1289
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> سليمان القانوني -> الحضارة العثمانية
4- الحضارة العثمانية
أولاً- الحكومة
هل كان العثمانيون متحضرين؟ الحق أن الانطباع بأن العثمانيين كانوا متبربرين همجيين إذا قورنوا بالمسيحيين ليس إلا وهماً قصد به تقربة الذات. فإن أساليبهم في الزراعة وعلومهم كانت على الأقل تضارع ما كان منها لدى الغرب. فالأرض كان يفلحها مستأجرون من الرؤساء الإقطاعيين، الذين كان عليهم في كل جيل أن يستحوذوا على أراضيهم بخدمة السلطان بطريقة مرضية، في الإدارة وفي الحرب. وباستثناء النسيج والخزف، وربما الأسلحة والدروع، لم تكن الصناعة قد أقامت بعد نظام المصانع، كما كان الحال في فلورنسه وفي فلاندرز، ولكن الحرفيين الأتراك كانوا مشهورين بمنتجاتهم الممتازة. ولم يشعر الأغنياء أو الفقراء بالأسى والحزن
لانعدام النظام الرأسمالي. ولم يبلغ التجار المسلمون في القرن السادس عشر من النفوذ السياسي أو المركز الاجتماعي، ما بلغه نظراؤهم في أوربا الغربية. وتميزت التجارة بين الأتراك بعضهم البعض بالأمانة النسبية، ولكن بين الأتراك والمسيحيين كان المال مستباحاً. وتركت التجارة الأجنبية في معظمها للأجانب. وسارت قوافل المسلمين، في صبر وجلد، على الطرق البرية التي كانت معروفة في العصور القديمة والوسطى، إلى آسيا وأفريقية، حتى عبر الصحراء، وكانت الأنزال الصحراوية، ومعظمها أسسه سليمان، تقدم للتاجر أو السائح أماكن للاستراحة على الطريق. وسيطرت سفن المسلمين حتى سنة 1500 على الطرق البحرية من القسطنطينية والإسكندرية، عبر البحر الأحمر إلى الهند وجزر الهند الشرقية، حيث كان التبادل يتم مع البضائع التي حملتها السفن الشراعية الصينية. وبعد أن فتحت رحلة فاسكودا جاما وانتصارات البوكرك البحرية- فتحت الهند أمام التجار البرتغاليين، فقد المسلمون سيادتهم على المحيط الهندي، ودخلت مصر وسوريا وفارس والبندقية طور اضمحلال تجاري عام.
وكان التركي رجل بر وبحر معاً. وكان اهتمامه بالدين أقل من اهتمام معظم سائر المسلمين، ولكنه كذلك نظر بعين الإجلال والإكبار إلى الصوفية والدراويش والأولياء، واستمد شريعته من القرآن، وتلقى تعليمه في المسجد، ونبذ في عبادته، مثل اليهود، الصور المنحوتة ونظر إلى المسيحيين على أنهم مشركون وثنيون. وكان الدين والدولة شيئاً واحداً، وكان القرآن والسنة هما القانون الأساسي، وكان العلماء الذين فسروا القرآن هم أنفسهم أيضاً المعلمين والمحامين والقضاة ورجال القانون في المملكة. وأمثال هؤلاء العلماء هم الذين جمعوا في عهد محمد الثاني وسليمان الأول مجموعات القوانين العثمانية النهائية.
وكان المفتي، أو شيخ الإسلام، على رأس جماعة العلماء، وكان أعلى
قاض في البلاد بعد السلطان والوزير الأكبر. ولما كان الموت حتماً مقضياً على السلاطين، وكانت جماعة العلماء قائمة دوماً، فإن هؤلاء المشرعين الدينيين هم الذين حكموا الحياة اليومية في الإسلام. ولما كانوا يفسرون الحاضر على أساس من شرائع الماضي، فقد تشبعوا بروح المحافظة وأسهموا في ركود الحضارة الإسلامية بعد وفاة سليمان. وعزز الإيمان بالقضاء والقدر- أو كما يقول قسمة الإنسان أو نصيبه- روح المحافظة هذه : أي أنا حيث أن الله قدر نفس حظها، فإن ضجر الإنسان بما قسم له ضرب من البعد عن الدين والتعمق فيه، فكل شيء في هذه الدنيا، والموت خاصة، هو من أمر الله ويجب الرضا به دون تذمر أو شكوى. وقام بين الحين والحين من ذوى التفكير الحر من يتحدث بصراحة بالغة، ولكن نادراً ما كان يحكم عليه بالإعدام. ومهما يكن من أمر، فإن العلماء عادة أجازوا قدراً كبيراً من حرية الفكر، ولم يكن في تركيا الإسلامية محاكم تفتيش.
وتمتع المسيحيون واليهود في ظل العثمانيين بقدر كبير من الحرية الدينية، وسمح لهم بتطبيق شرائعهم في الأمور التي لا يكون المسلمون طرفاً فيها(27).واحتضن محمد الثاني الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية عمداً، لأن انعدام الثقة المتبادل بين اليونان والروم الكاثوليك أفاد الأتراك في مقاومة الصليبيين. وعلى الرغم من أن المسيحيين انتعشوا تحت حكم السلاطين، فإنهم عانوا ضعفاً شديداً. فقد كانوا في حقيقة الأمر عبيداً أرقاء، ولكن كان في مقدورهم إنهاء الوضع بالدخول في الإسلام، وفعل الملايين منهم ذلك. وأما الذين رفضوا فكانوا مبعدين عن الجيش، لأن الحروب الإسلامية كانت في ظاهرها مقدسة من أجل الكفار إلى الإسلام. وخضع مثل هؤلاء المسيحيين لضريبة خاصة بدلاً من الخدمة العسكرية. وكانوا عادة فلاحين مستأجرين يدفعون عشر إنتاجهم إلى مالك الأرض، وكان
لزاماً عليهم أن يقدموا واحداً من كل عشرة أبناء لهم، حتى ينشأ تنشئة إسلامية في خدمة السلطان.
وكان السلطان والجيش والعلماء هم الدولة. وإذا وجه السلطان النداء، جاء كل رئيس إقطاعي ومعه قواته المجندة ليشكلوا فوق الخيالة الذين بلغ عددهم في عهد سليمان 130.000 رجل. وكان سفير فرديناند ينظر بعين الحسد إلى أبهة تجهيزاتهم: ملابسهم المصنوعة من البروكار (الحرير المقصب) أو الحرير ذي اللون القرمزي أو الأصفر الفاتح أو الأزرق القاتم، وأطقم الخيل التي تتألق بالذهب والفضة والجواهر، فوق أحسن جياد رأتها عينا بوسبك Busbeq وتكونت صفوة المشاة من أبناء الأسرى ودافعي الجزية المسيحيين الذين كانوا ينشئون على خدمة السلطان في قصره، أو في إدارة البلاد، وفوق كل شيء في الجيش، حيث كانوا يسمون الانكشارية أو العسكر الجديد. وكان مراد الأول قد أنشأ هذه الفرقة الفذة (1360)، كوسيلة لتجريد رعاياه المسيحيين من الشباب الذي يحتمل أن يكون مصدر خطر. ولم يكن عددهم كبيراً- نحو عشرين ألفاً في عهد سليمان. وكانوا يتلقون تدريباً عالياً على كل المهارات الحربية، وكان محرماً عليهم الزواج أو الاشتغال بالأعمال الاقتصادية، ويلقنون الروح العسكرية والمجد الحر والعقيدة الإسلامية، وكانوا شجعاناً في الحرب، قدر ما كانوا ساخطين قلقين وقت السلم، وجاء بعد هؤلاء الجنود المتفوقين، الميلشيا (جند الطوارئ)، وكانوا نحو مائة ألف، أشرف السباهي والانكشارية على تدريبهم وتغذيتهم بالروح العسكرية. وكانت الأسلحة المفضلة لا تزال هي القوس والنشاب والرماح، وكانت الأسلحة النارية في بداية استعمالها، وفي الاشتباكات عن قرب كانت القضبان الشائكة والسيوف القصيرة هي المفضلة. وكان الجيش والعلوم العسكرية على عهد سليمان أفضل ما في العالم من نوعهما في ذاك
العصر، ولم يضارع أي جيش آخر جيش سليمان في سلاح المدفعية أو في الخنادق والهندسة العسكرية أو النظام والروح المعنوية، أو في العناية بصحة الجنود، أو في تموين الأعداد الهائلة من الجنود على مسافات بعيدة. ومهما يكن من أمر فإن الوسيلة كانت ممتازة لمجرد خدمة غاية معينة، وأصبح الجيش غاية في حد ذاته، حيث كان لزاماً، للحفاظ على نظامه وكبح جماحه، أن يخوض الحروب، وبعد سليمان أصبح الجيش، والانكشارية فوق كل شيء- سادة على السلاطين.
وكان المجندون الذين تحولوا إلى الإسلام من أبناء المسيحيين يشكلون غالبية الهيئة الإدارية في الحكومة التركية المركزية. وكان حقاً علينا أن نتوقع أن يخشى السلطان المسلم أحاطته برجال يحبون "الزعيم الوطني الألباني" اسكندربرج، ويحنون إلى دين آبائهم، والأمر على النقيض من ذلك، فإن سليمان آثر هؤلاء المتحولين عن دينهم، لأن في الإمكان تدريبهم منذ نعومة أظفارهم على مهام محددة في الإدارة. والأرجح أن بيروقراطية الدولة العثمانية كانت أقدر ما وجد من نوعها في النصف الأول من القرن السادس عشر(28)، ولو كانت عرضة للرشوة بشكل يسيء إلى سمعتها، وضم الديوان- وهو بمثابة الوزارة في الحكومات الغربية- كبار رجال الإدارة تحت رئاسة الوزير الأكبر عادة. وكان لهذا الديوان سلطات استشارية أكثر منها تشريعية. وكانت توصياته تصبح عادة قانوناً بمقتضى قانون أو مرسوم من سلطان. وكانت السلطة القضائية يتولاها القضاة والأئمة (كبار القضاة) من العلماء. ولحظ أحد المراقبين الفرنسيين نشاط المحاكم وسرعة البت في المحاكمات وصدور الأحكام(29)؛ كما اعتقد مؤرخ إنجليزي كبير أن "سير القضاء في عهد الحكام العثمانيين الأولين كان في تركيا أفضل منه في أية بقعة في أوربا، وأن رعايا السلطان المسلمين كانوا أدق نظاماً من معظم
الجاليات المسيحية، وأن الجرائم كانت أندر"(30). وكان الانكشارية يقومون بوظيفة الشرطة في شوارع القسطنطينية التي يحتمل خلوها من حوادث القتل أكثر من أية عاصمة أوربية أخرى(31). وفضلت الأقاليم التي وقعت تحت الحكم الإسلامي- رودس، اليونان، البلقان- فضلت هذا الحكم على أحوالها السابقة في ظل حكم الفرسان أو البيزنطيين أو البنادقة، حتى بلاد المجر نفسها ارتأت أن الأحوال فيها صارت تحت حكم سليمان إلى أحسن مما كانت عليه أيام آل هبسبرج(32).
وكانت معظم مكاتب الإدارة في الحكومة المركزية مستقرة في "السراي" أي المساكن الإمبراطورية- وهي ليست قصراً، ولكن مجموعة مبان وحدائق وساحات، تضم السلطان وحريمه وخدمه ومعاونيه وثمانين ألفاً من البيروقراطية. وكان لهذا النطاق الذي يبلغ محيطه ثلاثة أميال وباب واحد ذو زخرفة رائعة، أطلق عليه الفرنسيون "الباب العالي"، وهو اصطلاح حدث في شيء من لغو الحديث، أن قصد به الحكومة التركية نفسها. وجاء في المقام الثاني بعد السلطان في هذا التنظيم المركزي الوزير الأكبر. وأصل الكلمة عربية ومعناها حامل الأثقال، والحق أن الوزير نهض بأعباء ثقيلة، فكان على رأس الديوان، والبيروقراطية، والقضاء، والسلك الدبلوماسي، كما أشرف على العلاقات الخارجية، وأجرى التعيينات الكبرى، كما قام بأدق المهام الرسمية في أكثر الحكومات الأوربية ولعاً بالرسميات. وأما أشق التزامات الوزير فهي إرضاء السلطان في كل هذه الأمور. حيث كان الوزير عادة مسيحياً ثم أسلم. وبعبارة أدق، هو عبد، ويمكن أن يلقى حتفه دون محاكمة من سيده، واثبت سليمان نفاذ بصيرته وسداد رأيه باختيار وزرائه الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في نجاحه. وكان إبراهيم باشا (إبراهيم الحاكم) يونانياً أسره قراصنة المسلمين وأحضروه إلى سليمان باعتباره عبداً يبشر بحسن المستقبل.
ووجد سليمان أنه متعدد القدرات إلى حد أنه وكل إليه الأكثر فالأكثر من الصلاحيات والمهام، وأجرى عليه راتباً سنوياً قدره 60 ألف دوكات (1.500.000 دولار؟) وزوجه من أخت له، وآكله بانتظام، واستمتع بحديثه ومعزوفاته الموسيقية وبمعرفته باللغات، والآداب، وحسن اطلاعه على أمور الدنيا. وعلى الطريقة الشرقية الأنيقة أعلن السلطان سليمان أن "كل ما يقوله إبراهيم ينبغي أن يعتبر كأنه صادر من ذات فيه الذي ينثر اللآلئ(33). تلك كانت واحدة من أعظم صداقات التاريخ، حتى في أساطير اليونان القديمة.
وثمة حكمة واحدة كانت تعوز إبراهيم- تلك هي أن يخفي زهوه الداخلي بتواضع خارجي أو ظاهري. لقد كان لديه كثير من السباب التي تجعله يزهو بنفسه، فهو الذي سما بالحكومة إلى أعلى درجات المقدرة والكفاية، وبفضل دبلوماسيته هو استطاع أن يشيع الفرقة والانقسام بين دول الغرب بتدبير التحالف مع فرنسا، وهو الذي أعاد الهدوء إلى آسيا الصغرى وسوريا ومصر، حين سار سليمان بجيشه إلى المجر، بإصلاح المساوئ ومعاملة الجميع بالعدل والكياسة. وكذلك كان له العذر في أن يكون حذراً متوجساً، فإنه لم يزل عبداً، وكلما ارتفع رأسه، ازداد رقة ودقة ذلك الخيط المعلق منه سيف السلطان المسلط على رقبته. وقد أغضب الجيش حين حرم عليه سلب تبريز وبغداد، وحاول منعه من سلب بودا. واستطاع في هذا السلب أن ينقذ جزءاً من مكتبة ماتياس كورفينوس، وثلاثة تماثيل من البرونز لهرمز وأبوللو وأرتميز، ووضعها أمام قصره في القسطنطينية، وحتى سيده المتحرر اضطرب لهذه الإساءة الموجهة إلى الوصية السامية بتحريم النحت، واتهمته ثرثرة الناس بامتهان القرآن. وأقام في بعض الأحيان حفلات تفوق في نفقتها وبهائها حفلات السلطان، واتهمه أعضاء الديوان بأنه يتحدث وكأنه يقود السلطان كأسد أليف
موثوق بالقيود. واغتاظت روكسيلانا محظية الحريم من نفوذ إبراهيم، ويوماً بعد يوم، وبفضل إصرار النساء، ملأت أذن الإمبراطور بالشبهات والشكاوي، حتى اقتنع السلطان أخيراً، وفي 31 مارس 1536، وجد إبراهيم مخنوقاً على فراشه، ويحتمل أن يكون ذلك بأمر ملكي. وهذا عمل ينافس في وحشيته إحراق سرفيتس أو بركوين.
وأكثر وحشية من هذا بكثير، قانون قتل الأخوة الإمبراطوريين. وقد عبر عنه محمد الثاني صراحة في سجل القوانين : "إن غالبية المشرعين أعلنوا أن اللامعين من أبنائي الذين يتولون العرش، يكون لهم الحق إعدام اخوتهم تأميناً في الدنيا، وعليهم أن يعملوا طبقاً لهذا"(34). وبهذا حكم محمد الفاتح، في هدوء، بالإعدام على السلالة الملكية ما عدا الكبار منهم. وثمة سيئة أخرى من سيئات النظام العثماني، وهي أن تؤول ممتلكات المحكوم عليه بالإعدام، إلى السلطان الذي كان لذلك دائماً، تحت تأثير الإغراء بتحسين موارده المالية، يصم أذنيه دون أي نداء أو رجاء ولا بد من أن نضيف أن سليمان قاوم هذا الإغراء. وعلى النقيض من مثل هذه المساوئ في الحكم الفردي المطلق، يمكن أن نعترف بديمقراطية غير مباشرة في الحكومة العثمانية، تلك هي أن الطريق إلى للرفعة والمكانة العالية، فيما عدا السلطنة، كان مفتوحاً أمام جميع المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام ومهما يكن من شيء، فربما برهن نجاح السلاطين الأوائل على أن قدرة الأرستقراطية وراثية حيث لم يكن هناك أية حكومة معاصرة احتفظت بمثل هذا المستوى العالي من القدرة والكفاية لأمد طويل، كما كان الحال في العرش العثماني.
ثانياً- الأخلاق
إن تباين الطرق والأساليب عند العثمانيين والمسيحيين أوضح بشكل صارخ التنوع الجغرافي والزمني في القوانين الأخلاقية. فقد ساد تعدد الزوجات بهدوء حيثما كانت المسيحية البيزنطية حديثاً جداً قد اقتضت رسمياً أحادية الزواج، واختبأت المرأة في أروقة الحريم أو وراء برقعها أو خمارها، حيثما كانت يوماً قد اعتلت عرش القياصرة. ولبى سليمان في إخلاص وتفان كل حاجيات حريمه دون شيء من وخزات الضمير التي ربما شوشت أو عززت المغامرات الجنسية الطائشة التي كان يقوم بها فرانسوا الأول أو شارل الخامس أو هنري الثامن أو الإسكندر السادس. إن المدنية التركية. مثل المدنية اليونانية، احتفظت بالمرأة بعيداً عن الأنظار والأضواء، وأجازت قدراً كبيراً من حرية الانحراف الجنسي. إن اللواط عند العثمانيين ازدهر حيثما كانت "الصداقة عند اليونان" قد كسبت يوماً المعارك وألهمت الفلاسفة.
أحل القرآن للأتراك الزواج من أربع بالإضافة إلى عدد من الجواري (في النص الإنجليزي خليلات)، ولكن قلة من الناس تحتمل مثل هذا البذخ والتبذير. وكثيراً ما ابتعد العثمانيون المحاربون عن وزوجاتهم اللائي ألفوا معاشرتهن، واتخذوا وزوجات أو خليلات من أرامل وبنات المسيحيين الذين قهروهم أو غزوا بلادهم، ولم تتدخل في سبيل ذلك أية حزازات عنصرية، فكم لقي أحر الترحاب بأذرع مفتوحة نساء يونانيات أو صربيات أو البانيات أو مجريات أو إيطاليات أو روسيات أو مغوليات أو فارسيات أو عربيات، واصبحن أمهات لأطفال كانوا على قدم المساواة يعتبرون أبناء شرعيين عثمانيين. وكاد الزنى أن يكون غير ضروري في مثل هذه الظروف، وإذا حدث كانت عقوبته صارمة،
فكانت المرأة الزانية تلزم بشراء حمار تركبه وتطوف به المدينة، وكان الزاني يجلد مائة جلدة، ثم يقبل جلادة ويكافئه. وكان الرجل يستطيع أن يطلق زوجته بمجرد الإعلان أو الإفصاح عن قصده (أو أن يقسم يمين الطلاق)، أما الزوجة فلم تكن تستطيع أن تخلص نفسها إلا برفع دعوى معقدة معوقة.
وظل سليمان أعزب حتى سن الأربعين. فمنذ أسر تيمور زوجة بايزيد الأول- والمزعوم أنه هو وبني عشيرته من التتار آذوها وأساءوا معاملتها- فإن سلاطين آل عثمان، لتفادي أية مهانة أخرى مثل هذه، استنوا قاعدة ألا يتزوجوا، وألا يشاركهم فراشهم إلا الجواري(35). وضم حريم سليمان نحو 300 جارية كلهن مشتريات في السوق أو أسيرات في الحرب وكلهن تقريباً من أصل مسيحي. وإذا توقع النسوة زيارة السلطان ارتدين أجمل ثيابهن ووقفن صفوفاً لتحيته، وكان هو يسلم على أكبر عدد منهن، قدر ما يسمح به وقته، ويضع منديله على كتف من نالت إعجابه منهن بصفة خاصة. حتى إذا قضى وطره وانسحب في ذاك المساء، طلب إلى من تلقت المنديل أن تعيده إليه، وفي صباح اليوم التالي كان يهدي إليها ثوب من قماش من ذهب، وتزداد مخصصاتها. وقد يبقى السلطان في الحريم ليليتين أو ثلاثاً ينثر هباته السخية، ثم يعود إلى قصره ليقضي ليله ونهاره بين الرجال. وقلما ظهر النساء في قصره أو أشتركن في الولائم أو الحفلات الرسمية. ومع ذلك اعتبر الانضمام إلى الحريم شرفاً عظيماً. وإذا بلغت أي من نزيلات الحريم الخامسة والعشرين من عمرها دون أن تحظى يوماً بالمنديل، أعتقت. وكانت في العادة تجد وزجاً ذا مكانة عالية. ولم يؤد هذا النظام في حالة سليمان إلى انحلال جثماني، لأنه كان يتميز في معظم الأمور باعتدال رائع.
ولم يكن اختلاط الجنسين سائداً في الحياة الاجتماعية لدى العثمانيين.
ومن ثم كانت تعوزها ما تشيعه فيها فتنة النساء والثرثرة الضاحكة من بهجة. ومع ذلك كان السلوك مهذباً قدر ما كان في المسيحية. وربما كان أكثر تهذيباً من أية بقعة أخرى باستثناء الصين والهند وإيطاليا وفرنسا. وكان عدد الأرقاء المحليين كبيراً، ولكنهم كانوا يعاملون معاملة إنسانية، وكانت ثمة قوانين كثيرة لحمايتهم. وكان إعتاقهم أمراً ميسوراً(36). وعلى الرغم من أن العناية بالصحة العامة كانت قليلة، فإن النظافة الشخصية كانت شائعة. وانتقل إلى تركيا نظام الحمامات العامة الذي يبدو أن الفرس أخذوه عن سوريا الهلينستية. وكانت هذه الحمامات في القسطنطينية وغيرها من المدن الكبرى في الإمبراطورية العثمانية تبنى من الرخام وتزين بزخارف أخاذة. وكان بعض القديسين المسيحيين يفخرون بأنهم تجنبوا استعمال الماء، على حين فرض على المسلمين الوضوء والتطهر قبل الدخول إلى المسجد أو أداء الصلاة. والحق أن النظافة في الإسلام كانت لاحقة للتدين والتقوى. ولم تكن آداب المائدة لديهم أفضل منها في العالم المسيحي، فكان الأكل بالأصابع في أطباق خشبية حيث لم يكن ثمة شوك. ولم تتناول الخمر في المنازل قط،ولكن الكثير منها كان يحتسي في الحانات، ولكن الإدمان عليها كان أقل منه في الغرب(37). واستعمل المسلمون القهوة في القرن الرابع عشر، ولقد سمعنا أول ما سمعنا عنها في الحبشة، ومنها انتقلت إلى شبه الجزيرة العربية، ويقال إن المسلمين استخدموها في الأصل بغية مساعدتهم على دوام اليقظة والتنبه أثناء تعبدهم(38). ولم يرد لها ذكر على لسان أي كاتب أوربي قبل سنة 1592(39).
ومن الناحية الجثمانية كان التركي قوياً متين البنيان، مشهوراً بالجلد وقوة الاحتمال. وكم دهش بوسبك عندما شهد بعض الأتراك يتلقون مائة جلدة على أخمص القدم أو على رسغ القدم، "حتى لتنكسر عليهم أحياناً جملة عصى من خشب القرانيا دون أن تصدر عنهم أية صرخة(40). واحتفظ
التركي دوماً بمظهر الوقار، تساعده ملابسة على إخفاء سخافات البدانة الناتجة عن البطنة. وارتدى عامة الشعب الطربوش، ولف المتأنقون حول عمامة، وكان كلا الجنسين يهوى الأزهار. واشتهرت الحدائق التركية بتعدد الألوان فيها، ومن هناك، فيما يبدو، انتقل إلى أوربا الغربية الليلك والتيولب، والسنط، والغار وغيرها. وكان ثمة ناحية جمالية عند الأتراك، كان من العسير أن تكشف عنها حروبهم. وإنا لندهش مما يرويه السياح الأوربيون من أن الأتراك لم يكونوا، فيما عدا زمن الحرب، "قساة بالطبيعة"، ولكن طيعين، وديعين.... مهذبين، أليفين"، و "شفوقين بصفة عامة"(41). وشكا فرانسيس بيكون من أنهم بدوا أشد رفقاً بالحيوان منهم بالإنسان(42). وما كانت القسوة لتنفجر إلا إذا تهددت سلامة العقيدة، وهنا لم يكن التركي يكظم غيظه أو يحد من انفعاله، بل كانت تثور ثائرته.
وكان التشريع التركي صارماً في الحرب بصفة خاصة. فلم يؤخذ أي عدو بأية رحمة أو هوادة، وكانوا يبقون على حياة النساء والأطفال، أما الأعداء القادرون الأشداء فقد يذبحون، ولو لم يكونوا مسلحين أو لم يقاوموا، وحتى دون أن يقترفوا إثماً(43). ومع ذلك فإن كثيراً من المدن التي استولى عليها الأتراك نهضت أكثر مما نهضت المدن التركية التي استولى عليها المسيحيون. من ذلك أن إبراهيم عندما استولى على تبريز وبغداد 1534، حرم على جنوده سلب المدينتين أو إيذاء سكانهما. كذلك، عندما انتزع سليمان تبريز ثانية 1548، حماها من السلب والنهب أو الذبح، ولكن عندما استولى شارل الخامس على تونس 1535 لم يستطع دفع رواتب جنوده إلا بإباحة السلب والنهب.ومهما يكن من شيء فإن القانون التركي نافس القانون المسيحي في العقوبات الوحشية، فقطعت يد السارق حتى تقل قدرته على السرقة(44).
وكانت الأخلاق الرسمية بمثل ما كانت عليه في العالم المسيحي. فكان الأتراك يفخرون بوفائهم لكلمتهم وعهودهم، وحافظوا على بنود الامتيازات التي منحوها لأعدائهم، ولكن رقيب الآداب التركي، مثل نظيره- سانت جون كابسترانو مثلاً- كان يرى أنه ليس ثمة وعد أو عهد يلزم المؤمن بشيء يتعارض مع مصلحة أو واجبات دينه، وأن السلطان يمكنه أن يبطل المعاهدات التي عقدها هو أو أسلافه(45). وذكر السياح المسيحيون أن التركي العادي يتسم "بالأمانة وروح العدل....حب الخير والنزاهة والإحسان"(46). ولكن الأتراك أصحاب الناصب كانوا عادة يرتشون بسهولة، ويضيف مؤرخ مسيحي، أن معظم الموظفين الأتراك كانوا مسيحيين من قبـل(47)، ولكن يجدر بنا أن نضيف شيئاً آخر، وهو أنهم ربوا تربية إسلامية. فالباشا التركي في ولايته، مثل البروقنصل (حاكم الإقليم)، الروماني، كان يبادر إلى جمع الثروة، قبل أن تثور وساوس سيده فيستبدل به شخصاً غيره. إنه كان يتقاضى من رعاياه الثمن الذي كان قد دفعه لتعيينه. وكان بيع المناصب شائعاً في القسطنطينية أو القاهرة، قدر شيوعه في باريس أو روما.
ثالثاً- الآداب والفنون
كانت تهيئة السبل لتحصيل العلوم والمعارف أو نقلهما هي أضعف حلقة في الحضارة العثمانية. وكان التعليم الشعبي مهملاً بصفة عامة. وضآلة العلم والمعرفة أمر خطير. وكان التعليم على الأغلب مقصوراً على الطلاب الذين يقصدون إلى دراسة التربية أو القانون أو الإدارة، وكانت مناهجها طويلة قاسية. وقضى محمد الثاني وسليمان وقتاً طويلاً في إعادة تنظيم المدارس وتحسينها. ونافس الوزراء سادتهم السلاطين في إغداق الهبات على هذه الكليات أو المدارس الملحقة بالمساجد. ونعم المدرسون في هذه
المعاهد بمراكز اجتماعية ومالية أعلى من نظرائهم في العالم المسيحي اللاتيني. وكانت محاضراتهم تنصب رسمياً على دراسة القرآن، ولكنهم سعوا كذلك إلى دراسة الآداب والرياضيات والفلسفة، ولكن خريجيهم، ولو أنهم كانوا أكثر تحصيلاً في فروع الدين منهم في العلوم، ساروا جنباً إلى جنب مع الغرب في الهندسة وفن الحكم.
وكانت قلة ضئيلة من السكان فقط تعرف القراءة، ولكن هؤلاء تقريباً كانوا ينظمون الشعر، ولا يستثنى من ذلك السلطان سليمان نفسه، وكان الأتراك- مثل اليابانيين- يعقدون مسابقات عامة يتلو فيها الشعراء ما جادت به قرائحهم، وكان السلطان سليمان يطيب له، مجاملة وكياسة منه- أن يرأس مثل هذه المباريات الشعرية. ولقد كرم الأتراك مائة شاعر في هذا العصر، ولكن انغمارنا في عظمتنا ومصطلحاتنا نحن، تركنا جهلة، لا نعلم شيئاً حتى من أمر شاعرهم الغنائي العظيم محمود عبد الباقي الذي شهد أربعة عهود، لأنه وإن كان في سن الأربعين عندما توفي سليمان، فإنه عمر بعده أربعة وثلاثين عاماً. وقد تخلى عن مهنته القديمة، وهي السراجة ليعيش على شعره. وكان من المحقق أن تعضه الحاجة بأنيابها لو لم يسعفه سليمان بوظيفة لا عمل فيها، وجمع سليمان المدح إلى الكسب، فنظم قصيدة يثنى فيها على تفوق شعر عبد الباقي، ورد عبد الباقي الدين فكتب مرثية قوية يندب فيها موت سليمان، وعلى الرغم من أن الترجمة نفقد رواءها بالتماس المحافظة على تعدد القوافي في الأصل، فقد يتكشف فيها بعض الانفعال والروعة:
أمير فوارس الحظ، يا من لفرسه الجرىء المعد للقتال،
حيثما كر أو فر كان مقيداً، كانت له الأرض كلها ساحة نزال!
أنت يا من لبريق سيفه أحنى المجرى رأسه!
أنت يا من يعرف الفرنجة حق المعرفة وميض شارته المخيف!
مثل ورقة الورد الغضة وضع وجهه برفق في التراب،
فتلقته الأرض، الخازن الأمين، وأودعته كالجوهرة في حرز.
الحق أنه كان إشعاعة المكانة الرفيعة والمجد العظيم،
الشاه، الاسكندر وعليه إكليل دولة دارا المسلحة،
وأمام التراب الذي تحت قدميه أحنى الكون رأسه خفيضاً.
وبمثابة مقام العبادة على الأرض كان باب جناحه الملكي.
لقد جعلت أصغر هباته من أحقر متسول أميراً،
فاق في الندى والجود، وفي الرحمة والرأفة أي ملك......
لقد لاقى من هذا الكون الحزين المتقلب نصباً، فلا تحسبه،
وهو بجوار ربه قد تخلى عن مكانته وعن مجده.
أي عجب إذا لم تر أعيننا شيئاً من الحياة أو من الدنيا بعد ذلك!!
إن جماله البارع، مثل الشمس والقمر، قد أفاض على الأرض نوراَ...
فلتبك الآن سحب الدم قطرة قطرة، ولتنحن خفيضة!!
وبهذا الألم المبرح الحزين فلتمطر عيون النجوم دمعاً سخياً مريراً،
ودخان زفرات القلوب يظهر أن السماء الحالكة السواد تحترق...
إن الطائر، أي روحه، قد طار عالياً إلى السموات مثل الهامة،
ولم يخلف وراءه سوى قليل من العظام على الأرض تحته...
وليكن خالداً مجد خسرو في السموات العلى !!
ولتنزل رحمة الله على نفس الملك وروحه- ووداعاً!!(48).
وكان الأتراك في شغل شاغل بغزو الدول القوية إلى حد أنهم لم يجدوا فسحة من الوقت للفنون الدقيقة التي كان الإسلام حتى الآن قد اشتهر وتميز بها. وقد أنتج الأتراك منمنمات تميزت ببساطة التصميم وسعة التفكير في الأسلوب. أما التصوير التشخيصي أو التمثيلي فقد ترك للمسيحيين المفترين
الذين ظلوا في هذا العصر يزينون جدران كنائسهم وأديارهم باللوحات الجصية، فنرى مانويل بانسلينوس- الذي ربما استعار بعض الحوافز من الصور الحائطية الإيطالية في عصر النهضة- قد زين بالجص كنيسة بروتاتون على جبل آثوس (1535-1536)، برسوم أكثر انطلاقاً وجرأة ورشاقة من رسوم العصور البيزنطية. واستقدم السلاطين فنانين من الغرب والشرق- جنتيل بالليني من البندقية، وشاه فالى، ووالي جان ، وهما من رسامي المنمنمات في فارس الهرطوقية. وفي التربيعات المطلية لم يكن الأتراك في حاجة إلى مساعدة خارجية، فقد استخدموها إلى درجة تبهر الأبصار، واشتهرت مدينة ازنيق (بآسيا الصغرى) بصناعة الخزف، وتخصصت أشقودرة وبروسة، وهيريك في آسيا الصغرى في المنسوجات، فقد ترك البروكار (المقصبات) والقطيفة- بما فيهما من رسوم الأزهار في اللونين القرمزي والذهبي- التي أخرجتها هذه المدن، أثراً شديداً وانطباعاً قوياً في رسامي البندقية والفلاندرز. وكان السجاد التركي يعوزه البريق الشاعري الذي تميز به السجاد الفارسي، ولكن طرزه الفخمة وألوانه الدافئة أثارت الإعجاب في أوربا. وقد أغرى كلبير ملكيه لويس الرابع عشر بأن يأمر النساجين الفرنسيين بتقليد بعض قطع السجاد في القصر السلطاني في تركيا. ولكن دون جدوى، لأن تفوق المسلمين في هذه الصناعة ظل بعيداً عن متناول المهارة الغربية.
وبلغ الفن التركي ذروته في مساجد القسطنطينية (لم يطلق على المدينة اسم اسطنبول رسمياً إلا في سنة 1930). ففي تاريخ فارس أو التاريخ الإسلامي، لم يضارع عظمة عاصمة سليمان، حتى ولا مدينة مشهد مع فخامة عمائرها المزدحمة، ولا أصفهان في عصر الشاه عباس، ولكن ربما ضارعتها برسوبوليس على عهد كورش. فإن مساجد الآستانة اقتسمت مع الله غنائم العثمانيين في انتصاراتهم، وهي آثار تعبر، في وقت معاً، عن
التقوى والزهو وعن تصميم السلاطين على إرهاب شعبهم بالفن قدر إرهابه بالأسلحة. ونافس سليمان جده محمد الفاتح في تشييد سبعة مساجد تتفق مع جلاله وعظمته، وفاق أحدها، وهو الذي حمل اسمه (1556) كنيسة أيا صوفيا في جمالها، حتى في محاكاته إياها في مجموعة القباب الصغرى المحيطة بالقبة الرئيسية الوسطى، على أن المآذن هنا، تلك التي ارتفعت مقصورات الآذان الثلاث فيها إلى ارتفاع رهيب، كانت بمثابة إضافة متألقة تتطابق مع القاعدة الضخمة. أما الداخل فكان كنزاً مربكاً من الزخرفة: نقوش ذهبية على الرخام أو الخزف وأعمدة من الحجر السماقي، وعقود من الرخام الأبيض أو الأسود، ونوافذ من الزجاج الملون في إطار من حجر مشجر، والمنبر المحفور وكأنه وقف على مدى الحياة. وربما كان بذخاً أكثر مما ينبغي إجلاله، وتألقاً أكثر مما ينبغي لمقام الصلاة. إن الذي وضع تصميم هذا المسجد وسبعين مسجداً أخرى ألباني اسمه سنان، وقيل إنه عاش إلى سن العاشرة بعد المائة.
رابعاً- سليمان نفسه
إن الغرب هو الذي أطلق على سليمان لقب "العظيم"، ولكن شعبه هو الذي سماه "القانوني" أي جامع القوانين، بسبب مساهمته في تدوين القانون العثماني. ولم يكن مهيباً أو عظيماً في مظهره، ولكن في حجم تجهيزات جيوشه، وفي مدى اتساع حملاته، وفي زينة عاصمته، وفي تشييد المساجد والقصور، والقناطر المائية المشهورة، عظيماً في روعة كل ما يحيط به وفي حاشيته، ثم عظيماً بطبيعة الحال في قوة حكمه، وفي كل ما وصل إليه أو حققه. ووصلت إمبراطوريته من بغداد إلى مدى تسعين ميلاً من فيينا، و120 ميلاً من البندقية ملكة الأدرياتيك السابقة. وباستثناء فارس وإيطاليا،
كانت كل المدن التي زخرت بألوان المعرفة اليهودية والمسيحية أو المعرفة القديمة، داخلة في نطاق ملكه: قرطاجة، ممفيس، صور، نينوى، بابل، تدمر، الإسكندرية، بيت المقدس، أزمير، دمشق، أفسوس، نيقية، أثينا، وطيبة اليونانية. ولم يضم الهلال قط يوماً، مثل هذه البقاع والبحار الكثيرة في منحناه الأجوف.
وهل كان تفوق حكمه يتناسب مع أتساعه؟ يحتمل أن يكون الجواب سلبياً، ولكن ينبغي أن نقرر هذا عن أية مملكة مترامية الأطراف، فيما عدا فارس في عهد الأخمينيين، وروما في عصر الأنطونينيين. إن الرقعة المحكومة كانت شاسعة إلى حد يتعذر معه إدارتها من مركز واحد قبل ظهور وسائل المواصلات والنقل والطرق الحديثة. لقد دب الانحلال والفساد في الحكومة، ومع ذلك قال لوثر: "يقال إنه لم يكن ثمة حكومة زمنية أفضل من حكومة الأتراك"(49). وفي مجال التسامح الديني كان سليمان أجرأ وأكرم من أنداده المسيحيين الذين ذهبوا إلى أن الانسجام الديني أمر ضروري للقوة الوطنية. ولكن سليمان رخص للمسيحيين واليهود في ممارسة ديانتهم في حرية تامة، وقال الكاردينال بول "إن الأتراك لا يلزمون الآخرين باعتناق عقيدتهم، ولهذا الذي لا يهاجم ديانتهم، أن يفصح عن أية عقيدة يعتنقها، وهو آمن"(50). وفي نوفمبر 1561 حين كانت إسكتلنده وإنجلترا وألمانيا اللوثرية تعتبر الكثلكة جريمة، كما كانت إيطاليا وأسبانيا تعتبران البروتستانتية جريمة، أمر سليمان بالإفراج عن سجين مسيحي، "غير راغب في تحويل أي فرد عن دينه بالقوة"(51). لقد جعل من إمبراطورية مأوى آمناً لليهود الفارين من محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال.
لقد اتضحت عيوبه في علاقاته العائلية أكثر منها في حكومته. والجميع متفوقون على أنه- برغم حروبه التي بررها بأنها هجوم من أجل الدفاع- كان رجلاً مهذباً، رحيماً كريماً إنسانياً، عادلاً(52). ولم يعجب به
شعبه فحسب، بل أحبه كذلك. وكان إذا ذهب إلى المسجد يوم الجمعة، لزم الناس الصمت التام عند مروره، وانحنى هو تحية لهم جميعاً- أيا كانوا يهوداً أو مسيحيين أو مسلمين- وكان يقضي في المسجد ساعتين. ولم نسمع عنه أنه كان يلازم الحريم إلى الحد الذي يضعف من صحته وقوته، مثل ما حدث لبعض السلاطين من بعده، ولكنا نجده شديد الإحساس سريع التأثر بانفعالات الحب، حتى إنه لينسى ما تقتضيه مكانه من حكمة وحذر وعدل، بل عاطفة الأبوة وحنانها.
وفي أوائل حكمه كانت محظيته الأثيرة لديه جارية شركسية تعرف باسم "وردة الربيع" اتسمت بهذا الجمال الأسمر المليح التقاطيع، الذي تميزت به لعدة قرون نساء الأقاليم الواقعة حول الطرف الشرقي للبحر الأسود. وأنجبت له هذه المرأة طفلاً، وترعرع الطفل مصطفى حتى أصبح شاباً جميلاً قادراً محبوباً. وعهد إليه سليمان بعدة مناصب وتبعات هامة، ودربه ليكون وريثاً للعرش قدر ما يكون جديراً به. ولكن في أثناء هذا الحب، ظهرت في الأفق "خوريم"- "أي الضاحكة"- وهي أسيرة روسية أطلق عليها الغرب "روكسيلانا" كسبت قلب السلطان وانتزعته من محظيته الشركسية. وبقى السلطان ثملاً بجمال خوريم ومرحها وإغوائها وخداعها حتى اكتملت فصول الرواية ووقعت المأساة. وكسر السلطان القاعدة التي استنها الحديثون من أسلافه، واتخذها وزوجة (1534)، وابتهج أيما ابتهاج بما أنجبت له من بنين وبنات. ولكن لما كبرت سن السلطان وبات متوقعاً أن يعتلي مصطفى عرش أبيه، أوجست خوريم خيفة على مصير أبنائها، الذين يمكن أن يلقوا حتفهم، قانوناً، على يد السلطان الجديد. ونجحت في تزويج ابنتها من رستم باشا الذي أصبح الوزير الأكبر في 1544، وكان عن طريق زوجته يشاطر خوريم مخاوفها من سطوة مصطفى في المستقبل.
وكان مصطفى، في نفس الوقت، قد أرسل لتولي حكم ديار بكر،
واشتهر ببسالته ولباقته وكرمه، واستخدمت خوريم كل مواهبها وتأثيرها في تحطيمه، وألقت في روع سليمان أن مصطفى يحاول أن يكسب شعبية، تطلعاً منه إلى انتزاع العرش. واتهم رستم باشا الشاب بأنه يتودد سراً إلى الانكشارية ليقفوا إلى جانبه، وساور الشك السلطان المنهوك الذي كان آنذاك في التاسعة والخمسين من عمره، وزاد ارتيابه، ثم تولاه العجب، وأخيراً آمن بصحة ما زعموا، فذهب بنفسه إلى إرجلي Eregli، ودعا مصطفى إلى خيمته، وما أن ظهر حتى عاجله بضربة أودت بحياته (1553). عند ذاك وجدت خوريم ورستم باشا أن من اليسير إغراء السلطان بقتل ابن مصطفى لئلا يحاول الثأر لأبيه، وعين سليم ابن خوريم أميراً ووريثاً للعرش، وماتت خوريم راضية مطمئنة (1558)، ولكن بايزيد، وهو أخو سليم، الذي وجد أن مصيره المحتوم هو الذبح، أعد جيشاً يتحدى به أخاه، واشتعلت نيران الحرب الأهلية، وهزم بايزيد وفر إلى فارس (1559). ولكن الشاه طهماسب، لقاء ثلاثمائة ألف دوكات من سليمان ومائة ألف من سليم، سلم المناضل من أجل العرش، وشنق بايزيد (1561)، كما أعدم أبناؤه الخمسة محافظة على الأمن الاجتماعي. ويروى أن السلطان المتألم توجه إلى الله بالشكر والحمد على موت هذه الذرية المزعجة، وعلى أنه يستطيع الآن أن يعيش في سلام(53).
ولكن السلطان وجد السلام أمراً لا يحتمل، وأطال التفكير فيما ترامى إليه من أنباء تقول بأن فرسان القديس يوحنا الذين اقتلعهم من رودس، عادت إليهم قوتهم في مالطة، وأنهم كانوا ينافسون قراصنة الجزائر في غاراتهم الضارية وفكر السلطان ملياً، وهو آنذاك في سن الحادية والسبعين، هل في الإمكان أن تصبح مالطة جزيرة إسلامية، ومن ثم يكون البحر المتوسط حرماً آمناً للمسلمين. وفي أبريل 1564 أرسل أسطولاً مكوناً من 150 سفينة عليها ألف رجل ليستولوا
على الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجي. وقاتل الفرسان ببسالتهم المعهودة تحت قيادة الداهية البارع جان دي لافالت، واستطاع الأتراك الاستيلاء على حصن سانت إلمو بتضحية ستة آلاف رجل، ولم يستولوا على شيء بعده، وأرغمهم وصول الجيش الإسباني على رفع الحصار.
وما كان السلطان العجوز المهيب، سليمان القانوني، ليختم حياته بهذه الخاتمة المرة. وكان مكسيمليان الثاني الذي خلف فرديناند على عرش الإمبراطورية قد منع الجزية التي تعهد الوالد بدفعها للسلطان، وهاجم المخافر الأمامية التركية في هنغاريا، وقرر السلطان القيام بحملة أخرى فقط، وصمم على أن يقودها بنفسه (1566). وسار بمائة ألف رجل عبر صوفيا ونيش وبلغراد، وفي ليلة 5-6 سبتمبر، وفي أثناء حصار حصن زيجتفار، أسلم السلطان الروح، وهو منتصب في خيمته. وكان مثل فاسبازيان، مزهواً بنفسه إلى حد لا يرتضي معه أن يموت وهو راقد. وفي 8 سبتمبر سقط الحصن،، ولكن الحصار كلف الأتراك حياة 30 ألفاً من الرجال. وكان الصيف مدبراً، فعقدت الهدنة، وعاد الجيش أدراجه حزيناً مغموماً إلى القسطنطينية لا يحتمل معه النصر بل جثمان الإمبراطور.
هل ينبغي لنا أن نصدر على سليمان حكماً ونضعه في المرتبة التي يستحقها؟ إننا إذا قارناه بنظرائه في الغرب لوجدناه في بعض الأحيان أكثر تمدناً وحضارة، وفي أحيان أخرى أكثر همجية ووحشية. ومن بين الحكام الأربعة الكبار في هذا النصف الأول من القرن السادس عشر، يستوقف نظرنا فرانسوا على أنه أكثرهم تمدناً وحضارة، على الرغم من غروره المتهور واضطهاداته المترددة، على أنه مع ذلك نظر إلى سليمان على اعتباره حاميه وحليفه الذي بدونه كان يمكن أن يحطم، إن سليمان حالفه في صراعه الذي استمر طوال حياته مع الغرب. فالحق أن الإمبراطور مكسيمليان الثاني استأنف دفع الجزية للباب العالي 1568؛ وأن شارل الخامس
كان قد أوقف تقدم السلطان عند فيينا، ولكن أي جيش مسيحي جرؤ على الاقتراب من القسطنطينية؟ لقد كان سليمان سيد البحر المتوسط، وبدا لبعض الوقت أن روما ظلت مسيحية لأنه هو وبربروسه سمحا بذلك.أن السلطان حكم إمبراطوريته حكماً صالحاً يتسم بعدم التحيز، ولكن كان نجاحه أكبر بكثير من شارل المسكين الذي كان يناضل ضد تمزيق ألمانيا بين الأمراء، وكان سليمان حاكماً مطلقاً مستبداً، بحكم العرف الذي لا نزاع فيه وبرضا شعبه، فهل حظي استبداد هنري الثامن في إنجلترا أو شارل في إسبانيا بمثل هذا الحب والثقة من الشعب؟ وكان شارل لا يكاد يكون قادراً على إصدار حكم الإعدام على ابنه لمجرد الارتياب في خيانته، ولكن شارل في شيخوخته كان يرسل الصيحات مطالباً بدم الهراطقة، واستطاع هنري أن يبعث بالزوجات وبالكاثوليك وبالبروتستانت إلى المشنقة أو المحرقة، دون أن يتخلف وجبة واحدة عن طعامه. أما التسامح الديني عند سليمان، ولو كان محموداً ، فإنه بالمقارنة، يصم مثل هذا إعدام بوصمة الهمجية والوحشية.
لقد شن سليمان حروباً كثيرة، وذبح نصف ذريته، وأمر بذبح وزير مبدع دون إنذار أو محاكمة، إنه ارتكب الأخطاء التي تلازم السلطة المطلقة غير المحدودة، ولكنه كان أعظم وأقدر حكام عصره دون منازع.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق