1337
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> النهضة والإصلاح البر
كلمة ختامية
النهضة، والإصلاح البروتستنتي، والتنوير
إن النهضة والإصلاح البروتستنتي هما ينبوعا التاريخ الحديث، والمصدران المتنافسان للتجديد الفكري والخلقي الذي طرأ على الحياة الحديثة. وقد ينقسم الناس حسب ميولهم وانتسابهم هنا، حسب دينهم الواعي الذي يدينون به للنهضة التي أطلقت العقل من عقاله وأضفت الجمال على الحياة، أو حسب عرفانهم بصنيع الإصلاح البروتستنتي الذي شحذ الإيمان الديني والحس الخلقي. والخلاف بين إرزمس ولوثر متصل، وسوف يتصل، لأن الحقيقة التي قد يصل إليها الناس في هذه الأمور الكبيرة هي ثمرة الجمع بين الأضداد، وستشعر هذه الحقيقة دائماً بأبوتها المزدوجة.
ويمكن القول إن الخلاف من بعض النواحي سلالي وجغرافي، خلاف بين اللاتين والتيوتون، بين الجنوب الحسي الطلق والشمال الجلد المعتم، بين شعوب هزمت على يد روما وتلقت منها التراث الكلاسيكي، وشعوب قاومت روما-وبعضها هزم روما-وأحبت جذورها وأرضها أكثر كثيراً من اليونان جالبي المواهب أو الرومان حاملي القانون. لذا قسمت إيطاليا وألمانيا فيما بينهما تشكيل النفس الحديثة، وإيطاليا بالرجوع إلى الأدب والفلسفة والفنون الكلاسيكية، وألمانيا بالرجوع إلى الإيمان والشعائر المسيحية الأولى. وكانت إيطاليا على وشك النجاح في محاولتها الثانية لغزو ألمانيا-بالعشور والمذهب الإنساني هذه المرة؛ ولكن ألمانيا قاومت ثانية، وطردت الكنيسة وأسكتت الإنسانيين. وأنكرت حركة الإصلاح البروتستنتي النهضة واهتمامها بالشئون والمباهج الدنيوية، وعادت إلى تلك الناحية (وهي ناحية واحدة فقط!) من نواحي العصور الوسطى التي عدت إنجازات البشر ومباهجهم تافهة باطلة، ووصفت الحياة بأنها واد
للدموع، ودعت الخطاة إلى الإيمان والتوبة والصلاة. فأما إيطاليو النهضة الذين قرأوا مكيافللي وأريتينو، فقد رأوا في هذا انتكاساً إلى العصور الوسطى، وعوداً إلى عصر الإيمان في مرحلة المراهقة المناضلة التي يمر بها عصر العقل. وقد ابتسم الإيطالي الذي استمع إلى يومبوناتزي، وعاش تحت حكم بابوات النهضة الهين اللين، حين وجد لوثر وكالفن هنري الثامن يحتفظون بكل العقائد الخارقة التي اتسم بها الإيمان الوسيط-كتاب مقدس من إملاء الله، وإله مثلث الأقانيم، وإيمان بالقضاء والقدر، وخليقة خلقت بأمر إلهي، وخطيئة أصلية، وتجسد، وولادة من عذراء، وتكفير، ودينونة أخيرة، وجنة ونار-ثم يرفضون بالضبط عناصر المسيحية الوسيطة-كعبادة العذراء، والإيمان بإله ملؤه المحبة والرحمة، وتوسل إلى القديسين الشفعاء، والطقوس التي تزدان بكل الفنون-تلك العناصر التي أضفت على ذلك الإيمان رقة وعزاءً وجمالاً يبرر التغاضي عن الأساطير تغاضياً سمح بالاستمتاع بالفنون.
كان الكاثوليكي الصادق الإيمان حجته ضد حركة الإصلاح البروتستنتي. فهو أيضاً يكره العشور، ولكنه لا يستطيع أن يتصور القضاء على الكنيسة. لقد كان عليماً بأن الرهبان أخذ يفلت زمامهم، ولكنه شعر بأنه ينبغي أن يفسح في الدنيا مكان ومؤسسات لرجال انقطعوا للتأمل والدرس والصلاة، وكان يقبل كل كلمة من الكتاب المقدس بشرطين: أن ناموس المسيح أبطل ناموس موسى، وأن للكنيسة سلطاناً مساوياً لسلطان الكتاب لأن مؤسسها هو ابن الله، ويجب أن يكون لها الحق النهائي في تفسير الكتاب والملائمة بينه وبين حاجات العيش المتغيرة. وماذا تكون النتيجة لو أن فقرات من الكتاب ملتبسة متناقضة في ظاهرها تركت ليفسرها كل فرد تفسيراً حراً ويحكم عليها كما يشاء. أفلا تمزق مئات العقول الكتاب إرباً، وألا تتحطم المسيحية وتتبدد شيعاً مقتتلة لا حصر لها؟.
ويواصل الكاثوليكي العصري الحجة مروراً بكل ناحية من نواحي الحياة العصرية فيقول "لقد كان إصراركم على الإيمان دون الأعمال مدمراً، فأفضى إلى دين توارت برودة القلب فيه خلف ورع العبارة، وكاد البر أن يموت طوال مائة عام في مراكز انتصاركم. ولقد قضيتم على سر الاعتراف وخلفتم مئات التوترات في نفوس البشر الذين تتنازعهم الغريزة والحضارة، وها أنتم أولاء تعيدون متأخرين ذلك النظام الشافي تحت أشكال مريبة. ولقد دمرتم جل المدارس التي أنشأناها، وأضعفتم الجامعات التي أسستها الكنيسة وطورتها حتى أشرفتم بها على الموت. إن قادتكم يسلمون بأن تمزيقكم الإيمان أدى إلى تدهور خلقي خطر في ألمانيا وإنجلترا. فلقد أطلقتم على الناس فوضى من الفردية في الأخلاق والفلسفة والصناعة والحكم. ولقد انتزعتم من الدين كل بهجته وجماله، وملأتموه بدراسة الشياطين وبالرعب، وحكمتم على الجماهير الكبيرة من الناس باللعنة الأبدية لأنهم "مرفوضون"، وعزيتم قلة وقحة بفخر "الاختيار" والخلاص. لقد خنقتم نمو الفن، وحيثما انتصرتم ذبلت الدراسات القديمة. لقد صادرتم أملاك الكنيسة لتعطوها للدولة والأغنياء، ولكنكم تركتم الفقراء أفقر مما كانوا، وأضفتم الاحتقار إلى فقرهم وتعاستهم. لقد تغاضيتم عن الربا والرأسمالية، ولكنكم حرمتم العمال أيام الراحة المقدسة التي منحتهم إياها كنيسة رحيمة. لقد رفضتم البابوية لا لشيء إلا لتمجدوا الدولة، وأعطيتم الأمراء الأنانيين حق تقرير ديانة رعاياهم، واستخدام الدين سنداً لحروبهم. لقد فرقتم بين الأمة والأمة، وقسمتم كثيراً من الأمم والمدن على ذواتها؛ لقد حطمتم الضوابط الأدبية الدولية على القوى القومية، وخلفتم فوضى من القوميات المقتتلة. لقد أنكرتم سلطان كنيسة أسسها ابن الله باعترافكم، ولكنكم أقررتم الملكية المطلقة، ومجدتم حق الملوك الإلهي. ودمرتم وأنتم لا تدرون
قوة "الكلمة"، وهي البديل الوحيد لقوة المال أو السيف. وادعيتم حق الحكم الشخصي، ولكنكم أنكرتموه على غيركم حالما أمكنكم هذا، وكان رفضكم التسامح من المنشقين أقل وضوحاً للإفهام من رفضنا، لأننا لم ندافع قط عن التسامح، فليس في وسع إنسان أن يتسامح إلا في الأشياء التي لا يبالي بها. ثم انظروا ما أفضى إليه حكمكم الشخصي هذا. فكل رجل يصبح بابا. ويحكم على تعاليم الدين قبل أن يبلغ من العمر ما يتيح له فهم وظائف الدين في المجتمع والأخلاق، وحاجة الناس إلى إيمان ديني. وإن ضرباً ن جنود التمزيق والتفريق لا تكبحه أي سلطة مجمّعة موحّدة يلقي بأتباعكم في منازعات بلغ من سخفها وعنفها أن الناس راحوا يتشككون في الدين كله، وكادت المسيحية ذاتها تصبح في خطر الانحلال، وكاد الناس يتركون في عرى روحي أمام الموت، لولا وقوف الكنيسة صامدة وسط كل تقلبات الرأي والجدل، وكل مستحدثات العلم والفلسفة، لولا أنها تحفظ قطيعها الذي التأم شمله، منتظرة ذلك الوقت الذي يخضع فيه المتفهمون منكم، والمسيحيون الحقيقيون، كبرياء الفردية والعقل لحاجات البشر الدينية، ويعودون إلى الحظيرة الوحيدة القادرة على صون الدين برغم الايديولوجيات المجدفة التي راجت في هذا العصر الشقي".
ترى أيستطيع البروتستنت الرد على هذا الاتهام؟ "يجب ألا ننسى السبب في إنشقاقنا. فلقد فسدت كنيستكم الكاثوليكية سواء في ممارستها أو في أشخاصها، وكف قساوستكم عن أداء وظائفهم، وكان أساقفتكم متعلقين بنعيم الدنيا، وبابواتكم معرة العالم المسيحي؛ ألا يعترف مؤرخوكم بهذا؟ لقد طالبكم رجال أمناء بأن تلحوا ما فسد، محتفظين بولائهم للكنيسة؛ فوعدتم وتظاهرتم بالإصلاح، ولكنكم لم تفعلوا، بل إنكم على العكس من ذلك أحرقتم بالنار رجالاً من أمثال هس وجيروم البراغي لأنهم رفعوا عقائرهم مطالبين بالإصلاح. لقد بذلت مئات الجهود
لإصلاح الكنيسة من الداخل، ولكنها أخفقت، إلى أن أكرهتكم حركة إصلاحنا البروتستنتي على العمل؛ وحتى بعد ثورتنا أصبح البابا الذي حاول تطهير الكنيسة مثار هزأ روما وسخريتها.
"إنكم تتباهون بأنكم خلقتم النهضة، ولكن الكل مجمعون على أن النهضة كانت تنبعث وسط فساد خلقي، وعنف، وخيانة، لم تعرفها أوربا منذ عهد نيرون؛ أفلم نكن محقين في الاحتجاج على هذه الوثنية، التي تختال عجباً حتى في الفاتيكان؟ وإذا سلمنا أن الأخلاق انحدرت حينا بعد أن بدأت حركة إصلاحنا، فإن إعادة بناء حياة خلقية بليت أسسها وخدماتها الدينية استغرق بعض الوقت، وأخيراً أصبحت أخلاقيات البلاد البروتستنتية أسمى بكثير من أخلاقيات فرنسا وإيطاليا الكاثوليكيتين. قد ندين بيقظتنا الذهنية للنهضة، ولكنا ندين بشفائنا الخلقي لحركة الإصلاح البروتستنتي، فقد أضافت دعم الخلق إلى تحرير العقل، ثم إن نهضتكم اقتصرت على الأرستقراطية والمفكرين، لقد احتقرت الشعب، وأغضت عن خداع باعة صكوك الغفران لأفراده، وعن غش مستغلي الخرافات من المتظاهرين بالنسك. أو لم يكن خيراً تحدى هذا الاستغلال المالي الصارخ لآمال البشر ومخاوفهم. لقد رفضنا الصور والتماثيل التي بثثتموها في كنائسكم، لأنكم كنتم تسمحون للناس أن يعبدوا الصور ذاتها، كما كان يحدث حين فرضتم عليهم الركوع أمام الدمى المقدسة المحمولة في مواكب تخترق الشوارع. أما نحن فقد جرؤنا على إرساء ديانتنا فوق إيمان قوي نشيط، بدلاً من محاولة تخدير عقول الناس بالطقوس.
"وقد اعترفنا بأن السلطة الزمنية من عند الله-كما اعترف لاهوتيوكم من قبلنا-لأن النظام الاجتماعي يتطلب حكومة محترمة. ولم نرفض سلطة البابوات الدولية إلا بعد أن استعملوها استعمالاً فاضحاً، لا للحكم بالعدل بين الأمم بل لخدمة مآربهم المادية. وعجز بابواتكم الأنانيين عن توحيد
أوربا في حملة صليبية ضد العثمانيين يدل على أن خيانة البابوية حطمت وحدة العالم المسيحي قبل حركة الإصلاح البروتستنتي بزمن طويل. ومع أننا أيدنا حق الملوك الإلهي، فإننا أيضاً شجعنا نمو الديمقراطية في إنجلترا واسكتلندة وسويسرة وأمريكا، في حين كان قساوستكم في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا يخضعون للملوك؛ وقد حطم تمردنا على سلطة كنيستكم تعويذة الحكم المطلق، وهيأ أوربا لمسائلة كل ألوان الاستبداد دينية كانت أو علمانية. إنكم تعتقدون أننا جعلنا الفقراء أفقر مما كانوا. ولكن هذه أيضاً كانت مرحلة عابرة، فالرأسمالية ذاتها التي استغلت فقر الفقراء حيناً تعلمت أن تغني الرجل المتوسط كما لم يغن من قبل؛ وما من ريب في أن مستوى المعيشة في إنجلترا وألمانيا وأمريكا البروتستنتية أعلى منه في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا الكاثوليكية.
"وإذا كنتم اليوم أقوى مما كنتم بالأمس، فإنما الفضل في هذه القوة لنا. فماذا كان يحدث لو لم تكرهكم حركة الإصلاح البروتستنتي على إصلاح الإدارة البابوية، وإنقاذ أكليروسكم من التسري، وتنصيب رجال مؤمنين على كرسي البابوية بدلاً من الوثنيين؟ ولمن تدينون بالفضل لما يتمتع به أكليروسكم اليوم من سمعة النزاهة؟ المجمع ترنت؟ ولكن لمن تدينون بالفضل في مجتمع ترنت إن لم يكن لحركة الإصلاح البروتستنتي؟ فلولا ذلك الضابط لواصلت كنيستكم انحدارها من المسيحية إلى الوثنية حين ينتهي الأمر بتتويج بابواتكم على عالم لا أدري أبيقوري. وحتى مع هذا التجديد الذي فرضناه على كنيستكم، فإن الشعوب التي تقبل عقيدتكم أشد إهمالاً للدين، وتشككاً في المسيحية، من الشعوب التي اعتنقت الإصلاح البروتستنتي؛ ويكفي أن تقارنوا بين فرنسا وإنجلترا.
ولقد تعلمنا أن نوفق بين تديننا وبين حرية العقل، وأقطارنا البروتستنتية هي التي شهدت أعظم ازدهار للعلم والفلسفة. ونحن نأمل
أن نلائم بين مسيحيتنا وبين تقدم المعرفة-ولكن أنى يتيسر هذا لكنيسة ترفض كل علم القرون الأربعة الماضية؟".
وهنا يتدخل الإنسان في المناقشة، فيهدم البيتين جميعاً على رأسه. هذا فخر البروتستنتية وضعفها، فهي تستهوي العقل، الذي لا يفتأ يتغير، أما قوة الكاثوليكية ففي رفضها أن تكيف نفسها وفق نظريات العلم، التي تثبت من الخبرة التاريخية أنها قلّما تعيش بعد القرن الذي ولدت فيه. إن الكاثوليكية تستهدف إشباع مطالب الناس الروحية، الناس الذين قلّما سمعوا بكوبرنيق وداروين، ولم يسمعوا قط بسبينوزا وكانت؛ وهؤلاء الناس كثيرون خصيبون، ولكن أنى لدين يتحدث إلى العقل، ويتمركز حول العظة، أن يكيف نفسه وفق كون آخذ في الاتساع، كون أصبح فيه الكوكب الذي ادعى أنه تلقى ابن الله نقطة عابرة في الفضاء، وليس النوع الذي مات من أجله سوى لحظة في مشهد الحياة الدائم التغيير؟ وما الذي يحدث للبروتستنتية إذا أخضع الكتاب الذي اتخذتها أساسها الوحيد والمعصوم للنقد "الأعلى" الذي يحيله من كلمة الله إلى أدب العبرانيين وإلى تحول المسيح في لاهوت بولس الصوفي؟.
"ليست المشكلة الحقيقية التي تواجه العقل الحديث ذلك الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ولا بين الإصلاح البروتستنتي والنهضة؛ إنها بين المسيحية والتنوير-هذه الحقبة التي ليس من اليسير تحديد تاريخها، والتي بدأت بفرانسس بيكن، وعقدت آمالها على العقل والعلم والفلسفة. وكما كان الفن ركيزة النهضة، والدين روح الإصلاح البروتستنتي، فكذلك أصبح العلم والفلسفة إلهي التنوير، ومن وجهة النظر هذه كانت النهضة تسير في الخط المباشر للتطور العقلي الأوربي، وأفضت غلى الاستنارة، أما حركة الإصلاح البروتستنتي فكانت انحرافاً عن ذلك الخط، ورفضاً للعقل، وتأكيداً جديداً للإيمان الوسيط.
"ومع ذلك فإن حركة الإصلاح البروتستني برغم تعصبها في أول عهدها أسدت صنيعين لحركة التنوير، فقد حطمت سلطان العقيدة، وبعثت عشرات الملل والنحل التي لو وجدت قبلها لماتت حرقاً، وسمحت بأن يقوم فيما بينها جدل كان من القوة بحيث اعترف في النهاية بأن العقل هو المحكمة التي يتعين على جميع المذاهب أن تترافع أمامها عن قضاياها ما لم تكن مسلحة بقوة مادية لا تقاوم. وفي تلك المرافعة، في ذلك الهجوم والدفاع، تضعضعت كل المذاهب والعقائد، ولم ينقض قرن على تمجيد لوثر للإيمان حتى أعلن فرانسيس بيكن أن المعرفة قوة. وفي ذلك القرن السابع عشر بعينه قدم المفكرون من أمثال ديكارت وهويز وسبينوزا ولوك الفلسفة بديلاً للدين أو أساساً له، وفي القرن الثامن عشر جهر هلفتيوس وهولباك، ولا متري بالإلحاد، ونعت فولتير بالتعصب لأنه آمن بالله. هذا هو التحدي الذي واجهته المسيحية، في أزمة أعمق كثيراً من الجدل بين الترجمة الكاثوليكية والبروتستنتية لعقيدة العصر الوسيط. والجهد الذي بذلته المسيحية للبقاء برغم كوبرنيق وداروين هو المسرحية الأساسية للقرون الثلاثة الأخيرة. فليت شعري أي قيمة لصراعات الدول والطبقات بالقياس إلى تلك المعركة الفاصلة الكبرى، هرمجدون النفس الأسبانية؟".
والآن إذا نلقي إلى الوراء بنظرة على هذه القصة المتعرجة التي روتها هذه الصفحات الألف، ندرك أننا نستطيع التعاطف مع جميع الأطراف المقاتلة. نستطيع أن نفهم غضب لوثر على فساد روما وتسلطها، وكره الأمراء الألمان أن يروا العطايا الألمانية تسمن إيطاليا، وعزم كالفن ونوكس على بناء جماعات خلفية مثالية، ورغبة هنري الثامن في أن يكون لملكه وريث، وأن يكون له على مملكته سلطان. ولكنا نستطيع أن نفهم أيضاً آمال إرزمس في إصلاح لا يسمم العالم المسيحي بالحقد، ونستطيع أن نشعر بفزع الأتقياء من أساقفة روما مثل كونتاريني مما يحتمل من تمزيق
كنيسة ظلت القرون حاضنة وحارسة للحضارة الغربية، وما زالت أمنع حصن ضد فساد الخلق والفوضى واليأس.
إن شيئاً من هذه الجهود لم يضع سدى. فالفرد يستسلم للموت، ولكنه لا يموت إذا خلف للبشرية شيئاً. لقد عاونت البروتستنتية في الوقت المناسب على تجديد حياة أوربا الخلقية، وطهرت الكنيسة نفسها فغدت منظمة أضعف سياسياً وأقوى خلقياً مما كانت. وثمة درس واحد ينبعث ويعلو فوق دخان المعركة. وهو أن الدين يكون في أفضل حالاته إذا اضطر للعيش في ظروف المنافسة؛ هو ينزع إلى التعصب متى وحيثما افتقر إلى التحدي وغدا السيل الأعلى. وأعظم ما جادت به حركة الإصلاح البروتستنتي هو تزويدها أوربا وأمريكا بتلك المنافسة الدينية التي تشحذ همة كل مذهب، وتنبه إلى التسامح، وتهب عقولنا الهشة لذة الحرية وامتحانها.
تشجع أيها القارئ! فلقد قاربنا النهاية.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق