1305
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الأدب في عصر رابليه -> العلماء
3- العلماء
كانت المهمة المميزة للجامعات والأكاديميات والعلماء الإنسانيين في عصر النهضة هي جمع تراث العالم القديم، عالم اليونان والرومان، وترجمته ونقله إلى جيل الشباب في أوربا الحديثة. وقد أنجزت هذه المهمة على وجه رائع، وكان الكشف عن وحي العالم القديم كاملاً.
بقي رجلان يجب أن يخلد ذكرهما كاهنين لهذا الوحي، وأول الرجلين هو جيوم بوديه، الذي بلغ الثانية والستين وهو يعطل النفس بأن يجعل باريس وارثة للدراسات الإنسانية الإيطالية، ثم رأى هذا الأمل يتحقق
حين أنشأ فرانسوا الكلية الملكية. وقد بدأ بوديه دراساته في كبره بدرس القانون، فظل زهاء عشر سنوات يدفن نفسه في "قوانين جستنيان". ورغبة في تفهم هذه النصوص تفهماً أفضل، وهي لاتينية اللغة بيزنطية المعاني، راح يدرس اليونانية على يوحنا لاسكارس، ويدرسها في إخلاص وتفان حملا مدرسه عند رحيله أن يوصي له بمكتبته الثمينة العامرة بالكتب اليونانية. فلما نشر وهو في الحادية والأربعين كتابه (1508) Annotationes in xxlv libros Pandectarum توفرت للمرة الأولى في فقه النهضة، دراسة لخلاصة جستنيان تستهدف هذه الخلاصة ذاتها وبيئتها، بدلاً من أن تنحيها هوامش الشراع لعباراتها. وبعد ست سنوات أصدر أثراً جليلاً آخر من آثار البحث العميق (De asse et Partibus) وهو في ظاهرة نقاش للعملات والمقاييس القديمة، ولكنه في حقيقته درس شامل للأدب القديم فيما يتصل بالحياة الاقتصادية. وأوقع من هذا "تعليقاته على اللغة اليونانية" (1529)، وهو كتاب مفكك الترتيب، ولكنه بالمعلومات والإرشادات المعجمية، بحيث وضع بوديه على رأس جميع الهيلنستيين الأوربيين. وأرسل له رابليه خطاباً أعرب فيه عن احترامه وتقديره. أما إرزمس فكانت تحيته له أنه غار منه. لقد كان إرزمس رجل دنيا ولم يكن الدرس إلا جزءاً من الحياة عنده، أما بوديه فكان الدرس والحياة عنده شيئاً واحداً. كتب يقول "إن فقه اللغة هو الذي ظل طويلاً رفيقاً وشريكاً لي، بل كان لي الخليلة التي ارتبطت بي بكل مواثيق الحب... ولكنني اضطررت إلى إرخاء ربط هذا الحب الذي ينهشني... حتى يكاد يدمر صحتي(21)". وكان يحزنه أن يضطر إلى اقتناص بعض الوقت من دراساته ليأكل وينام. وفي لحظات لهوه تزوج وأنجب أحد عشر طفلاً. وفي الصورة التي رسمها له جان كلويه (المحفوظة بمتحف الفن المتروبولتاني في نيويورك) تبدو عليه مسحة من تشاؤم.
ولكن فرانسوا الأول لا بد قد وجد فيه شيئاً من الحيوية لأنه عينه أميناً لمكتبة فونتنبلو، وكان يحب أن يكون هذا العالم العجوز قريباً منه حتى في رحلاته. وفي إحدى هذه الرحلات مرض بودي بالحمى، وقد ترك تعليمات دقيقة بألا يصحب جنازته أي احتفال. وفارق هذه الدنيا في هدوء (1540). أما الأثر الذي خلده فهو كلية فرنسا.
ولم تكن باربس إبان حياته قد استوعبت بعد الحياة الثقافية لفرنسا. كان للدراسات الإنسانية اثنا عشر وطناً فرنسياً: منها بورج وبوردو ومونبلييه، وأهم من هذه كلها ليون، التي امتزج فيها الحب والدراسات الإنسانية، ونساء الطبقة الراقية والأدب، امتزاجاً ساراً مبهجاً. وفي آجن، التي ما كان أحد ليبحث فيها عن إمبراطور، هيمن يوليوس قيصر سكاليجر على مسرح فقه اللغة بعد موت بوديه هيمنة الإمبراطور المستبد. ولعل بادوا مسقط رأسه (1484). وقد وفد على آجن وهو في الحادية والأربعين، وفيها عاش حتى مات (1558). وكان كل العلماء يخشون بأسه لشدة تمكنه من لغة القدح اللاتينية، وقد اكتسب شهرة حين هاجم إرزمس لغضه من شأن "الشيشرونيين" أي المتمسكين بلاتينية شيرون دون غيرها. وانتقد رابليه، ثم انتقد دوليه لانتقاده رابليه. وفي مجلد من كتابه Exercitationes فحص كتاب جيروم كاردان De subtilitate وأخذ على عاتقه أن يثبت أن كل ما أكده الكتاب زائف، وكل ما أنكره صحيح. وكان كتابه في النحو اللاتيني أول أجرومية لاتينية مبنية على مبادئ علمية. أما تعليقاته على أبقراط وأرسطو فممتازة، سواء من حيث أسلوبها أو من حيث إسهامها في العلم. وكان ليوليوس خمسة عشر طفلاً أصبح أحدهم أعظم علماء الجيل التالي. وقد أسهم كتاب يوليوس Poetice الذي نشر بعد موته بأربع سنوات، وما قام به ولده من دراسات، وما أثر به الإيطاليون الذين
تبعوا كاترين مديتشي إلى فرنسا-كل هذا أسهم في تحويل تيار الدراسات الإنسانية الفرنسية وردها من الدراسات اليونانية إلى اللاتينية.
وقد أهدت حركة إحياء الدراسات اليونانية للثقافة عطاءً ممتازاً هو ترجمة أميو لكتاب بلوتارخ "التراجم". كان أميو أحد الرجال الكثيرين الذين حظوا برعاية مارجريت. وقد عين بنفوذها أستاذاً لكرسي اليونانية واللاتينية في بورج. وكوفئ على ترجماته لدافنيس خلوا وغيرها من قصص الحب اليونانية، على طريقة ذلك العصر العجيبة السخية، بمنحه رئاسة دير غني. وإذ كفل له الرزق على هذا النحو تنقل كثيراً بين أرجاء إيطاليا إرضاء لميوله الأثرية واللغوية. ولما نشر كتابه "التراجم" (1559) قدم له بدعوة بليغة لدراسة التاريخ بوصفه "خزانة البشرية"، والمتحف الذي يحتفظ بمئات الأمثلة للفضيلة والرذيلة، وللحكم الصالح والطالح، ليسترشد بها بنو البشر؛ وكان كنابليون يرى كتاب بلوتارخ في التاريخ معلماً للفلسفة خيراً من الفلسفة ذاتها. ومع هذا فقد اضطلع بعد هذا بترجمة كتاب بلوتاريخ Moralia أيضاً، وقد رقي إلى أسقفية أوجزير، ومات هناك معمراً في الثمانين (1539). أما لترجمته لكتاب بلوتارخ "التراجم" فلم تكن صحيحة دقيقة في كل جزء منها، ولكنها كانت أثراً أدبياً في ذاته، تميز بأسلوب طبيعي فردي لا يقل عن أسلوب الأصل. أما تأثيره فكان هائلاً. وقد استمتع به مونتيني أيما استمتاع، وانصرف عن فرنسا القديس بارتلميو إلى هذا الأثر القديم الذي أضفت عليه الترجمة روعة وسموا. واختار شكسبير ثلاث تمثيليات من ترجمة نورث القوية المنقولة عن ترجمة أميو، وأصبح المثال الذي رسمه بلوتارخ للبطل نموذجاً حاكاه عشرات الثوار وكتاب المسرحيات. وأعطى هذا الكتاب Vies des hommes illustres للأمة مجمعاً من الأبطال المشهورين خليقاً بأن يحرك ما تنطوي عليه الروح الفرنسية من الفضائل الأكثر رجولة وأشد قوة.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق