحات (المحفوظة بمتحف نابلي) يبدو هذا الحبر الأعظم، الذي سلخ من عمره خمسة وسبعين عاماً، محتفظاً بقوته، على وجهه أخاديد حفرتها مشكلات الدولة والأسرة، ولكن رأسه لم ينحن بعد للزمن. وبعد ثلاث سنوات رسم تيشان لوحة لبولس وابني أخيه أوتافيو
والسندرو (محفوظة هي الأخرى بنابلي) كادت تتنبأ بمصيره، فالبابا الذي انحنى الآن ظهره ونال منه الإعياء، يبدو فيها وكأنه يستجوب أوتافيو مستريباً في أمره. ذلك أن بييرلويجي، بن بولس، اغتيل عام 1547، وفي عام 1548 تمرد أوتافيو على أبيه، ودخل في اتفاق مع أعداء بولس ليجعل بارما ولاية إمبراطورية. وأسلم البابا العجوز نفسه للموت (1549) بعد أن هزمه حتى أبناؤه.
وقد أخطأ خليفته في تسمية نفسه بيوليوس الثالث (15500-55)، إذ لم يكن فيه شيء من فحولة يوليوس الثاني ولا قوته ولا أهدافه الطموحة. بل إنه استأنف أساليب ليو العاشر السهلة الهينة، واستمتع بالبابوية في إسراف لطيف، وكأن حركة الإصلاح البروتستنتي ماتت بموت لوثر. فخرج للصيد، واحتفظ بندماء البلاط، وقامر بمبالغ كبيرة، ورعى مصارعات الثيران، ورقى لمنصب الكاردينالية تابعاً له يعنى بنسناسته، وأعطى روما على الجملة آخر رشفة رشفتها من وثنية النهضة سواء في الأخلاق والفن(11). وقد كلف فينولا وغيره بأن يشيدوا له خارج "البورتا ديل بوبولو" بيتاً جميلاً "فيللا دي بابا جوليو" (1553) جعله مركزاً للفنانين والشعراء والاحتفالات. ثم كيف نفسه في هدوء وفق سياسات شارل الخامس. وشكا النقرس في غير أوانه، فحاول علاجه بالصوم، ويبدو أن هذا البابا الأبيقوري مات من الزهد في الطعام(12)، وقيل من الانغماس في اللذات(13).
وجاء البابا مارتشيللوس الثاني، وكان أقرب إلى القديسين. فحياته الخلقية بلا لوم، وتقواه عميقة، واختياره لشاغلي المناصب مثالي، وجهوده لإصلاح الكنيسة مخلصة، ولكنه مات في اليوم الثاني والعشرين من تقلده منصب البابوية (5 مايو 1555).
وكأن الكرادلة أرادوا أن يعلنوا على الملأ أن معارضة الإصلاح
البروتستنتي قد وصلت إلى البابوية، فقلدوها رجلاً كان روح حركة الإصلاح في الكنيسة وصوتها، وهو الناسك جوفاني بييترو كارفا، الذي سمى نفسه بولس الرابع (1555-59). وكان وقد بلغ التاسعة والسبعين ثابتاً على آرائه لا يحيد عنها قيد أنملة، مكرساً نفسه لتنفيذها برسوخ في الإرادة وحدة في العاطفة لا يكادان يناسبان رجلاً في سنه. كتب السفير الفلورنسي يقول: "إن البابا رجل قد من حديد، بل إن الأحجار التي يمشي فوقها تنفث الشرر"(14). كان مولده في بينيفنتو، لذلك حمل حرارة جنوبي إيطاليا في دمه، وبدت النار دائمة التوقد في مقلتيه الغائرتين. وكان في طبعه فورة البركان، ولم يجرؤ على معارضته سوى السفير الأسباني تدعمه فرق الدوق ألفاً. وقد كره بولس الرابع أسبانيا لأنها سيطرت على إيطاليا، وكما حلم يوليوس الثاني وليو العاشر بطرد الفرنسيين، كذلك كان أول أهداف هذا الثمانيني النشيط تحرير إيطاليا والبابوية من السيادة الأسبانية-الإمبراطورية. فاتهم شارل الخامس بأنه ملحد مقنّع(15)، وابن مجنون لأم مجنونة، وشخص "كسيح جسداً وروحاً"(16)، ودمغ الشعب الأسباني بأنه حثالة من الساميين(17)، وأقسم أنه لن يعترف بفيليب والياً على ميلان. وفي ديسمبر 1555 عقد معاهدة مع هنري الثاني ملك فرنسا وإيركولي الثاني أمير فرارة لطرد جميع القوات الأسبانية أو الإمبراطورية من إيطاليا، فإذا تم للحلفاء النصر أخذت البابوية سيينا، والفرنسيون ميلان، وحكموا نابلي بوصفها ولاية بابوية، ووجب عزل شارل وفرديناند لقبولهما شروط البروتستنت في أوجزبورج(18).
وبمهزلة من هذه المهازل التي يمكننا رؤيتها، ونحن على بعد كاف، في مآسي التاريخ، وجد فيليب الثاني نفسه في حرب مع البابوية وهو أشد أنصار الكنيسة غيرة وتحمساً، فأمر الدوق ألفاً على مضض بأن يزحف بجيش نابولي على الولايات البابوية. ولم تمض أسابيع حتى هزم الدوق
بجنوده المتمرسين بالقتال، البالغ عددهم 10.000، قوات البابا الضعيفة، واستولى على المدينة تلو المدينة، ونهب أناني، واستولى على أوستيا، وهدد روما (نوفمبر 1556). وبارك بولس معاهدة بين فرنسا والعثمانيين، ولجأ وزير خارجيته، الكردينال كارلو كارافا، إلى سليمان القانوني ليهاجم نابلي وصقلية(19). وأرسل هنري الثاني جيشاً إلى إيطاليا يقوده فرانسوا دوق جيز، فاستعاد أوستيا، وهلل البابا، ولكن هزيمة الفرنسيين في سان-كنتان أكرهت جيز على العودة برجاله سريعاً إلى فرنسا، وزحف ألفاً على أبواب روما دون مقاومة. وولول أهل روما فرقاً، وودوا لو أن حبرهم الديني الطائش كان نزيل قبره(20)، ورأى بولس أن المزيد من القتال قد يعيد "نهب روما" الرهيب، بل قد يحمل أسبانيا على الانفصال عن كنيسة روما. لذلك وقع في 12 سبتمبر 1557 معاهدة صلح مع ألق، الذي عرض شروطاً سخية، واعتذر عن انتصاره، ولثم قدم البابا المغلوب(21). وردت إلى البابا جميع أراضيه التي سبق الاستيلاء عليها، ولكن السيادة الأسبانية على نابلي وميلان والبابوية تأكدت. وبلغ انتصار الكنيسة على الدولة منتهاه، حتى أن الأمراء الناخبين هم الذين توجوا فرديناند حين تسلم لقب الإمبراطور من شارل الخامس (1558)، ولم يسمح لأي ممثل للبابا بالقيام بأي دور في مراسيم الاحتفال. وهكذا كانت نهاية تتويج البابوات لأباطرة الدولة الرومانية المقدسة، وتحقق آخر المطاف انتصار شارلمان في خلافه مع ليو الثالث.
والآن وقد تخفف بولس الرابع طوعاً أو كرهاً من أعباء الحرب، فإنه فرغ فيما بقي له من فترة بابويته للإصلاحات الكنسية والأخلاقية التي ذكرناها من قبل. وقد توجها بطرد وزيره الإباحي الكردينال كارلو كارافا، وإن جاء هذا الطرد متأخراً، وبنفي ابني أخ آخرين من روما؛ وكانا قد شوها سمعة بابويته. وأجليت عن الفاتيكان أخيراً سبة محاباة الأقرباء التي استشرت فيه قرناً من الزمان.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق